الرمز في مسرحية "مأساة أوديب"

عبد الحكيم الزبيدي

الرمز في مسرحية "مأساة أوديب"

عبد الحكيم الزبيدي

مقدمة

   حظيت قضية فلسطين باهتمام الأديب الراحل علي أحمد باكثير. فقد أفرد لها أربع مسرحيات، هي: شيلوك الجديد، إله إسرائيل، شعب الله المختار، والتوراة الضائعة، إضافة إلى مجموعة من التمثيليات القصيرة التي كان ينشرها في المجلات، وجمع بعضها ونشره في كتاب بعنوان "مسرح السياسة".

  وإذا كان باكثير قد تناول في المسرحيات السابقة قضية فلسطين بشكل مباشر، فإنه قد تناول هذه القضية في مسرحية "مأساة أوديب" بشكل غير مباشر. سنحاول في الصفحات التالية التعرف على الرمز بين قضية فلسطين وأسطورة أوديب كما تناولها باكثير في هذه المسرحية.

أوديب عند سوفكليس

يدور الصراع في مسرحية (أوديب ملكاً) لسوفوكليس بين البشر والآلهة. فملخص القصة أن كاهناً يتنبأ للملك لايوس - ملك طيبة- أن زوجته جوكاستا سوف تلد غلاماً، وأن هذا الغلام عندما يكبر سيقتل أباه ويتزوج أمه. وهكذا عندما ولدت جوكاستا ولداً أمر لايوس أحد الرعاة أن يحمل الطفل إلى قمة جبل ويقيده من قدميه حتى يموت. ولكن الطفل لا يموت بل يعثر عليه شخص ويحمله إلى قصر بوليب ملك كورنثه حيث عنيت به الملكة موريب التي لم تنجب أطفالاً وأسمته أوديب أي "متورم القدمين".[1]

   وينشأ أوديب وهو يعتقد أنه ابن الملك والملكة. ولكن في أحد الأيام عيَّره أحد ندمائه السكارى بأنه لقيط. فذهب الأمير الشاب إلى معبد دلف يستلهمه الحقيقة فعرف أنه قدر له أن يقتل أباه ويتزوج أمه ويجلب التعاسة لأهل مدينته[2]. ويقرر أوديب أن لا يعود إلى كورنثه، ظناً منه أن النبوءة موجهة إلى بوليب وموريب. ويمضي به الطريق إلى مكان عنده مترق طرق، ويرفض أوديب أن يفسح الطريق لعربة تحمل مسافراً كبير السن. وتنشب معركة يقتل فيها أوديب ذلك الرجل الذي لم يكن سوى أبيه لايوس[3].

ويصل أوديب إلى مدينة طيبة - مهبط رأسه وإن لم يكن يعرفها - وهناك يجد أوديب فزعاً وارتباكاً يسودان المدينة. فقد كان هناك حيوان غريب مفزع له رأس المرأة وكتفاها وجسمه جسم لبؤة، قد قبع على صخرة وراح يلقي الألغاز على كل من يمر به، ولكن أحداً لا يستطيع الوصول إلى الحل، ويكون مصيره الهلاك على يد أبي الهول. ويأتي أوديب فيسأله أبو الهول: ما الحيوان الذي يسير في الصباح على أربع، وفي الظهيرة على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ فيجيبه أوديب: هذا الحيوان هو الإنسان، فهو في الطفولة يزحف على أربع، وحين يشب يمشي على اثنتين، وعندما يشيخ يتكئ في سيره على عصا. ويكون هذا هو الجواب الصحيح، ويستشيط أبو الهول غضباً لذلك ويلقي بنفسه من فوق الصخرة فينسحق ميتاً[4]. وفرح أهل طيبة بهذا الشاب الذي خلَّصهم من الفزع الرابض عند مدخل مدينتهم، وتوَّجوه ملكاً عليهم وزوَّجوه بالملكة جوكاستا التي لم تكن سوى أمه[5].

