طريق الغرام للمبدعة ربيعة ريحان

خالد البقالي القاسمي

الحقيقة والرغبة

خالد البقالي القاسمي

كاتب وناقد من المغرب

عندما أصدر المبدع المغربي الكبير " عبد الكريم غلاب " رائعته الروائية المثيرة التي كان عنوانها " دفنا الماضي "، اعتقدنا وقتها نحن شبان ذلك الزمان بأن فورتنا وحماستنا وإصرارنا سوف تساهم جميعها في دفن الماضي فعليا ولو على المستوى الرمزي، على الأقل في انتظار القطع مع الممارسات البالية والتقليدية التي لا علاقة لها بديننا وتراثنا وثقافتنا، ولكننا نستنتج بأننا كنا سادرين في وهمنا واعتقادنا الخاطىء عندما نكتشف بأن ذلك الماضي بقدر ما نحاول إبعاده عنا بقدر ما يعمل على اقتحامنا وتسييج أحلامنا وتطلعاتنا، وهكذا وعندما أصدرت المبدعة " ربيعة ريحان " روايتها الأولى " طريق الغرام " وجدنا أنفسنا أمام تلك العودة المحبطة لنفس السيرة لكي تدل دلالة واضحة على بطء السيرورة التاريخية، وصعوبة قبول التحولات، وعسر هضم التغيرات.

لقد ورد في رواية " طريق الغرام " مرة أخرى إثارة مفهوم شرف البنت وعفتها، مرة أخرى هو نفسه الجرح الأخلاقي، وجلد الذات، ويتحقق هذا من خلال مقارنة " فوزية" مع البنات المتحررات، عاشت فوزية التي هي الشخصية المحورية في الرواية حياة تقليدية محافظة، حياة مغلقة على الاحتمالات الحداثية، فكانت تجد صعوبة في ملاءمة واقعها الاجتماعي الأسري بواقع البنات والطالبات من بنات جنسها وجيلها، الأمر الذي هزها من الأعماق، وشكل في حياتها أولى بوادر أزمة الحداثة بصورتها الكاملة، مما أدى بها إلى خلق تصور تناظري بينها وبين زميلاتها يفضي بها في الغالب إلى التحسر والتألم والتبرم من واقعها الذي لا يسعفها لمسايرة زميلاتها وقريناتها من البنات والصبايا.

     طريق الغرام قد يوصل إلى الغرام، ليس الأمر مؤكدا، والغرام يصنف كولع وانجذاب ضمن ترتيب رباعي: الحب ثم الهيام ثم الغرام ثم العشق، وغرام عبارة عن اسم علم مؤنث، وسواء استعملت المبدعة الإضافة أو شبه الجملة في التصدير لعنوان روايتها الجميلة فإن الأمر سيان ويعود لنفس النتيجة السلبية، حيث عنوان الرواية بالإضافة غير ميسر إذ إن طريق الغرام فاشل مع " سمير "، أما بواسطة شبه الجملة فإن الطريق إلى الغرام مبهم أو محتمل مع " يوسف " ، مع سمير كان زواج فوزية فاشلا فعاشت معه طريق الغرام وسارت فيه معه من بدايته إلى انفجار الفضيحة التي عجلت بانهياره بطريقة مريعة، ومع يوسف شرعت فوزية في تلمس الطريق إلى الغرام بحثا عن ملجأ جديد توسلته في يوسف الافتراضي كائن " النت " فغيرت بذلك مسارها من الغرام بالغرام إلى الغرام بالنت، فبدا فعلا بأن الطريق إلى الغرام الذي يممته فوزية طريق مبهم وغامض ومحتمل، ولا يبدو فيه أي عنصر من عناصر الإمكان أو التحقق. 

