معاجم العامية من جديد

ديب علي حسن

ثقافة

«لا تنه عن خلق وتأتي مثله» ربما كان المطلع المناسب للحديث عن الجدل الدائر اليوم حول إصدار معجم للهجة العامية السورية أو لنقل اللهجات العامية السورية استوقفني الخبر منذ قرأته وتابعنا المحاضرة التي ألقيت حول هذا المعجم الذي سيصدر، ولكني لم أشعر بالغرابة أبداً بل تساءلت لماذا تأخروا إلى هذا الحين حتى أعلنوا عن مشروعهم هذا؟ وأرجو ألا يفهم من كلامي أني من المؤيدين لمثل هذا المشروع أو غيره ولكن توجست أن عملاً كهذا كان يجب أن يظهر في ظل الانفلات اللغوي الذي نعيشه ونراه، كل يوم مدرسو اللغة العربية يلقون دروسهم بالعامية وطلاب جامعيون لا يجيدون كتابة الإملاء ومسؤول تعليم عال لا يعرف أن (على) حرف جر وفوق هذا وذاك يباس مجمعنا اللغوي خلال السنوات الأخيرة وقد نشط منذ عامين ونيف ولكن هيهات له أن يصلح ما أفسده الكثيرون.‏

وعودة إلى الاستهلاك الأول أشير إلى المثل الشعبي القائل: «إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً فما...» ورب البيت هنا مؤسساتنا الثقافية التي تعنى بالإبداع ويجب أن تكون راعية للغتنا وعاملة على صونها إذا كانت هذه المؤسسات لديها مثل المشروع الذي أثار حفيظة أبناء العربية، أعني مشروع معجم العامية السورية الذي ينشره المركز الثقافي الفرنسي وعمل على إنجازه باحثان، عربي سوري وفرنسي.‏

وزارة الثقافة السورية ومنذ سبع سنوات قامت بالخطوة نفسها وإليكم التفاصيل.‏ 

موسوعة العامية السورية‏

العنوان السابق لم يصدر عن المركز الثقافي الفرنسي أو أي مركز آخر بل هو عنوان موسوعة صدرت عن وزارة الثقافة السورية عام 2003م صاحب الموسوعة ياسين عبد الرحيم... تقع في أربعة مجلدات وتستغرق /1709/ صفحات من القطع الكبير وبالتأكيد ليس عام صدورها هو عام تقديمها إلى وزارة الثقافة ولا أدري إذا ما كانت قد انتظرت مدة عامين أو أكثر لترى النور طباعياً، لابد من هذه الإشارة حتى لا يساء الفهم ويقال: إن وزير الثقافة آنئذ وهو نائب رئيس مجمع اللغة العربية الآن هو المسؤول عن إصدارها، على كل حال قدم المؤلف لموسوعته بقولين مقبوسين من علماء غربيين، القول الثاني جاء فيه:

ففي اللغات لا توجد لغة أفضل أو أسوأ من الأخرى إنما توجد لغات مختلفة فحسب، دافيد لحريستل من كتاب «التعريف بعلم اللغة».‏

وكان معد الموسوعة يريد من هذا الاقتباس أن يضعنا أمام فرضية ينطلق منها أن العامية لغة والفصحى ليست بأفضل منها.‏

أما القول الأول فيدل على أن الباحث يريد أن يبحث في تاريخ المفردات وتطور معانيها وهذا لم يحدث.‏

صرخة في وادٍ‏

حين صدرت الموسوعة كتبت في صحيفة «الثورة» مشيراً إلى ضرورة الابتعاد عن مثل هذه الكتب والموسوعات ولم يسمع أحد وربما بكل صراحة لم يقرأ أي معني بالأمر ما كتب.... جف وكانت صرخة في وادٍ لمسؤولين ثقافيين لا يريدون أن يسمعوا أو ربما قالوا: من هذا الذي يكتب دعوه يكتب ما يريد ونحن نفعل ما نريد.‏