   وهكذا تتحقق النبوءة دون أن يدرك أحد وتسير الأمور سيراً طبيعياً ينعم فيه الشعب بالعدل والأمان فغي ظل ملكهم أوديب، وتنجب الملكة ولدين وبنتين. ثم حدثت بعد ذلك مجاعة وطاعون، وتجمع الشعب أمام القصر يرجون ملكهم أن يتشفع لدى الآلهة التي كان يبدو أنها محنقة. وأرسل أوديب يستفتى المعبد فعلم أن شيئاً قذراً يقيم في هذه المملكة لابد أن يزال، وأنه لابد من الكشف عن قاتل لايوس وعقابه. ثم علم أوديب أخيراً من الكاهن ترزياس أن أوديب نفسه هو ذلك الرجس الذي ينبغي أن تتخلص منه المدينة[6]. ولم يصدق أوديب في بادئ الأمر وظل يحقق في الموضوع واستدعى الراعي الذي كلف بقتل الطفل. وهكذا حتى تتضح له الأمور ويتيقن من أنه قد قتل أباه وتزوج أمه. ثم تمضي القصة إلى غايتها، فال تطيق جوكاستا الحياة وقد ظهرت لها حقيقة الإثم الذي تعيش فيه فتنتحر. ويسمل أوديب عينيه، وينفذ اللعنة التي توعد بها القاتل من قبل، فينفي نفسه، بعد أن يوصي كريون بأبنائه خيراً[7].

   وقد تعددت التفسيرات النقدية لأوديب سوفكليس، ولكن ما من شك أن "أوديب سوفكليس يؤكد الجبرية الإغريقية في فترة من الفترات"[8]. فأوديب حاول أن يفر من قدره من حيث سعى إليه. فقد رفض العودة إلى كورنثه حين علم بالنبوءة حتى لا تتحقق، ظناً منه أنها موجهة للملك والملكة الذين ربياه، ولكنه وقع في النبوءة حيث فر منها.

ولكن كيف استطاع باكثير أن يخلص الأسطورة من هذه الأفكار التي -ولا شك- تتعارض مع التصور الإسلامي والعقيدة الإسلامية الصحيحة؟  هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الفصل القادم.

أوديب عند باكثير

   قدَّم باكثير لهذه المسرحية -كعادته في معظم أعماله الأدبية- بآية من القرآن الكريم، هي قوله تعالى: (ولا تتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إنَّهُ لكم عدوٌ مُبين * إنَّما يأمُرُكُم بالسُّوءِ والفحشاءِ وأن تقولوا على اللَّهِ مالا تعلمون)[9] لتكون تلخيصاً لفكرة المسرحية. وفي ضوء المعنى الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة تشكلت الصورة الجديدة للمسرحية[10].

الصراع في المسرحية:

   ذكرنا - في الفصل السابق- أن الصراع في أوديب سوفكليس يدور بين الآلهة والبشر، فأين يتركز الصراع في أوديب باكثير ؟ يجيب د. عز الدين إسماعيل عن هذا السؤال قائلاً: "نستطيع أن نقرر ببساطة أن الصراع هنا بين قوى الشر ممثلة في الكاهن الأكبر المخادع، وقوى الخير ممثلة في أوديب وترزياس الكاهن المصلح"[11]  إذاً فالصراع لم يكن بين أوديب والآلهة، لأنه لم يكن هناك آلهة، بل إله واحد كامل لا يحمل حقداً للبشر[12].

   والمؤامرة التي وقع أوديب ضحيتها كانت مؤامرة الكاهن الفاسق الذي استغل مركزه الديني في الإيقاع بأوديب. وهو في كل مرحلة من مراحل هذه المؤامرة تدفعه شراهته للمال والنذور إلى أن يوقع في روع ضحاياه أن الوحي الإلهي هو الذي يريد، وأنه ليس إلا منفذاً لهذه الإرادة[13]. وهكذا أوعز هذا الكاهن المخادع إلى الملك لايوس بالتخلص من ابنه حتى لا يكون وبالاً عليه. وهو في الحقيقة قد قبض ثمن ذلك من منافسه الملك بوليب ملك كورنثه[14]. ثم دبر الكاهن نجاة أوديب من القتل، وأوعز لنديمه أن يعيَّره أنه لقيط[15]، ودبَّر له أن يقتل أباه ويتزوج أمه[16]. ويظل الكاهن الأكبر مسالماً لأوديب سبعة عشر سنة كان خلالها تتوافد عليه النذور من الملكة جوكاستا. حتى إذا كانت قصة الوباء وخشي الكاهن من عزم أوديب على تفريج أزمة الشعب بأن يوزع في الناس أموال المعبد، كان ذلك بداية للصراع بينهما[17].

