قصيدة «موطني» لإبراهيم طوقان: شعر من فلسطين إلى القلب العربي

يستمع المرء إلى أغنية موطني، فيسأل من صاحب هذه الكلمات التي تستقر في القلب ولا تغادره؟ من هو الشاعر الذي نظم هذه الأبيات الخالدة وصاغ هذا النشيد الخلاّب؟ الذي يتغنى بحب الوطن بلا تشنج ونفاق، وأحاسيس مزيفة صمّاء. هذه الأغنية الوطنية تتحدث إلى سامعها بلغة صادقة رقيقة، تلامس مشاعر كل فرد تجاه وطنه وارتباطه بأرضه، وبلحن هادئ شفيف لا يسعى إلى تهييج الناس، ليندفعوا في اتجاه معين بعقل غائب. ترّق النفس إلى هذه الأغنية وتطمئن إليها، رغم التوجس الذي خلقه تاريخ طويل من الخداع، والغش والتضليل والتلاعب بالعقول بواسطة سلاح الأغاني الوطنية، يعيد المرء الاستماع إلى أغنية موطني مرة ثم مرات، فيتأكد من نقاء معانيها، وخلو كلماتها من أي أهداف أو رسائل خبيثة، ومع الإمعان في الإصغاء إليها لا يزداد إلا اطمئناناً وتعلقاً بها.

إبراهيم طوقان وأمير الشعراء

هي كلمات من فلسطين، كتبها الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، ولحنها الموسيقار اللبناني محمد فليفل سنة 1934، وهي النشيد الوطني لفلسطين قديماً، والنشيد الوطني للعراق حالياً. وإبراهيم طوقان شاعر فلسطيني كبير رحل مبكراً، ولم يمهله القدر لينظم المزيد من شعره الرائع، لكنه رغم ذلك ترك ديواناً بديعاً ثرياً، متنوعاً في قصائده ومواضيعه. عاش هذا الشاعر صاحب الكلمة العبقرية والوجدان الرقيق، في الفترة من سنة 1905 إلى سنة 1941، ما يعني أنه لم يشهد عام 1948 الأسود، إلا إنه كان شاهداً على بدايات المأساة وغزو العصابات الصهيونية، والخطوات الأولى في تنفيذ المخطط الجهنمي للاحتلال الإسرائيلي، وبدايات المقاومة أيضاً والتصدي للاعتداء والمؤامرة، التي دُبرت للاستيلاء على أرض فلسطين. وله مجموعة من القصائد التي تكشف عن وعي سياسي كبير، ومن المعروف أن إبراهيم طوقان ينتمي إلى عائلة فلسطينية عريقة، ونال في حياته تعليماً راقياً. كما أنه كان يحيا في زمن عربي متقدم ومتطور، يعترف بقيمة العلوم والفنون والآداب، ويسمح لهم بالوجود، ويتيح لهم المكان ويمنحهم المكانة اللائقة، وكان هذا الزمن أيضاً يزخر بالأعلام والأسماء الكبرى من الشعراء والفنانين والكتاب والأدباء، فقد كان إبراهيم طوقان معاصراً لأمير الشعراء أحمد شوقي، بل كان يعارضه ويعاتبه، ويناكفه أحياناً بالمشاغبات اللطيفة، وقد يشعر المرء أحياناً عندما يطالع ديوان إبراهيم طوقان، بأنه يقرأ لأمير آخر في فلسطين، ولا يعني ذلك أنه كان مقلداً لشوقي، وإنما يعني أنه كان عظيماً.

