وضحة والزمن الجميل

clip_image002_8a583.jpg

صدرت رواية "زمن وضحة" للأديب جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء في حيفا عام 2015. وتقع الرّواية التي صمّم غلافها شربل الياس في 224 صفحة من الحجم المتوسّط.

هل حقّا كان ذاك الزّمن جميلا؟ أم أنّه كان قاتما مريرا، كما وصفه الكاتب في روايته؟

 تدور أحداث رواية زمن وضحة في مكانٍ ما في الرّيف الفلسطينيّ في الفترة التي تلت النكبة الفلسطينيّة، في خمسينات القرن الماضي، فما زال الرّيف حينها مثقلا بأعباء الجهل التي حملها على كاهله ربما لعقود طويلة، انزوى فيها العلم وبرزت العادات الجاهليّة التي كانت تحكم مجتمعا عمّته الأميّة، فرزح الجميع تحت عصا التّخلّف، وخاصة النّساء اللاتي هنّ الحلقة الأضعف.

كان الكاتب جريئا في طرحه، تناول العادات والتّقاليد السيّئة، وفضحها بصورة جليّة دون مواربة، عن طريق سرده لكثير من الأحداث التي كانت تحدث فعلا في قرانا. فعندما تقرأ هذه الرّواية، تتذكّر جميع الحكايات التي سمعتها مرارا ومرارا تتردّد وكأنّها كانت جزءا من الحياة اليوميّة لشعب عانى من الجهل والأميّة.

وفي هذه الرّواية لا نرى بطولات الشعب الفلسطينيّ الذي قاوم الاحتلال، ولا نلحظ عذابات اللاجئين، إلا بشكل محدود جدّا. وبالمقابل، نرى المآسي التي لم يكن للاحتلال ولا للنّكبة دور مباشر فيها، بل كانت نتيجة طبيعية لعصور من الجهل والتّخلف، وهذا خروج عن النّسق العامّ لمن يكتب عن تلك الفترة، ووضع للأمور في نصابها. فبينما كان المجاهدون يقارعون العدوّ، كان هناك أناس آخرون يعيشون إرثا طويلا من الانحطاط لا يقلّ خطره عن ذاك العدوّ، وربّما كان الاحتلال نتيجة حتميّة للجهل والظّلم الذي وقع على الضّعفاء وخاصّة النّساء.

يركّز الكاتب في روايته على المرأة، من خلال شخصية وضحة ورمّانة وغيرهن؛ لأنّ المرأة هي أكثر من يعاني من المشاكل الاجتماعيّة. ولكنّها هي أيضا من ينقل هذا الإرث السيّء عبر الأجيال؛ فالمرأة هي الجلاد تماما مثلما هي الضحيّة، يبدو أنّها اعتادت العيش تحت سياط مجتمع ذكوريّ متسلّط، وغدا دورها عدّ السياط  ونقل السّوط من يد رجل إلى آخر تربّيه كي يمسك بهذا السّوط ويبدأ بجلدها من جديد.

ونتساءل هنا، لماذا اختار الكاتب أن ينبش هذه الصّفحة من تاريخنا، وينكأ الجراح التي قد نظنّ أنّها اندملت. فالجهل قد غاب من مجتمعنا، والأميّة تكاد تنعدم، ومعظم العادات التي تحدّث عنها الكاتب ذهبت إلى غير رجعة. لكنّ المتفحّص للمشاكل الاجتماعية التي تدور في أيامنا هذه يجد أنّها ما زالت ترتكز على ذلك الإرث القديم. وإلا، لماذا تقتل الفتيات بدعوى الحفاظ على شرف العائلة؟ ولماذا تنشأ الشّجارات بين العائلات وتبرز العصبيّة المقيتة كلما حصل خلاف ولو كان بسيطا. أرى أنّ الكاتب أحسن صنيعا بتذكيره بتلك العادات والتّقاليد البائدة، لأنّه لا بد من الانتباه إليها واجتثاثها من جذورها إذا أردنا أن نعيش في مجتمع نظيف خال من العنف والعصبيّة.

ونرى أن الكاتب ركّز في روايته على العادات السّيئة في المجتمع، وأغفل الكثير من العادات الحسنة التي كانت تصاحبها، ولم يذكرها إلا بشكل هامشيّ، فنلحظ قيمة العفو والكرم، خلال أحداث الرواية، لكنّ الصّفات السلبيّة للمجتمع تطغى عليها. حبّذا لو يركّز الكاتب على هذا الجانب في إصداراته القادمة، فحتّى نستطيع تمييز الغثّ من السّمين لا بد لنا من التعرّف على الخير الذي كان موجودا. وكما أنّ الكثير من العادات السيّئة بدأت تختفي، فالعادات الحسنة، مثل روح التّعاون والعمل الجماعيّ والمحبة والتّكافل، بدأت تتلاشى أيضا، وأصبحت مهدّدة بالاندثار تحت وطأة التّغريب، فأصبحنا كالغراب الذي أراد أن يتعلم مشية القبّرة فلا هو أتقنها ولا عاد يستطيع الطّيران.