   ويقرر أوديب مصادرة أموال المعبد غير عابئ بتهديدات الكاهن الأكبر بإشاعة تفاصيل قصته في الناس[18]. وينظم إلى أوديب في موقفه ترزياس الذي كان الكاهن الأكبر قد طرده من المعبد ومن المدينة لعدم رضائه عن تصرفات الكاهن الأكبر. وعندئذ يظهر لنا أوديب وترزياس مؤمنين بالله، وكافرين بالمعبد وكهنته، وعلى رأسهم كبيرهم. ويشتد الصراع بين الجانبين، الكاهن الأكبر يهاجم أوديب وترزياس ويغري بهما جموع الشعب، وله في ذلك وسيلته، وبين يديه حججه، و أوديب وترزياس يهاجمانه ويكشفان للناس عن حقيقته. ويبذل الطرفان قصارى جهدهما في ذلك الصراع الذي ينتهي آخر الأمر بهزيمة الكاهن الأكبر وافتضاح أمره، وطرده إلى قمة جبل كتيرون لا يبرحها حتى الممات، وتوزع في الناس أموال المعبد إلى جانب المعونة التي قدمها كذلك بوليب ملك كورنثه[19].

الغاية من الصراع في المسرحية:

استطاع باكثير أن يحقق معنيين إسلاميين من خلال الصراع في هذه المسرحية. "المعنى الأول يتحقق في الحملة على الكهانة والكهان، وكل تدليس باسم الدين يفسد على الناس حياتهم، ويتولى أوديب -بطبيعة الحال- هذه الحملة"[20]. والمعنى الثاني يرتبط بمشكلة المسرحية في مجملها وهي مشكلة القضاء والقدر، والحرية والاختيار، وما يتصل بذلك من العدالة الإلهية[21]. فالكاهن الأكبر كان مختاراً حين دبَّر مؤامرته، ولابد أن يُسأل عن نتيجة هذا الاختيار[22]. والإنسان يختار فيكون اختياره هو القدر:

أوديب : أنا اليوم ..الآن.. الساعة مختار، أقدر أن أقولها وأقدر أن لا أقولها، فيا ليت شعري أي هذين القدر‍‍‍‍‍؟ إن قلتُها كان هذا هو القدر وإن لم أقلها كان هذا هو القدر. ولكن لا أدري الآن ..لا أعرف الساعة أيهما.. هو القدر. بل إني أدري ذلك.. إن القدر الآن لمطوي في يميني: في يدي أن أجعله نعم، وفي يدي أن أجعله لا.. إذن فلأعلن لها الحقيقة الآن وليكن هذا هو القدر‍‍. لأقولن لجوكاستا: أنتِ أمي .. أمي التي ولدتني من صلب لايوس! (يتوجه نحو الباب الثاني وهو ينادي في قلق واضطراب) جوكاستا ! جوكاستا![23]

فأوديب كان إنساناً مريداً عاقلاً حراً في اختيار ما يصنع وما يدع. "وكان يستطيع أن يفضي إلى الناس في طيبة منذ البداية بقضيته قبل أن ينصبوه ملكاً، ولكنه -كما يدلنا سياق المسرحية- لم يجد فرصة، لأن الكاهن كان قد أحكم الخطة. ولو قد بسط أوديب للناس قضيته فانتهوا فيها وفيه إلى رأي لما تزوج أمه، ولاكتُفي منه بالتكفير عن قتل أبيه خطأ. ولكن أوديب لم يصنع هذا. وهنا نجد الباب الضيق الذي أدان به باكثير أوديبه، فقد كان حراً في اختياره حين آثر السكوت ولم يبصِّر الناس بموقفه منذ البداية"[24].

   وهكذا أدار باكثير -ببراعة فائقة- شخوص مسرحيته وأحداثها حول هذين المحورين: "فهناك إله واحد عادل حكيم وما سواه باطل، وهناك الإنسان المريد القادر العاقل الحر في اختياره المسئول عن نتائج أعماله. وليس بين هذا الإله وذلك الإنسان أي صراع لأنه لا يبغي للإنسان إلا الخير. أما الصراع الحقيقي الذي يجب على الإنسان أن يخوضه فهو ذلك الصراع بين الحقيقة والوهم، أو بين الواقع الملموس والخرافة الغيبية. وقد خاض أوديب هذه المعركة وانتصر للحقيقة والواقع. وهذه هي الغاية

