الدولة المؤقتة .. كيان مرفوض
د. لطفي زغلول
هروبا من استحقاقات الدولة الفلسطينية ، أو ما يحلو للبعض تسميته حل الدولتين ، ومن مجمل ما يترتب على العملية السلمية الحقيقية التي يطالب بها الفلسطينيون ، طفح على سطح القضية الفلسطينية إفراز غريب عجيب ليس جديدا ، وقد نادي به بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينية ، مفاده دولة فلسطينية مؤقتة ، ريثما ، على حد زعمه ، يوجد حل للقضية .
السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح : لماذا هذا الطرح ، وماذا يخفي وراءه من نوايا مبيتة ؟ . الجواب عن هذا السؤال لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة ورأي ورؤيا . إن إسرائيل في ظل حكومة اليمين المتطرف ، وتحت ظلال الحكومات التي سبقتها أيا كان لون طيفها السياسي ، لا تريد أن تجد حلا لكل استحقاقات العملية السلمية ، ولا للقضية الفلسطينية .
سواء كانت خارطة الطريق ، أو اللجنة الرباعية الدولية ، أو العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية " أنابوليس " والإقليمية ، أو تلك الزيارات المكوكية والرسمية ، أو الإجتماعات الثنائية والثلاثية ، أو الإدلاء بالتصريحات أو غيرها من الرؤى الأميركية المعطلة جراء لا مبالاة مقصودة ، لم تعد خافية على أحد .
بداية لا بد من تفسير لمفهوم هذه الدولة المؤقتة التي ينادي بها نتنياهو ومن قبله ساسة إسرائيليون كثر ، والتي يرفضها الفلسطينيون رفضا باتا . إن أول ما يتبادر إلى الأذهان أن هذه الدولة هي إبقاء على الوضع الراهن ، بمعنى كنتونات مقطعة الأوصال ، ليس هناك من رابط بينها ، محكومة بمئات الحواجز الأمنية التي تحاصر المدن والبلدات والقرى والمخيمات الفلسطينية .
في ظل هذا الإبقاء على الوضع الراهن ، يستمر الإستيطان في تسرطنه زاحفا ليس له حدود يقف عندها . لقد بات جليا أن الإستيطان الإسرائيلي له نوايا جغرافية وديموغرافية شريرة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ، ومصادرتها ، وهدم منازلهم .
الدولة المؤقتة ليس لها حدود آمنة معترف بها . ليس لها عاصمة يصر الفلسطينيون أن تكون هي القدس الشريف . معابر هذه الدولة المزعومة تكون في أيدي قوات الإحتلال الإسرائيلي ، وحقيقة الأمر ليس لها أصلا معابر خاصة بها . مصادرها الطبيعية " مياهها –– هواؤها – ثرواتها الأخرى - مجالاتها الجوية " ، كل هذه وأكثر من ذلك تكون في أيدي الإحتلال .
يبقى أمر هام جدا ، يتعلق بالإحتلال الذي لم يعلن نتنياهو أنه يعترف بوجوده ، أو أنه صراحة مستعد لإنهائه قبل كل شيء ، أو أن عهد الإجتياحات للمدن والبلدات والقرى والمخيمات الفلسطينية ، وما ينجم عنها من اغتيالات واعتقالات ، قد توقف نهائيا إلى غير رجعة ، أو أن مئات الحواجز الأمنية التي تخنق الفلسطينيين سوف تزول إلى الأبد .
واستكمالا فإن حق العودة الذي كفلته الشرعية الدولية ليس مطروحا في ظل هذه الدولة المزعومة ، وبطبيعة الحال لا يعلم إلا الله عز وجل ، ما هو مصير آلاف الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الإحتلال .
إن الفلسطينيين ليسوا من السذاجة بحيث تنطلي عليهم مثل هذه الطروحات المشبوهة . ألا يكفيهم أنهم لم يعودوا إلا بخفي حنين جراء اتفاقيات أوسلو من العام 1993 حتى اليوم ؟ . ألا يكفيهم هذه الهجمة الإستيطانية الشرسة التي افترست وطنهم ؟ .
ألا يكفيهم الوعود العرقوبية للرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الإبن ، حين مناهم بالدولة ؟ . ألا يكفيهم تعاجز الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما أمام موجات الإستيطان المتتالية ؟ . وأخيرا وليس آخرا : هل هناك من يضمن للفلسطينيين مثقال ذرة مما يعدون ؟ .
أسئلة كثيرة يسألها المواطن الفلسطيني ، وهو يعلم علم اليقين حقيقة الإجابة عن هذه الأسئلة . إنها المماطلة ، وعدم الجدية ، والخداع ، وسياسة فرض الأمر الواقع ، وغض النظر عن كل ما يجري من انتهاكات لأبسط بسائط حقوق الفلسطينيين الذين لم يسجل التاريخ مأساة لا أطول ولا أعمق من مأساتهم ، ولا نكبة في حجم نكبتهم ، وهي تدخل عامها الثالث والستين .