     عتبة الرواية عبارة عن رسالة إلكترونية، إنه عالم افتراضي، إذ كيف السبيل للجمع بين الواقع والافتراض داخل الرواية؟ واقع روائي يحتضن عالما افتراضيا غير موثوق به إبداعيا بعد، حيث يبدو أننا مرة أخرى بإزاء العلاقة بين الصورة والهيولى، بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل، إنها علاقة دائرية انطلقت من نقطة معينة وحتما سوف تعود إليها، وضمن هذه العلاقة صدرت صرخة لوعة وحزن فوزية على الأنوثة التي أصيبت بصدمتها العميقة، وهي صدمة عنيفة ومريعة، لأن للأنوثة حجج وأهداف وتوجهات وأغراض وأهمية تاريخية، وقد كان المفكر الفرنسي " شارل فورييه " من الأوائل الذين أثاروا موضوع الأنوثة وأرخوا له وهو يسطر ضمن زملاء مفكرين له أمثال " سان سيمون " الخطوط العريضة للفكر الاجتماعي الأوروبي الذي كان نبراسا وأساسا لقيام الثورة الفرنسية.

     إذا كان " النت " ملجأ للكثيرين فإنه في الأصل يقف خارج الزمان والمكان، ويتعدى حدودهما معا، ففوزية الساردة في الرواية تعيش في مدينة " آسفي " المغربية حيث يتم اعتماد المدن المغربية كأفق للإبداع من طرف كثير من رواد السرد والحكي، ويوسف يعيش أو يفترض أنه يعيش في مدينة " لندن " مع أصدقائه العراقيين، وتعتبر العاصمة البريطانية من أهم المدن الغربية التي تحتضن أعدادا غفيرة من المهاجرين والمهجرين العرب عامة والعراقيين خاصة، فوزية في الأصل لم تغرم بيوسف الاعتباري، بل أغرمت بكلمات على " النت "، ونلاحظ هنا تغير صفة الغرام والعشق، إن مفهوم الغرام في الرواية عبارة عن مفهوم تراكمي، وهروب فوزية إلى " النت " كان بعد اكتشافها لشذوذ زوجها، وقد تجلت في هذا المستوى براعة الكاتبة " ربيعة ريحان " في صياغة صدمة الشرف، حيث اكتشفت فوزية بأنها صانت شرفها طويلا من أجل رجل سافل، فأطلقتها صرخة مدوية في وجه التخلف، والنفاق، والمداهنة، والنكوص إلى الوراء، وتوجهت إلى المستقبل الافتراضي، هي تعيش جرح الأنوثة العميق والمهان، ويوسف يعيش جرح وغربة الوطن وحب أمه وتعدد اللغات، لقد التقيا ليعيشا تصعيدا سيكولوجيا حارقا.                          

     لقد كانت فوزية تعي جيدا لحظتها التي تطبعها المفارقة، حيث أحيانا كان تفكيرها يبدو صافيا، وأحيانا أخرى كان يبدو تفكيرها قلقا، ومبعثرا مع شعور بالغ بالتعقيد، ويتجلى كل هذا في ازدواجيتها عند الحكي عن حبيب منهار، وحبيب افتراضي قائم، ويدل هذا على تصدع بالغ في الأحاسيس، سمير الشاذ المفعول به الذي كان زوجا لها موجود في مدينتها آسفي، ولكنه قريب على بعد، وبعيد على قرب، بينما يوسف المفترض وجوده في لندن معدوم في حضوره، وموجود في عدمه، فهو موجود في اللاحضور، وبينهما عاشت فوزية الساردة في كنف عائلة محترمة محافظة واصطدمت بحريتها غير المحدودة في مدينة " مراكش "، ثم عرفت صدمة الحداثة في الحياة العامة والحياة الزوجية، وكانت تعتقد فعلا مثل الأنواريين بأن الحداثة هي الشفافية والوضوح والبداهة، فاكتشفت مع زوجها سمير بأنها الهبوط إلى القاع.