ولشوقي مكان في شعر إبراهيم طوقان، إذ يذكره في قصيدة بعنوان «الشاعر المعلم» كتبها سنة 1933، وفيها يقول: «شوقي يقول وما درى بمصيبتي.. قم للمعلم وفه التبجيلا.. اقعد، فديتك، هل يكون مبجلاً.. من كان للنشء الصغار خليلا؟ ويكاد يفلقني الأمير بقوله كاد المعلم أن يكون رسولا.. لو جرب التعليم شوقي ساعة. لقضى الحياة شقاوة وخمولا» هذه القصيدة غاية في الظرف، وتعكس خفة ظل الشاعر الشاب الذي كان يعمل معلماً، وتحتوي على الكثير من الأبيات المضحكة، خصوصاً في نهايتها. لكنها تطرح موضوعاً جاداً في الوقت نفسه، وتصف آلام من يقوم بهذه المهمة الشاقة في كل زمان ومكان. وكما كان لشوقي مكان في شعر إبراهيم طوقان، كان لمصر أيضاً مكانها، وكان يعاتبها كما يعاتب شوقي وشعراءها الآخرين، فيقول في قصيدة بعنوان «عتاب إلى شعراء مصر»: «وتسامى صرح العروبة في مصر.. وهل غيركم له أركان؟ كم بلاد تهزكم ليس فيها.. لكم جيرة ولا إخوان.. خطبنا لا يهز شوقي ولكن.. جاء روما فهزه الرومان.. خطبنا لا يهز حافظ إبراهيم.. لكن تهزه اليابان». كان الشاعر محباً لمصر وهو القائل في القصيدة نفسها: «وإذا بالقلوب تهفو على النيل.. ظماء يودي بها الخفقان». لكنه كان يريد من مصر المزيد من الحب، وكان يُذكر شعراءها بما يجب أن يكون، أن تتطلع العيون والقلوب إلى فلسطين دائماً، أن لا ينشغل الفكر عن فلسطين، أن لا تُنسى فلسطين.

هذا العتاب نجده دائماً في قصائده عن مصر، ومهما تغزل في أرض الكنانة وعدّد محاسن الجمال فيها في ذلك الزمن، فإنه لا ينسى أن يُذكر أهلها بفلسطين وبأواصر القربي والارتباط العصي على التفكك. زار الشاعر مصر سنة 1931 وكتب قصيدة بديعة بعنوان «تحية مصر» يقول فيها: «قالوا شفاؤك في مصر وقد يئسوا.. مني وأعيا سقامي من يداويني.. خلّفتُها بلدة يعقوب خلَّفَها.. شوقاً ليوسف قبلي فهو يحكيني». ويصف الشاعر في بقية أبيات القصيدة، مصر التي كانت مليئة بالحياة والفنون والجمال، والتقدم والازدهار في كافة الميادين، أما العتاب فكان في قوله: «أحب مصر ولكن مصر راغبة.. عني فتعرض من حين إلى حين».

لم يكن إبراهيم طوقان متصلاً بمصر وحدها، كان متصلاً بالشام أيضاً وبالمغرب وبسائر بلدان العرب، ما يدل على عمق شعوره العربي والارتباط بأمته. وعند قراءة ديوانه، وفي خضم تلك الرحلة الممتعة، نجد أشعاراً رائعة عن الشام، وأبياتاً على وجه الخصوص، تلامس جرحاً هائلاً لم يكن يعلم الشاعر أنه سيكون يوماً ما، وأن المأساة الكبرى ستكون في سوريا، يقول طوقان في قصيدة بعنوان «ذكرى حمية أهل الشام»: «هذه شيمة الكرام بني الشام.. سَمت همة وطابت فعلاً.. عربي إباؤكم أموي.. لا أباد الزمان تلك الخلالا.. كل جرح أصابكم حلّ منّا.. في صميم القلوب يأبى اندمالا». ويقول أيضاً في قصيدة بعنوان «حريق الشام» كتبها سنة 1928: «لهفي على الشام وسكانها.. لهفة ظامي الروح حرّانها». ويقول كذلك في قصيدة بعنوان «ذكرى دمشق»: لا ترعك الخطوب يا ابنة مروان.. ولوذي بالله والفتيان.. الشباب النضير والأمل الثابت.. خلان كيف يفترقان». كما نجد في ديوانه قصيدة بعنوان «فتية المغرب» يقول فيها: «فتية المغرب هيا للجهاد.. نحن أولى الناس بالأندلس.. نحن أبطال فتاها ابن زياد.. ولها نرخص غالي الأنفس.. قف على الشاطئ وانظر هل ترى.. لهب النار وآثار السفين.. يوم لا طارق عاد القهقري.. لا ولا آباؤنا أُسد العرين». ويقول في موضع آخر من القصيدة: «يا فتى المغرب سلها من بنى.. ذراها الحمراء تسمع عجبا.. فأعدها لذويها وطناً.. تحسد الدنيا عليه العربا».