الموسوعة مرتبة حسب الترتيب المعجمي تبدأ بالألف وتنتهي بالياء.‏

في الجزء الأول وفيما سماه المنهج يقدم الباحث مسوغات هذه الموسوعة إذ يقول: يضم هذا المعجم الكلمات العامية الدارجة في سورية (وخاصة في منطقة الساحل من الجمهورية العربية السورية) مثبتاً لفظها ومبيناً معناها أو دلالتها في أذهان العامة ومحققاً أصلها ومن أين أتت وهل هي تحريف أم تصحيف للفظة عربية فصيحة أم إنها من لغة سامية كالسريانية أو غيرها؟ أم إنها من السامي المشترك؟ أم إنها دخيلة أعجمية؟‏

ويحدد المنطقة التي أخذ منها الكلمات سماعاً بقوله: «ومصدري الأول هو السماع من المنطقة التي أنتمي إليها وهي من حيث الاتساع والشمول حسب الترتيب التالي: قريتي بعمرا، قضاء صافيتا، منطقة الساحل، الجمهورية العربية السورية، مع إشارته إلى استثناء بعض المفردات المأخوذة من اللهجة اللبنانية.‏

تُرى إذا كانت منطقة صغيرة مثل «بعمرا» احتاجت إلى أربعة مجلدات لتدوين لهجتها العامية فكم مجلداً سنحتاج لتدوين لهجات المدن والقرى السورية؟ بل لماذا هذه الخطوة؟‏

الموسوعة جهد يحسب لصاحبه على أنه ملأ وقته واستهلك بحدود ألفي صفحة ورقية وأن الوزارة كان يمكن أن تطبع أربعة كتب بديلة ويسجل سابقة في عدم احترام لغتنا العربية الفصيحة وخطوة نحو جمع العامية وإعطائها صبغة الشرعية وحتى لا يذهبن الظن بأحد أقول: نعم السابقة أثمرت وجاء من يقلد الموسوعة وإليكم التفاصيل.‏

معجم الألفاظ والتعابير المحكية في محافظة السويداء.‏

هذا المعجم صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- دمشق 2009، أي إنه خطوة ثانية بعد موسوعة العامية السورية جمعها قاسم وهب، يقع في جزأين يستغرقان ما يقارب ألف الصفحة من القطع الكبير وحسب ما جاء على الغلاف فإنه معجم (لهجي فولكلوري مقارن).‏

وحسب كلمة الغلاف فإن المعجم يحاول أن يكون جامعاً لضروب التعبير الشفوي المتداول على ألسنة العامة في محافظة السويداء متضمناً أبرز ما في خطابهم

اليومي من ألفاظ ومصطلحات وتعابير وكنايات وأقوال سائرة.‏

كما هو ملاحظ أن الساحة الجغرافية التي يتناولها هي محافظة بكاملها وهذا يعني أنه أكثر شمولية من موسوعة العامية السورية وربما كان من المفيد إجراء مقارنة بين المفردات الواردة في المعجمين وسنعود إلى ذلك ذات يوم.‏

وحتى تعم الفائدة أكثر فإن كل محافظة على مايبدو قدمت باحثاً يقوم بهذه المهمة تارة تحت اسم التراث وتارة أخرى باسم الأمثال وعن الهيئة العامة السورية للكتاب صدر كتابان ضمن هذا الاتجاه وإن كانا منوعين، الأول حمل عنوان التراث الشعبي الحمصي أدوات تراثية ولكنيات قولية وأمثال شعبية وهو من تأليف وإعداد مصطفى الصوفي.‏

أما الثاني فقد جاء أيضاً من الساحل وتحت عنوان: أمثال وتعابير شعبية في منطقة الساحل السوري عموماً وصافيتا خصوصاً تأليف: نزيه عبد الحميد، وبالتأكيد صافيتا ليست بعيدة عن (بعمرا) فإذا كان محيط جغرافي صغير أنجز كتابين في هذا الشأن ولا أدري إن كان ثمة كتب أخرى تقدم لنا العامية مدونة تحت مسميات مختلفة، تارة تحت اسم التراث الشعبي والفلكلور وغير ذلك من مسميات لا تسوغ ما يؤصل من العامية ويجمع ليكون ضمن معجم.‏

الأصول الفصيحة‏

رد العامي إلى فصيح مهمة تولاها الكثيرون من علماء اللغة وصدرت في هذا المجال كتب كثيرة عني بتأليفها باحثون حقيقيون قدموا جهوداً متميزة في هذا المجال وستكون لنا عودة إلى بعض هذه المعاجم التي تقدم ثروة لغوية مهمة وتدعونا إلى إعادة صقلها واستخدامها لأنها من ذخيرتنا اللغوية النقية.‏