     لقد ظلت فوزية كثيرا تبحث عن الحلقة المفقودة بصيغة جادة ودؤوبة، ولذلك ومن وجهة نظر " الهيرمونيطيقا الفلسفية " فإنها لجأت إلى:

1-  التفسير: لكي تحاول بيان السياق العام الذي قادها للزواج من زوج عاجز وشاذ، حيث رغم كثير من الإشارات التي تلقتها منه وهما يعيشان قصة حبهما في مراكش لم تستطع استكناه حقيقته الصادمة.

2-  الفهم: لتحديد كيف رفضت رفض أهلها لسمير.

3-  الحوار: لمناقشة ومراجعة عواطفها وأحاسيسها.

 مهمة " الهيرمونيطيقا " ترتبط بصيغة الخبرة الإنسانية ذاتها، وترتبط بوجه خاص بتحديد طبيعة الوصول لفهم لغة مشتركة لاكتساب خبرة ومعرفة بالعالم، وهو أمر وجدته فوزية عسيرا في ظل الصراع بين الأنا الذي سمته في الرواية الرقيب وبين الهو، هذا الصراع أوصل فوزية إلى الكتابة، كتابة القصص ونشرها في مختلف المواقع الإلكترونية، الكتابة هنا ليست وسيلة للنسيان، أو حركة إرادية وعمل مقصود بل هي رغبة، الرغبة التي تعني الحيوية والتوثب بتعبير الفيلسوف الفرنسي " جيل دولوز "، لقد سبق أن أشرنا إلى أن الغرام بالغرام تحول إلى الغرام " بالنت "، وهنا نلاحظ بأن الصورة أو العلاقة تحولت مرة أخرى من الغرام بالحبيب إلى الغرام بالكتابة.

 من خلال هذه المصادرة نلاحظ قدرة الكاتبة المذهلة، ففوزية تتمكن من تحليل علاقتها بيوسف ومزجها مع علاقتها بسمير دون أن تخلط بينهما، وهذا التحليل البارز من خلال السرد يوضح بأن فوزية ظلت طيلة الرواية وهي تنشد الحقيقة في خضم صراعها النفسي باحثة عن منهج فعال، والأصل أن المنهج ليس هو دائما الممر الوحيد لمعرفة وبلوغ الحقيقة، بل هناك وسائل عديدة للوصول إليها، ونحن جميعا إذا لم نشارك في وسائل البحث عن الحقيقة فإنها سوف تصبح من الماضي، لأنه وبتوظيفنا للمقولات الأساسية " للهرمونيطيقا الفلسفية " لا يمكن أن نفهم إلا إذا كنا نريد أن نفهم، بمعنى لا يمكن أن نفهم دون أن نتيح لشيء أن يقال لنا، وفوزية لم تفسح المجال لذاتها لكي تفهم جيدا ما كان يقوله لها سمير في مراكش بمعنى ما كان يقوله لها إشارات وتلميحات كلها تصب في اتهامه في رجولته وفحولته، فأصبحت طريق الحقيقة عصية عليها، فأدت جراء ذلك ثمنا فادحا من حياتها وأحاسيسها وعواطفها وأنوثتها ودموعها، ولذلك فضلت الابتعاد عن بيتها وبيت أهلها بعد طلاقها من سمير والانزواء في بيت جدتها لأمها لكي تترك غيرها من الفضوليات يتهن مع أمها وعمتها العانس خديجة في البحث عن حقائق طلاقها المتوهمة لكي تصبح من الماضي.

 إن الحقيقة التي استهلكت واستنزفت طاقة فوزية في الرواية هي لماذا تزوجها سمير وهو يعرف شذوذه، هناك ثلاث فرضيات لإماطة اللثام عن هذه الحقيقة المتوارية:

1-  كان سمير يطمع في مال فوزية، ويبدو من خلال سياق الأحداث في الرواية بأن هذه الفرضية بعيدة الاعتبار رغم أن أسرة فوزية ميسورة ماليا وهي التي تكفلت بإعداد كل ما يلزم لبيت الزوجية، بينما ينتمي سمير لأسرة فقيرة يشتغل ربها بصناعة الأواني الخزفية من الطين.