لقد كثرت وتعددت الجهات التي تردد مصطلح دولة فلسطينية . وإذا كان الجميع قد اتفقوا على شكل المصطلح وهو دولة فلسطينية ، إلا أن الأهم والبدهي في الأمر أن المضامين مختلفة . ولنحصرها بين مضمونين . الأول وهو المضمون الفلسطيني العربي والثاني وهومضمون الآخرين ، وتحديدا الولايات المتحدة ومعها إسرائيل .
بداية ثمة أساسيات لا بد أن ننطلق منها في الحديث عن الدولة الفلسطينية . إن قيام دولة فلسطينية لا يشكل الحل النهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، كما أنه ليس هو الحل النهائي . وثاني هذه الأسس إن الدولة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من الحل ، وتشكل مساحة ما منه ، إلا أنها لا تشكل كل الحل . وثالث هذه الأسس ، إن هذه الدولة لا ينبغي لها إلا أن تبحث تحت ظلال بحث القضية الفلسطينية بأكملها .
إن الدولة الفلسطينية حتى تكون دولة بمعنى الكلمة ، ولكي تستوفي شروط المفهوم الجيوسياسي الديموغرافي الذي تقوم على أساسه الدول ، لا بد أن تكون قادرة على رسم خارطة سيادية لمساحة من الأرض الفلسطينية ليست أقل من حدود العام 1967 بما فيها القدس التي تتعدى كونها عاصمة سياسية للفلسطينيين إلى كونها جزءا رئيسا من التاريخ والعقيدة الإسلاميين اللذين يشترك فيهما أكثر من مليار مسلم .
في هذا السياق لا بد من تحديد إطار مرجعي لهذه الدولة ، وهو هنا الشرعية الدولية المتمثلة في قرارات مجلس الأمن الدولي "194 ،242 ،338" ، وكل القرارات الأخرى التي ظلت معلقة منذ صدورها وحتى اللحظة الراهنة . وما دام الحديث عن القرارات الدولية باعتبارها المرجعية الأساسية ، فإن حق الرعاية لمشروع إقامة الدولة يفترض إفراد مساحة معقولة لمشاركة الأمم المتحدة ورعايتها ، كون القضية الفلسطينية لها تاريخ طويل وعريق مع هذه المنظمة الدولية .
وانطلاقا من الشرعية التي يفترض أن تمثلها منظمة الأمم المتحدة ، فإن الدولة الفلسطينية إطار سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي للإنسان الفلسطيني سواء كان مقيما على أرض الوطن ، أو أنه كان في الشتات القسري . اذ ليس من المنطق والعدل أن ينقسم الفلسطينيون إلى فئتين ، فئة تحظى بوطن ودولة ، وفئة ثانية وهي الغالبية العظمى لا تحظى بهما ، وتظل تعيش غريبة على هوامش دول وشعوب أخرى وعالة عليها تحمل في جوارحها غصة الحرمان ، وتصلى جحيم النفي والشتات .
إن الدولة الفلسطينية العتيدة من منظور فلسطيني ، وليدة شرعية ومشروعة للقضية الفلسطينية ، يفترض أن لا يشوبها أي تشويه في شكلها أو مضمونها . وهي بكل بساطة لا يمكن أن تتعايش مع احتلال ولا استيطان له نصيب الأسد في ترابها وهوائها ومائها وباقي مقدراتها . هذه الدولة لها حدودها ومعابرها وعاصمتها وهي القدس التي تحتضن أقدس المقدسات الإسلامية التي كان الشعب الفلسطيني أمينا عليها طوال العصور .
إنها دولة ذات تواصل جغرافي في كل الجهات وليس عبر ممرات ودهاليز أو جسور أو أنفاق . إنها دولة مستقلة ذات سيادة معترف بها من قبل جيرانها أيا كانوا ، إضافة إلى اعتراف الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة . وهي قبل كل هذا وذاك حق مستحق ، لا منة من أحد ولا تكرم أو تفضل ، كائنا من كان .
واستكمالا ، إن الدولة من منظور فلسطيني جامعة ومانعة . فهي جامعة بمعنى أنها ليست مجرد مسمى جغرافي أيا كان شكله ، وإنما دولة تتمتع بكل الأسس الحقيقية للدول . وأولاها السيادة على الأرض ما عليها وما تحتها وما فوقها ، وعلى سمائها ومعابرها . ولها عاصمتها وهي القدس الشريف . وهي متواصلة بكل أجزائها وأطرافها مهما بعدت عن بعضها .
وأما كونها مانعة ، بمعنى أن تركيبتها وأسس تشكيلها تحول دون الإنتقاص من سيادتها قيد أنملة ، أو وقوعها في مهب الإنتهاكات الإحتلالية التي اعتاد الفلسطينيون عليها إبان الإحتلال الذي يشترطون إنهاءه بكل إفرازاته وتداعياته . وأن تكون هناك آلية دولية ما تؤكد على حماية هذه الدولة من أي تهديد لأمنها وأمانها وسلامة مواطنيها . هذه هي الدولة التي يريدها الفلسطينيون ، وغيرها مرفوضة أيا كان شكلها ومضمونها .