الرمز في المسرحية

   كان من دواعي تأليف باكثير لمسرحية أوديب ما حل بالعرب من ذل إثر نكبة عام 1948م، ولندع المؤلف نفسه يحدثنا كيف حدث ذلك:

   " كان ذلك إثر حرب فلسطين التي انتهت بانتصار اليهود على الجيوش العربية مجتمعة، فقد انتابني شعور باليأس والقنوط من مستقبل الأمة العربية وبالخزي والهوان مما أصابها. فقد أحسستُ أن كل كرامة لها قد ديست بالأقدام فلم تبق لها كرامة تُصان. وظللتُ زمناً أرزح تحت هذا الألم الممض الثقيل ولا أدري كيف أنفِّسُ عنه. ولعل ذهني في خلال ذلك كان يبحث عن الموضوع دون أن أشعر أيضاً، إذ تذكرتُ فجأة تلك الأسطورة اليونانية التي خلَّدها سوفكليس في مسرحيته الرائعة (أوديب ملكاً) فأحسستُ أن فيها لا في غيرها يمكن أن أجد المتنفس الذي أنشده.

   ولعلكم تعجبون من هذا كما عجبتُ أنا نفسي في أول الأمر إذ أي صلة بين نكبة العرب في فلسطين وبين هذه الأسطورة اليونانية؟ غير أني أدركتُ بعد ذلك سر هذا الاختيار. ذلك أني كنتُ أحسُّ في أعماق نفسي كأن الذنب الذي ارتكبه العرب في فلسطين والخزي الذي لحقهم من جرائه لا يوازيه في البشاعة غير ذلك الذنب الذي ارتكبه أوديب في حق أبيه وأمه والخزي الذي لحقه من ذلك"[25].

   ثم يشرح باكثير بالتفصيل أوجه الشبه بين النكبة وبين المسرحية، فيقول:

   "لقد خضنا حرب فلسطين بجيوشنا الستة أو السبعة فماذا كانت النتيجة؟ خسرنا الحرب من حيث كسبتها إسرائيل فأضيفت إلى رقعتها أراض واسعة. فهل كان ذلك طبيعياً اقتضاه ضعف العرب وقوة إسرائيل؟ أم كانت المسألة كلها مدبَّرة من قبل، تواطأ عليها الاستعمار والصهيونية وفي خدمتهما بعض ملوك العرب وزعمائهم لجر الأقطار العربية إلى تلك الحرب حتى تسفر عن هذه النتيجة المقصودة؟ ومتى بدأ هذا التدبير؟ ألم يبدأ منذ أعلن بلفور وعده المشئوم بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؟

   فانظروا الآن إلى قصة المسرحية، ألا ترون مشابهة من هذا الذي حدث؟ لقد أعلن لوكسياس نبوءته الكاذبة قبل مولد أوديب ثم وجَّه الأحداث نحو تحقيق هذه النبوءة حتى تحققت. وكأن أوديب هو الذي سعى بنفسه إلى خوض غمار التجربة، متحدياً تلك النبوءة حتى وقع في صميم المأساة طبقاً لخطة مرسومة لا يدري هو عنها شيئاً، تماماً كما سعى العرب إلى خوض غمار الحرب ضد إسرائيل متحدين بزعمهم كل القوى التي تناصر إسرائيل حتى وقعوا في صميم المأساة طبقاً لخطة مرسومة لا يدرون عنها شيئاً"[26].

   إذاً فإعلان وعد بلفور كان شبيهاً بتلك النبوءة المشئومة التي أعلنها الكاهن وسعى إلى تحقيقها، تماماً كما سعت بريطانيا - والغرب من ورائها- لتحقيق وعد بلفور. والأحداث التي تلت ذلك ومكنت لليهود في فلسطين إنما تمت بمعاونة وإرادة القيادات العربية في ذلك الوقت وتواطئها، تماماً كما سعى أوديب - وهو الحر المختار - إلى تنفيذ تلك النبوءة الكاذبة.

   حتى الحرب التي خاضها العرب ضد اليهود - في عام 1948م- إنما كانت -كما يرى باكثير- شكلاً من أشكال التواطؤ والاستسلام لوساوس الشيطان والتمكين للعدو من حيث كانت في ظاهرها حرباً ضده، تماماً كما قبِل أوديب الزواج بأمه ليتحدى النبوءة - كما وسوس له شيطانه - من حيث وقع فيها.