2-  بسبب تربية فوزية المحافظة فإن سمير كان ينوي أن يتوارى خلفها لبعض الوقت وهو على يقين بأنها لن تعمل على التصريح بشذوذه المقرف، وهي فرضية قابلة للتداول والمناقشة بمعنى أنها معقولة نسبيا، وتعكس بعضا من الحقيقة.

3-  الفرضية الثالثة وهي القريبة جدا إلى الحقيقة كونها ذات بعد وحمولة علمية استقيناها من كتاب " Homo.eroticus " للسوسيولوجي الفرنسي " ميشيل مافيزولي " مفادها أن شذوذ سمير لم يكن كاملا، وكان يعتقد أنه ربما بزواجه من فوزية سوف يشفى من آفته، ولكن المشكل الذي عجل بعريه الكامل هو أنوثة فوزية الحارقة التي كانت تتطلب رعاية مستمرة واهتماما متواصلا، وهو ما لم يستطع سمير القيام به، وأمام عجزه هذا تفاقمت حالته وزاد شذوذه، وهي الحقيقة التي كان يحاول جاهدا إخفاءها، وإذا ألقينا نظرة على مفهوم الحقيقة " آليثيا " في الفكر اليوناني وخصوصا عند الفيلسوف " هراقليطس " وجدناها تعني:

1-  الانفتاح: وهو خادع لدى سمير لأنه عمل بكل الوسائل على إخفاء شذوذه.

2-  اللاتحجب: وهو نوع من الجهر المتخفي، حيث ظهر سمير عاريا بشذوذه أمام فوزية.

وبما أن العمق يتوارى دائما خلف سطح الأشياء فإن ما كانت تراه فوزية عميقا ومخيفا، كان سمير يراه سطحيا ومألوفا، وهذه واحدة من تقنيات التأويل، أي قلب الأعماق، بمعنى أن العمق يمكن أن يكون سطحيا رغم أنه يتخذ هنا شكل بنية، وهنا بالضبط ظهر عجز فوزية، لأن وجودها كان متأثرا بمجمل تاريخها، فتجاوز وجودها القدر الذي تعرفه عن نفسها، لقد باتت تنكر نفسها كيف أصبحت وكيف تحولت في كنف رجل شاذ من شابة مفعمة بالحيوية والشباب إلى حطام امرأة، وبناء على طرح الفيلسوف الألماني " مارتن هايدغر " ( الوجود في العالم ) فإما أن يكون هذا الوجود خطيا باهتا لا يهتم به أحد ولا يلتفت إليه أحد، وإما أن يكون وجودا فاعلا حادا متوترا، وهذا الطرح الأخير هو الذي أنتج لنا الرواية.

     تمزج الكاتبة في عملها بين الجمل الطويلة المركبة، والجمل القصيرة التي توفر الجهد وتريح من اللهاث، مع التنويع في الصيغ من استفهام وتعجب وتقرير واعتراض وتوضيح.... مع الجمع بين اللغة الفصيحة كأساس في الكتابة وبين اللغة العامية في بعض التعابير التي تعتبر المبدعة أن توظيفها يتيح النفاذ بدقة إلى الدلالة المقصودة، ثم إن في الرواية إبرازا للذات مع العلم أن الذات في التجربة الأدبية تتجلى في العمل ككل، وفي الرواية كتابة لغوية شعرية واضحة، والأصل أن الرواية بحث عن العلاقة الرابطة بين الشعر والحقيقة، في الرواية كذلك قدرة إبداعية على التوليف والإقناع في السرد تجعل القارئ يعتقد كأنه أمام حياة طويلة مستمرة، ومتواليات زمنية متصلة، بينما الأمر لا يستغرق أكثر من لحظات كأنها حلم، ويظهر لنا هذا الفرق الواضح بين السارد الذكي والسارد غير الذكي.