لماذا يهتمون بالعامية؟‏ 

لا أريد أن أتهم أحداً أو أسيء الظن بأحد ولكن أود أن أقدم معلومات تاريخية حول اهتمام المستشرقين بالعاميات العربية، والمعلومات مأخوذة من كتاب: اللغة العربية والوعي القومي بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، صدر الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ط2 1986. وكتب الدراسة حاتم صالح الضامن تحت عنوان «العامية والفصيحة» وسأعمل على تقديم الخطوط العريضة.‏

يقول: أما في العصر الحديث فقد ارتبطت مشكلة العامية والفصيحة بالوجود الاستعماري في وطننا العربي على الرغم من أنها في أصلها ظاهرة طبيعية في حياتنا اللغوية ولكن الاستعمار استغل هذه الظاهرة ليحارب اللغة الفصيحة بلهجاتها المتعددة ووجد في اختلاف اللهجات الإقليمية ذريعة للقضاء على اللغة المشتركة بعد أن انحدرت اللغة العربية إلى غاية الضعف أيام الاحتلال العثماني الذي فرض اللغة التركية لغة رسمية للدواوين والتعليم.‏

وقد مهد الاستعمار لمحاربة اللغة الفصيحة عندما أدخل تدريس اللهجات العربية المحلية في جامعاته وأنشأ مدارس خاصة لدراسة هذه اللهجات مستعيناً في ذلك بالشرقيين الذين كانوا يعملون في بلاده وبالمستشرقين الذين كانت لهم معرفة باللهجات العربية المحلية.‏

في إيطاليا دُرّست العامية في مدرسة نابولي الشرقية سنة 1727م.‏

- في النمسا: مدرسة القناصل كانت تعلم لغات الشرق بلهجاتها منذ 1754م.‏

- في فرنسا: دُرّست اللهجات العربية العامية في مدرسة باريس للغات الشرقية الحية التي أنشئت سنة 1759م.‏

- في روسيا: في مدرسة لازارف للغات الشرقية وبدأت تدرس اللهجات منذ 1909.‏

- في ألمانيا: أنشئ مكتب كبير في برلين لتدريس العربية ولهجاتها.‏

- في المجر: منذ سنة 1891م درست اللهجات العربية.‏

- في لندن: درست اللهجات العربية منذ أوائل القرن التاسع عشر.‏

ومن الكتب التي دعمها الغرب نذكر:‏

- لهجة بغداد العامية- ماسينون.‏

- لغة بيروت العامية- أمانويل مانسون.‏

- لغة مراكش العامية وقواعدها، ابن سميل.‏

- قواعد العامية الشرقية والمغربية، كوسان دوبر سفال.‏

- عامية دمشق، بدغستراسر.‏

- قواعد العربية العامية في مصر، ولهم سبيتا.‏

- اللهجة العربية الحديثة في مصر، كارل فولرس.‏

- العربية المحكية في مصر، سلدن ولمور.‏

- المقتضب في عربية مصر، فيلوث وباول.‏

وإذا تركنا ما قدمه الضامن فإننا نشير إلى أن هذا الاهتمام لم يفتر بل ازداد وترسخت معالمه وتطورت أدواته وساعد عليه باحثون عرب ونشير هنا إلى أن مراكز بحوث وجامعات ومعاهد غربية تقدم منحاً دراسية لطلاب عرب شرط أن يقدموا أعمالهم باللهجات المحلية سواء كانت أعمالاً بحثية أم إبداعية (مسلسلات، أفلام..).‏

على كل حال نحن غافلون عن الاختراقات الثقافية وليس لدينا وعي لغوي.‏

لغتنا مهددة وحراسها نائمون وفي أحسن الأحوال يتذكرونها موسمياً ومن ثم استراحة إلى العام المقبل، نريد أن نرى أفعالاً لا تنظيراً وحتى يتحقق شيء من ذلك أفكر بإعداد معجم للعامية في بيتنا ونحن أسرة من ثلاثة أشخاص لكل واحد منا مفرداته.‏

من مضاربات أسواق اللغة «وحُول في الطريق».