رحلة -لا بد منها- على القاهرة

يسري الغول

[email protected]

أمام صالة أبو يوسف النجار، تتوقف العربة، أنزل باتجاه الصالة مثقلاً بحقيبتي الكبيرة، أتنقل فيها من مكان إلى آخر علني أجد أحداً يساعدني باجتياز المحنة/ الصالة، تلك الصالة التي قضيت فيها ساعات طوال بانتظار النداء على اسمي لركوب الباص المتجه لمعبر رفح (وهو إجراء جديد اتخذته الحكومة في غزة، لتسهيل مهام السفر، بسبب تحجيم عدد المسافرين من طرف الجانب المصري) حيث وصلت المعاناة أن يصبح الفلسطيني عالقاً في أرضه وسمائه، متملقاً كي يصل الباص بسلام، ولكننا للأسف نصل الباص بلا سلام ولا ما يحزنون.

قبل أن أدلف إلى الباص، يقوم بعض الشباب بالتطوع لوضع الحقيبة داخل الباص وكتابة اسمي عليها دون أن ندفع أي مبلغ من المال كما يجري في الجانب المصري، فاستغرب كثيراً، لمجرد فكرة التطوع للتخفيف عن المسافرين.

أجلس بهدوء بعد ذلك، بقربي ترقد امرأة عجوز، متعبة، مرهقة، أسمع تنهداتها، همساتها، تتحدث إلى ابنها أو حفيدها بأن الصالة المصرية هي أرحم بكثير من صالة أبو يوسف النجار (وهو يعني أيضاً بأن الصالة المصرية بها جانب كبير من المعاناة، وهو ما سأكتشفه لاحقاً). في تلك اللحظات تتطوع زوجتي بمهاتفتي – ولا أخفيكم سراً بأنني كنت منشغل عنها بكتابة تلك السطور- فلدي رغبة عارمة بأن أدون لكم رحلتي كي تكونوا معنا في هذا الضباب، علكم تنشدون لنا نشيد الحياة. ولعلي يجب أن أذكر بأن رحلتي من غزة إلى صالة أبو يوسف النجار في خانيونس كانت رائعة رغم أنه كان ينقصها صوت فيروز الحميمي. فقد ظل معي أخي عمر وصديقه أحمد حتى وجدت اسمي مدوناً على رأس كشف المسافرين.

يغني هاتفي المحمول مرة أخرى، تهاتفني زوجتي مجدداً، صوت ابني الصغير أسامة يصرخ كالعادة، يأتي الكمسري مع أنغام الصراخ، ليحصل على ثمن التذاكر، و…

أتوقف عن الكتابة بسبب شوارعنا المدمرة، المريضة، لكن ما هي إلاّ لحظات حتى تعود ريما لعادتها القديمة، وأعود للكتابة مجدداً، فالشوارع المغبرة، والمرأة التي بجواري وسجالاتها العائلية، والرجل الذي كان منفعلاً بسبب فقدان أغراضه وحقائبه، وزوجته المنقبة ذات الصمت المريع، يدفعونني للكتابة رغم أنفي، لكن ومع المطبات الموجودة في شوارع خانيونس ورفح يلح عليّ سؤال دائم: هل أستمر بالكتابة أم أقوم بالتقاط بعض الصور لأماكن تستثيرني؟ أعتقد أن الكتابة أفيون لا بد منه.

جارتي العجوز تنظر نحوي بنوع من الاستغراب، حيث القلم لا ينطفئ، وعيناي متشبثتان بالدفتر، أحاول التقرب منها ومن ابنها، أصنع حديثاً بأي شكل، فتشغلني المرأة بالحديث عن كل شيء، ورغم ذلك أشعر بالمتعة في المتابعة.

على بوابة المعبر، ننتظر لدقائق معدودة ثم ندخل، أشتري شريحة فودافون المصرية وكرت شحن للرصيد، ننزل في مكان محاط بالأسوار بانتظار المناداة على الباص رقم 6 الذي جئنا به، يتمدد أحد الرجال لوهلة على طاولة موجودة بالمكان، نظراً لمرضه الشديد. لحظات أكتشف فيها أن الشخص المريض هو أحد أقرباء صديقي المهندس/ علي عكيلة (مدير مكتب وزير المواصلات في غزة)، بعد أن رأيت عمه المهندس ماجد عكيلة، حيث جلسنا قليلاً نتحدث عن هموم الشارع الغزي وواقع الحياة المتغير كل لحظة، فيخبرني المهندس ماجد بأن غزة لم تعد كما كانت، فغزة من سيء إلى أسوأ. وما إلى ذلك من حديث لا داعي لذكره الآن.

بجواري يجلس جارنا القديم (محمود مطر)، حيث سيتوجه للعلاج في القاهرة، نتحدث، محمود يكره الخروج من غزة، يدخن، أطلب منه بتصويري داخل المكان فيفعل. أقوم بتصويره أيضاً.