   وإذا كان أوديب معذوراً في وقوعه في الفخ الأول الذي أدى به إلى قتل أبيه لعدم علمه أنه أبوه، فلا عذر له - في نظر باكثير - في وقوعه في الفخ الآخر والجرم الذي لا يغتفر، وهو زواجه بأمه بعد علمه - ولو على سبيل الاحتمال - أن جوكاستا أمه. وهكذا فإذا كان العرب معذورون في بعض الأحداث التي لم يكن لهم يد فيها، كهجرة اليهود إلى فلسطين وتمكنهم فيها حتى أقاموا دولة إسرائيل،  فلا عذر لهم - في رأي باكثير-في هزيمتهم المنكرة في عام 1948م ومشاركتهم في التمكين للكيان الصهيوني أن يستفحل ويستشري في جسد الأمة العربية.

   وقد أدار باكثير صراعه ببراعة فائقة ليجعله بين الوهم والحقيقة، بين الإنسان والشيطان. وقد انتصر أوديب للحقيقة وتحمل تبعة ذنبه بشجاعة نادرة.

باكثير وواقعنا المعاصر:

   لقد استطاع باكثير منذ ما ينيف على أربعين عاماً أن يرسم صورة صادقة - من خلال مسرحية أوديب - لواقع مرير مازلنا نعاني منه حتى الآن. فمع أن باكثير كتب هذه المسرحية عقب نكبة عام 1948م - كما أسلفنا- إلا أن فكرتها تنطبق على كل الأحداث التي تلت ذلك إلى يومنا هذا.

   فنكسة عام 1967م ما هي إلا جرم آخر يرتكبه أوديب لا يقل فظاعة عن جرم قبوله الزواج بأمه (قيام دولة الكيان الصهيوني)، والمأساة نفسها تتكرر، اليد الخفية تخطط  وأوديب  ينفذ مختاراً من حيث يزعم أنه يتحدى النبوءة.    

   وهكذا نمضي مع سلسلة المآسي، ومنها مأساة العراق والكويت. لقد ساقت الأيدي الخفية أوديب إلى أن يقتل أباه (يحتل الكويت)، ووقع أوديب في المصيدة بعلمه أو بدون علمه. ويستمر الكاهن (الأيدي الخفية) بتهديده بتحقيق الشطر الثاني من النبوءة وهي الزواج بأمه (الحرب). وكان باستطاعة أوديب أن يرفض الاستمرار في اللعبة القذرة فيجنب شعبه وأمته كارثة، ويتجنب إثماً فظيعاً. ولكنه وقع في الحبائل واستسلم لوساوس شيطانه الذي أوحى إليه أن جوكاستا ليست أمه (الحرب لن تقع)، حتى وقع المحذور وحاق الإثم بالأمة كلها.

   "ولو قد بسط أوديب للناس قضيته فانتهوا فيها وفيه إلى رأي لما تزوج أمه ولأُكتفي منه بالتكفير عن قتل أبيه خطأ، ولكن أوديب لم يصنع ذلك"[27]. وكذلك أوديب العراق لم يصنع ذلك، مع أنه في قرارة نفسه كان يعلم أنه يستطيع أن يمنع الكارثة، ولكن الأحداث المتلاحقة جعلته يظن أن الأمر خارج عن إرادته، تماماً كما ألقى أوديب باللوم على الكاهن الأكبر وتدابيره في كل ما حصل له. ولكن عندما استحلفه ترزياس قائلاً:

ترزياس: استحلفك بالإله الخبير الذي يعلم السر وأخفى يا أوديب أما كنت تشعر حينئذٍ أن ذلك كان في مستطاعك؟

أوديب: بلى يا ترزياس .. وحق الإله الذي استحلفتني به لقد هممتُ يومئذٍ مراراً أن أفعل بعض ما ذكرت، ولكن وصفاء القصر ما لبثوا أن احتوشوني وتداولوني، فهذا يغسلني، وهذا يطيبني، وهذا يرجِّل شعري، وهذا يكسوني فاخر الثياب، وكلهم يترنم بمحاسن الملكة .. بمحاسن أمي يا ترزياس، آه يا ليت أفواههم حُشيت حينئذ بأثوال من النحل الوحشي الهائم في شعف الجبال، (تتلاحق أنفاسُه) ثم لم ألبث أن أُدخلت عليها يا ترزياس، فوجدتها جارية حسناء كأنها فتاة عذراء، فانمحى من قلبي كل أثر لاحتمال أن تكون أمي، بل تمثل لي حينئذٍ خيال ميروب كأنها تقول لي عاتبة: “ هل يجمل بك يا بني أن تتزوج هذه الفتاة الحسناء دون أن أشهد عرسك؟" أواه .. أنَّى كان يمكنني الخلاص يا ترزياس؟

ترزياس: إن النفس الأمارة بالسوء كثيراً ما تخادع صاحبها يا أوديب[28].