يظهر الطّبيب ممدوح فجأة في القرية، ويبدأ العلم يغزو الجهل ويدحره، ويستطيع الطّبيب وزوجته ريتا أن يُحدثا تغيّرا نوعيّا في حياة القرية وفي زمن قياسيّ. فعندما يظهر نور العلم ينقشع الظّلام، كالفجر يمحو عتمة الليل. لكن، لماذا اختار الكاتب الطّبيب ممدوح الذي تعلّم في لندن والذي يتسلّح بالعلم الغربيّ، وربما يتطبّع ببعض العادات الغربيّة هو وزوجته، ليحمل راية الإصلاح! الغرب لم يحمل لنا غير الاستعمار والدّمار. والتّخلّي عن عاداتنا- حتى ولو كانت سيّئة- لصالح الأفكار الغربيّة الدّخيلة لم يكن يوما هو الحلّ الأمثل، بل جلب مزيدا من المشكلات. حبّذا لو كانت هناك  شخصيّة أخرى من أهالي البلدة أو من خارجها تحمل راية التّعليم والإصلاح بجانب الطبيب، مع حرصها على ثقافة المجتمع ودينه وعاداته وتقاليده، فكثير ممّن حملوا راية الإصلاح في قرانا الفلسطينيّة وحاربوا البدع والجهل كانوا ممّن تلقى تعليمه في بلاده، ودرس ثقافته ودينه، وأدرك مقدار ابتعاد النّاس عن روح دينهم وعقيدتهم، فأنار لهم عقولهم، فتركوا العادات القبيحة وتشبّثوا بعقيدتهم بعيدا عن الجهل والتّخلّف. أمّا مَن حمل راية التّغيير مصادما لعقيدة الأمّة ودينها فلم يجلب لها غير التّبعيّة والدّمار، وإن غلّفها بغلاف من الإعمار والتقدّم.

أعجبتني طريقة حلّ النّزاعات في القرية، لكنّني لاحظت أنّ المعارضين دوما يرضخون للأمر الواقع ولا يقاومون ولا يحيكون المكائد، وهذا غير واقعيّ، فالمعارضون في العادة أكثر شرّا وإصرارا على باطلهم. كنت أتمنى أن أرى شخصيّات تعارض بقوّة وتحاول تعطيل المشاريع بدهاء، كما يحدث دوما، فهذا يجعل الأحداث أكثر واقعيّة، ويجعل القارئ أكثر انحيازا لجانب الحقّ، وأكثر استمتاعا ورضا عندما يُهزم الباطل.

تحمل الرواية اسم وضحة، لكنّ وضحة لم تكن الشّخصيّة الرئيسيّة في الرّواية ولا محور الأحداث فيها. تتعرّض وضحة لمشكلة في البداية، عندما يعترضها إسماعيل أبو بسطار، وتدرك أن مصيرها سيكون مثل بنات جيلها: الظّلم والاضطهاد والإذلال، لكنّ أمورها تسير بشكل سلس حتى نهاية الرّواية إلا من المشكلة البسيطة التي حدثت يوم زفافها، عندما حاول أحد أبناء عمومتها أن يتبدّى بها. كان القارئ يتوقّع أن تعاني وضحة بشكل أكبر، فمثلا لو أنّ مشكلة تبدّي ابن عمها يوم زفافها أخذت أبعادا أكبر ولم تحلّ بهذه السهولة، لزاد ذلك من تشويق الرّواية وشدّ القارئ بشكل أكبر، وجعله ينحاز إلى حركة التّغيير في المجتمع بشكل أقوى، وهو يرى بطلة الرّواية تعاني الأمرّين من عاداته.

 لكن يبدو أنّ الكاتب قصد بزمن وضحة الزمنَ الذي شهد التّغيير في سلوكيّات المجتمع، فجعل وضحة تعاصر الجهل، ثم تنتقل لتعيش حياة أكثر حريّة. فكان بحقّ زمن وضحة وليس زمن رمّانة التي طحنتها رحى التّخلّف والجهل.

ولا يقتصر الكاتب على ذكر العادات التي كانت تظلم المرأة، بل تعدّى ذلك إلى عادات أخرى مثل التطبّب عن طريق الكيّ بالنّار، والعزوف عن التّداوي لدى الأطبّاء وفي المستشفيات، وعادات النّاس عند وفاة شخص ما، وكذلك بناء البيوت، مما أضاء جانبا هاما من جوانب الحياة الاجتماعيّة في تلك الفترة. واعتمد الكاتب في ذلك على أحداث يوميّة، يمكن أن تحدث في أيّ مجتمع، وعلى الحوار البسيط باللغة المحكيّة بين شخصيّاته، واستخدم التّعبيرات والأمثال الشعبيّة التي كانت شائعة في تلك الفترة، ممّا أعطى الرّواية مصداقيّة كبيرة، ورسم صورة حيّة، ونقل القارئ إلى هناك، إلى ذاك المكان وذاك الزّمان وكأنه يرقب الأحداث ويعايشها.

ومن أكثر ما لفت انتباهي في الرّواية حكاية عارف، مجنون القريّة، والذي لم يكن مجنونا أبدا، وإنّما فرض أهالي القرية عليه الجنون بسبب يتمه وضعفه، وإهماله عندما كان صغيرا حتّى عاد يتصرّف كالمجنون. وأكاد أجزم أنّ في كل قرية وفي كلّ حارة كان هناك أناس مثل عارف ألجأهم المجتمع إلى الجنون، مع أنهم كانوا كاملي العقل، لكنّ الاستهزاء بهم وتوبيخهم دفعهم إلى الاستمرار في دور المجنون. نحن ما زلنا نقتل المواهب ونستهزئ بالمبدعين؛ لأنهم يختلفون عنّا؛ فنقتل ابداعهم في مهده، ونلجئهم ليكونوا تماما مثل عارف مجنون القرية.

يعود عارف عاقلا متعلّما في النهاية، يضيء العلم طريقه كما أضاء طرقات القرية، ويختفي الجهل خلف أعمدة الكهرباء التي أنارت القرية، وتحت الاسفلت الذي رصف شوارعها. لكن هل ذهب هذا الجهل إلى غير رجعة أم أنّه ما زال قابعا هناك داخل نفوسنا يخرج إلى السّطح كلما برزت مشكلة وحلّ خطب؟

وسوم: العدد 643