صدفة، وأنا أقوم بتحضير النقود داخل محفظتي، أكتشف بأن من باعني شريحة الفودافون ورصيد المحمول قد أعطاني 10 شواقل مزورة،  ففكرت كيف يمكن لي أن أتصرف وأنا لا أمتلك الكثير من الشواقل، حتى وجدت الحل ماثلاً أمامي، فقد كان هناك ماكينات للمشروبات الساخنة والمثلجة، فقررت استغفال الماكينة كما تم استغفالي لوضع حد لهزيمة منيت بها. وبالفعل ذهبت ومحمود، اشترينا زجاجتين من الكوكاكولا بقيمة 3 شواقل للزجاجة الواحدة، ويا للأسف إنهم يستغلوننا أيضاً، فهي لم تكن سوى مشروب من النوع الرديء (أبو الشيكل يعني)، ضحكنا، الاستغفال مطلوب في تلك الأماكن السياحية.

ينادي أحدهم على الباص رقم 5 الذي سبقنا بقليل، فأدرك بأن الأمور تسير بشكل جيد، دقائق تتجاوز ربع الساعة ينادي السائق علينا لصعود الباص، فنذهب ومن هناك إلى قاعة السفر في المعبر الغزي.

نلج القاعة، أجلس، أقوم بتصوير المكان، فيأتيني أحدهم ليطلب مني عدم التصوير، أحاول إقناعة، إلا أنه يقوم بتحويلي إلى شخص آخر وآخر، فأقرر أن ألتزم الأمر وأطفئ الكاميرا. ينادي موظف المعبر عليّ فأذهب، يقوم بختم الجواز، ومن ثم إلى آخر وصولاً إلى الحافلة التي تقلنا إلى معبر رفح المصري.

تسير بنا الحافلة قليلاً، وعند مدخل البوابة المصرية، ينتفض قلبي بقوة خشية من حدوث أي مشكلة عرضية يتم فيها إيقاف الحافلات والطلب بعودتنا إلى غزة مرة أخرى، ويطول الدعاء مع طول المدة التي تستمر لأكثر من ربع ساعة، بينما يلفح صهد الشمس الوجوه المتكدسة داخل الحافلة، والذباب يواصل دورته فينا.

الأحاديث تتكاثر في حافلتنا، يحاول كل شخص التحدث مع رفيقه في الجوار للقضاء على الملل الذي يدب في أجسادنا، يبلغني صديقي محمود بأن الأمور في مصر متوترة، وأن عدد القتلى في ارتفاع، فأدعو الله في سري بأن يحفظ مصر وأهلها وأن يجنبهم الفتنة والاقتتال الداخلي.

أثناء الدعاء يلج ضابط مصري ذو نظارة شمسية الحافلة، يتفقد جوازات السفر، ثم يأمر السائق بالدخول، وخلال ذلك وطوال المكوث في الصالة المصرية، أحاول إخفاء الدفتر خشية من سحبه مني، أو تمزيقه، كما أُقلع عن التصوير نهائياً.

وفي الصالة المصرية، نجد بأن الحافلات التي سبقتنا ما زالت موجودة، لم يتم إجراء معاملات أصحابها إلا لعدد قليل منهم فقط، ربما بسبب الروتين في تنفيذ المعاملات أو الإجراءات الأمنية المشددة هناك، وهناك لم يكن أمامي سوى الانتظار ثم الانتظار ثم الانتظار.

ولعلي في الصالة منيت بحالة من التشتت، بسبب مراقبة ومتابعة الأماكن التي يتم المناداة فيها على الأسماء. ففي الجنوب المناداة على الأسماء التي ستعبر مصر، بينما غرباً يتم المناداة على الأسماء للاستجواب أو التحقيق، لذلك أطلب من رفيقي محمود بالوقوف أمام الغرف الغربية لسماع أي من اسمينا بينما أقوم بالوقوف تجاه الجنوبية بانتظار المناداة على أي من اسمينا أيضاً.

أتوتر، أتألم بسبب تورم القدمين، ولقلة وجود المقاعد رغم اتساع مساحة القاعة لأكثر من 500 شخص، المهم يتم النداء على اسمي للمخابرات أو المخابرات العسكرية، أذهب، وهناك يسألني أحدهم: إلى أين أنت ذاهب وهل معك تذاكر الطيارة، وكم ستمكث في مصر وانتهى.

الحقيقة، انتابتني لحظتها رغبة غريبة بالعودة إلى الكتابة، فقررت بأن أفتح حقيبة الكتف، لأشتم من خلالها رائحة الزعتر الذي اشتريته لعمتي في القاهرة، فأستعيد طفولتي، حين كانت تلفحنا رائحة ساندوتش المدرسة مع بداية كل حصة حين نقوم بإخراج الكتب والدفاتر. تراودني الطفولة، وشقاوة المدرسة، تراودني أمي وهي تعطيني (الساندويشة) قسراً كي لا أجوع في المدرسة.