   أليس هذا ما حدث بالضبط مع أوديب العراق؟ فما أن فكر - ولو بينه وبين نفسه- بالانسحاب وإصلاح خطئه حتى تلاحقت الأحداث، فهذا يهدده حتى لو انسحب، وهذا يشيد بقوته التي لا تقُهر، وآخر ينفي احتمال وقوع الحرب.. الخ. حتى وقعت الجريمة التي لا تغتفر. تماماً كما حدث مع أوديب الذي ما أن فكر برفض الزواج حتى احتوشه وصفاء القصر، فهذا يغسله وهذا يطيبه وهذا يمشط شعره.. حتى إذا دخل عليها ورآها شابة في متبل العمر، محا الشيطان من قلبه كل أثر لاحتمال أن تكون أمه، وصوَّر له أن أمه إنما هي ميروب -التي ربَّته- والتي لاشك أنها عاتبة الآن لأن ابنها لم يدعها لتشهد عرسه.

   وهكذا فالرمز في المسرحية لا يتوقف عند حادثة واحدة من واقعنا بل على الواقع ككل. وقد نبَّه المؤلف نفسه إلى ذلك حين قال:

" وهكذا تستطيعون أن تمضوا في استنباط وجوه الشبه بين هذه المأساة كما صورتها المسرحية وبين واقعنا العربي، لا على أساس الرمز الجزئي الذي يخص كل شخص أو كل حدث في أحدها بشخص أو حادث في الآخر، ولكن على طريقة الرمز الكلي الشائع في المسرحية كلها."[29]

   وهكذا نستطيع تطبيق هذا الرمز على كل الأحداث المعاصرة التي تمر بها الأمة العربية. ولعل آخرها - حتى الآن - موضوع السلام بين العرب واليهود. فهل يمكننا القول أن الصلح الذي عقد بين الفلسطينيين واليهود قد حدث بمحض اختيار الفلسطينيين والعرب من ورائهم، أم أنها حلقة في سلسلة النبوءات المتلاحقة التي ينفذها أوديب مختاراً وهي إنما تنصب في سياق الخط المرسوم له مسبقاً، وفق نبوءة ‍‍أحكم تدبيرها؟


[1] - د. عز الدين اسماعيل: قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر، ص 63

[2] - المرجع السابق، ص 63

[3] - المرجع السابق، ص 63-64

[4] - المرجع السابق، ص 64

[5] - المرجع السابق، ص 64

[6] - المرجع السابق، ص 65

[7] - المرجع السابق، ص 66

[8] - المرجع السابق، ص 374

[9] - سورة البقرة، الآية 168، 169

[10] - د. عز الدين إسماعيل: قضايا الإنسان، مرجع سابق، ص 124

[11] - المرجع السابق، ص 126

[12] - المرجع السابق، ص 126، والمسرحية ص 24

[13] - المرجع السابق، ص 126-127

[14] - المسرحية ص 25

[15] - المسرحية ص 31

[16] - المسرحية ص 32-35

[17] -المسرحية ص 30

[18] - المسرحية ص 97

[19] - المسرحية، المشهد الأول من الفصل الثالث، ص 112-177

[20] - د. عز الدين إسماعيل: قضايا الإنسان، مرجع سابق، ص 128

[21] - المرجع السابق، ص 129

[22] - المرجع السابق، ص 130، والمسرحية ص 43-44

[23] - المسرحية ص 60

[24] - د. عز الدين إسماعيل: قضايا الإنسان، مرجع سابق، ص 132

[25] - علي أحمد باكثير: فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية، مكتبة مصر، الطبعة الثالثة، يناير 1985م، ص 58

[26] - المرجع السابق، ص 91

[27] - د.عز الدين إسماعيل: قضايا الإنسان، مرجع سابق، ص 132

[28] - المسرحية، ص 46-47

[29] - علي أحمد باكثير: فن المسرحية، مرجع سابق، ص 92