نشيد القلب العربي

يتسم شعر إبراهيم طوقان بجمال الوزن والقافية، وصياغتهما بشكل لا يسبب الملل للقارئ، بالإضافة إلى وضوح المعنى والعبارة وحسن تخير الألفاظ، والقدرة على التأثير في النفوس، وفي شعره حيوية الشباب وقوة الأمل والحماس، والوعي الكبير بهموم الوطن والأمة. وإلى جانب قصيدة موطني، كتب إبراهيم طوقان الكثير من القصائد عن فلسطين، التي تشغل جزءاً كبيراً من ديوانه أو أغلبه تقريباً، ونظم الأبيات الخالدة عن الفدائيين والمقاومين والشهداء والأبطال الأحرار، ورد على شعراء وكتاب الصهاينة، وألف أجمل القصائد عن نابلس ورمان كفر كنا والقدس، وصاغ أناشيد أخرى غير نشيد موطني، كنشيد «وطني أنت لي» ونشيد «فلسطين». وفي هذه الأشعار نجد وصفاً للشخصية الفلسطينية المقاومة، منذ ذلك الزمن وحتى الآن وإلى أن تُسترد أرض فلسطين كاملة محررة، ويتحدث عن الشهداء بما تراه العين ونعاصره حالياً، فيقول: «عبس الخطب فابتسم.. وطغى الهول فاقتحم.. رابط الجأش والنهى.. ثابت القلب والقدم». ويقول: «لا تقل أين جسمه واسمه في فم الزمن.. إنه كوكب الهدى لاح في غيهب المحن». ويقول في قصيدة «الفدائي»: «لا تلوموه قد رأى منهج الحق مظلما.. وبلاداً أحبها ركنها قد تهدما.. وخصوما ببغيهم ضجت الأرض والسما».

كثيرة هي الأصوات التي تغنت بقصيدة موطني، لكننا لا نعلم من هو الصوت الأول الذي تغنى بها قديماً، وعلى الأرجح أن القصيدة كانت تؤدى بشكل جماعي، كنشيد وطني بطبيعة الحال. لم يغير الملحن محمد فليفل شيئاً من تركيب القصيدة، ولم يضف سوى بعض التكرار لكلمة موطني، ولأول وآخر كلمتين في كل بيت قبل وبعد كلمة موطني، وقد صاغ إبراهيم طوقان قصيدته في ثلاث مقاطع، يبدأ كل مقطع منها وينتهي بكلمة موطني، بينما في الأغنية نجد كلمة موطني تتكرر مرتين، وكان جميلاً ما فعله الملحن، إذ يزيد من الأثر الشعوري الذي تتركه الكلمة في نفس المتلقي. في هذه القصيدة تحديداً استخدم الشاعر كلمة موطني، لا وطني أو الوطن كما في قصائد أخرى، وهي كلمة توحي بالقرب الشديد، واحتواء الوطن للمرء وانتماء المرء إلى الوطن. لا يذكر الشاعر اسم فلسطين في هذه القصيدة، ما يجعلها صالحة لتكون نشيداً وطنياً لكل بلد عربي، كما فعل العراق واتخذه نشيداً وطنياً له، يتحدث الشاعر عن وطنه الذي يرى فيه كل «الجلال والجمال والسناء والبهاء» ويجد في هواه «الحياة والنجاة والهناء والرجاء»، ويريد أن يراه في أعلى مكانة «سالماً منعماً وغانماً مكرماً» لكن الوطن ليس على ما يرام، يواجه الأعداء وأهله يرفضون الذل المؤبد والعيش المنكد، ويريدون استعادة المجد التليد، ويتخذون رمزهم «الحسام واليراع» لا «الكلام والنزاع»، ويتحدث الشاعر عن واجب الوفاء وشرف الغاية، إلى أن ينهي قصيدته قائلاً: «يا هَناك في علاك قاهراً عداك.. موطني». تبدو هذه الأغنية أو هذا النشيد، من أصدق الأناشيد الوطنية على الإطلاق، بما فيه من رجاء مخلص يعبر عن مشاعر كل عرب تجاه وطنه.

وسوم: العدد 1026