أكثر من ثلاث ساعات بانتظار جواز السفر، يسمحون لنا بعدها بدخول مصر، فأخرج أنا ومحمود وعائلته الصغيرة، وأطلب من أحد الضباط السماح لي بالتصوير في المكان، إلا أنه يرفض ويقول: (لو موبايل ممكن، نعتبرك بتكلم وخذلك كم صورة، لكن كاميرا مأدرش)، في الخارج يسمح لي الضابط بالتصوير. وحين أشاهد مشاجرة بين البدو وأحد المسافرين أقوم بتصويرها، فيأتيني جندي مصري شاب (صُغنن أوي) يسألني:

-       أنت بتصور إيه؟

أجيبه بأنني كاتب ومدوِّن وأقوم بتصوير المكان لرغبتي بتدوين ذلك حول مصر والرحلة منها وإليها، إلى أن يقتنع ببما أقول، فيرد بأدب:

-       أهلا وسهلاً بِيك في مصر.

خلال ذلك يقوم محمود وزوج أخته بالتحدث مع السائقين، إلى أن يأتينا حسن من بدو رفح المصرية، ذلك المماطل، الذي يفرض نفسه على السائقين بحجة أن دوره قد جاء، فيحدث بيننا وبينه سجال، إلى أن أقوم بوضع حل وسط يتمثل في أن ندفع له 75 جنيهاً عن كل واحد فينا.

نركب العربة، وتنطلق بنا بعيداً عن الضجيج والحر والإرهاق، ولكن -للأسف- تتوقف العربة كل لحظة لأن حسن يتفقد سيارة صاحبه التي تعطلت، ثم يتوقف مرة أخرى لتعبئة السيارة في أحد محطات البترول. ثم بعد أن نسير قليلاً تتعطل عربة السيد/ حسن ونقف لأكثر من نصف ساعة بجوار إحدى شركات الموانئ البحرية، نتخفف من الأحذية التي يطن ألمها في رؤوسنا. نصلي المغرب والعشاء، يؤمنا رجل صعيدي دمث الأخلاق، ثم نمضي، نتشاجر داخل العربة مع حسن الذي يماطل في السعر ويتراجع، يقول أنه يريد 85 جنيهاً، يوقفنا مرة أخرى لتناول الطعام في أحد المطاعم، ولتنظيف السيارة. و… و.. إلى أن نصل القاهرة بسلام.

صبيحة الثلاثاء 11/10/2011

القاهرة، المهندسين، ميت عقبة.

غفوت بعد وصولي منزل عمتي بالقاهرة، وجلوسي معهم لفترة وجيزة،  كانت التعب قد استبد بجسدي، حتى باتت كل سكنة فيه كينونة ألم. ولم أعد أشعر بشيء، ونظراً لأنني لم أستطع أن أدون ما جرى معنا بعد ذلك، فإنني أعود لكم أصدقائي للحديث عن قاهرة المعز، وسائق العربة حسن الذي أتعبنا لدرجة كبيرة، بسبب مَكرِه وكذبه وطمعه، فلولا وجودنا لقام حسن باستغلال اثنتين من النساء الغزيات، اللواتي كن معنا بالعربة.

طوال طريقنا بالأمس مع حسن، كانت هناك أماكن ومعالم كثيرة رائعة بحاجة إلى تصوير، لكنني كنت متعباً حد الموت بسبب رحلتنا التي استمرت تسع ساعات بسيارة السي حسن، وحين وصلنا نادي الترسانة، وقفت بانتظار ابن عمتي، وقد كانت حالتي يرثى لها، إلى أن شَرَّف حبيبي إياد وذهبنا إلى بيتهم، نتسامر، نتناول العشاء اللذيذ الذي كان في انتظاري. نشاهد مسلسل الشيخ الشعراوي لحسن زهرة، أقصد حسن يوسف، ثم أنام.

ورغم أنني مكثت ثلاثة أيام في القاهرة، إلا أنني أعتقد –وهي وجهة نظر ليس إلا- بأن القاهرة لم تكن كما زرتها قبل 10 أعوام حين مكثت فيها أسبوعاً قبل أن أتوجه إلى ألمانيا، فهي تكتظ اليوم بالسكان، حتى السيارات أضحت أكثر من البشر، وهي بحق بحاجة إلى سواعد أبنائها، كي تحيا من جديد، وتعود إلى نضارتها وحيويتها.

أختم، بأنني شعرت بأن مصر تعيش الهاجس الأمني، فكثيراً ما كنت أفكر بتصوير إحدى الأماكن، إلا أنني أقلع عن ذلك خشية من أن يتم مصادرة الكاميرا، أو حتى اعتقالي، لأن مصر لم تعد كما كانت.

لقد كانت رحلتي إلى القاهرة -لا بد منها- كي أصل غرناطة بسلام، وهو ما سأحدثكم عنه لاحقاً، فبعد عودتي من اسبانيا، ودخولي الأراضي المصرية عانيت كغيري من الغزيين خصوصاً والفلسطينيين عموماً مهزلة الاحتجاز لساعات طوال في غرفة الترحيل التي تبدو كسجن مظلم قاس وقارس، ولست أدري من السبب في ذلك: الرئيس أم حماس أم مصر أم إسرائيل أم أمريكا أم الشيطان؟؟!