مشاهداتي في أنجولا 4 + 5

أشرف إبراهيم حجاج

مشاهداتي في أنجولا

أشرف إبراهيم حجاج - إعلامي – القاهرة

[email protected]

[email protected]

الحلقة الرابعة

ما أشد الفراق ، وما أقساه وأمرّه على النفس ، وخصوصا إذا كنت قد تركت في وطني الحبيب مصر طفلين حبيبين إلى قلبي ، وزوجة عاشت معي نموذجا للحب والوفاء ، ويفصلني عن أسرتي ــ هذه الصغيرة ــ مسافات شاسعة تقدر بآلاف الأميال . وأصبح رفيقي هو الشوق ... الشوق بلهيبه وحرقته ، وإن وجدت فيه بعض السلوى .

وأجلس في مسكني بــ " لواندا " عاصمة أنجولا ، أمد نظري عبر النافذة الطلة على الشارع الطويل ، وأجدني متفاعلا مع بيت من الشعر كنت أسمعه كثيرا جدا من أستاذنا الدكتور جابر قميحة وهو :

 وإني لتعروني لذكراك هزة      كما انتفض العصفور بلله القطر .

وجدتني أردد هذا البيت بيني وبين نفسي كأنني أنا ناظمه ، ومررت يدي على وجهي فرأيته قد غسل بدموعي . أين أنت يا ولدي الحبيب إبراهيم ؟ ... أين أنت يا ولدي الحبيب محمد ؟ ... أين أنت الآن يا زوجتي الحبيبة ؟ ... ترى أهناك من يزعجكم ؟ أو ما يضايقكم ؟ قلبي معكم ، وروحي فداكم .

آه ... آه ... إنها الغربة وما أقساها ، وما أمرّها .

وفجأة قفزت بأشواقي إلى وطننا الحبيب مصر . وصدق شوقي إذ قال :

 وطني لو شغلت بالخلد عنه      نازعتني إليه في الخلد نفسي

**********

ورأيتني تشدني نفسي إلى الثورة الخالدة ، الثورة التي شدت أنظار العالم كله وأصبحت نموذجا يحتذى ، ثورة هزت الدنيا كلها ، وصنعت لمصر تاريخا جديدا .

وفكرت أن أنظر إلى أحداثها نظرة عدل وإنصاف :

فرأيت أن هذه الثورة اتسمت بملامح ستخلدها أبدا ، ومنها :

-        أنها تمثل تاريخا يكتب للأحفاد وللدنيا ، انتصار ثورة شعب بالكامل على يد شعب بالكامل ، منتصرا على قوى الطغيان بالكامل .

-        أنها تمثل بداية جديدة لبناء بلد جديد تملؤه الحياة .

-        أنها تمثل صفعة تاريخية قاتلة على وجه الظالمين .

-        أنها أعلنت عمليا انتهاء ثلاثين عاما من الذل والظلم والعار والاستعباد .

-        أنها مكنت المصري من أن يتمتع بجمال الطبيعة بعد أن استشعر الحرية .

-        وأنها أعلنت عمليا أن مصر للمصريين لا للحكام وأعوانهم ، من اللصوص والأثرياء .

**********

وبلسان العقل والإنصاف ، والإيمان بالله ثم الوطن آخذ على الثورة والثوار ما يأتي :

-        الاندفاع وراء الحماسة التي تغلب الاتزان في كثير من الأحيان ، فكثرت "الجُمَع " ( جمع جمعة ) : فهذه جمعة الغضب ... وهذه جمعة الثأر ... وهذه جمعة تصحيح المسار .... الخ .

-        انكار قاعدة التدرج في الاصلاح ، ومعالجة العيوب ، مع أن التدرج التشريعي قاعدة إسلامية أصيلة .

-        ظهور كثير من النفعيين والمأجورين من النظام السابق بين شباب الثورة ، وهؤلاء لا يهمهم إلا أنفسهم .

-        الخلو من برنامج إصلاحي متماسك ومعقول .

 **********

وتسألني يا عزيزي القارئ : وما علاقة كلماتك هذه بعنوانك الرئيسي ( مشاهداتي في أنجولا ) ؟ وأقول : إن المشاهدة يغلب عليها الرؤية البصرية ، ولكن ما ذكرته في هذه الحلقة يمثل " رؤية نفسية " ، نقلتها بأمانة لتكون حلقتي الرابعة في سلسلة مقالات . وأعيدك ــ يا أخي القارئ ــ إلى مطلع المقال :

ما أشد الفراق ، وما أقساه وأمرّه على النفس ، وخصوصا إذا كنتُ قد تركت في وطني الحبيب مصر طفلين حبيبين إلى قلبي ، وزوجة عاشت معي نموذجا للحب والوفاء ، ويفصلني عن أسرتي ــ هذه الصغيرة ــ مسافات شاسعة تقدر بآلاف الأميال وأصبح رفيقي هو الشوق ... الشوق بلهيبه وحرقته ، وإن وجدت فيه بعض السلوى.

( الحلقة االخامسة )

النظام والالتزام أصل في الإسلام

مقدمة : - 

إنها وقائع يشهدها التاريخ . فيها الجميل المستساغ ، وفيها الغريب الذي يدعو للأسى ، ولكنها على أية حال تحمل دروسا وتوجيهات ، وكتابتها يشعر مقدمها بأنه قد أدى ما يتطلبه دينه من أداء الكلمة الصادقة .

وفي الصفحات الآتيه  تلخيص لمشاهداتي في رحلتي للعمل بأنجولا عام 2011 . 

عالمنا العربي مليء بكل ألوان الفكر والإبداع في كل شيء . فكلما تذكرت عبقريات المسلمين في الحرب والسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول إزداد إيماني بأنه سيأتي اليوم الذي ستهيمن فيه عبقريات المسلمين على شتى مناحي الحياة ؛ فالبقاء للأصلح . ويبقى علينا واجب الامتثال للحق الذي جاء في قوله تعالى : " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ  "  الحج (41)   . 

ويدخل في مهمة المسلم مراعاة النظام ، والالتزام بالمنهج السلوكي السديد ،  والحرص على مواعيده ووقته مما فاضت به مواريثنا النيرة ، وصدق الإمام علي إذ قال : " فيا حسرة على ذي غفلة ، أن تكون أيامه عليه حجة ، وأن تسلمه أيامه إلى شقوة " .

وما ذكرته وجدته ، وعشته فعلا لا كلاما وأنا في أنجولا . وجدت هذا العًـلم المسلم ، فحينما يتحدث لا يكذب ، وحينما يتفق على شيء ينفذه على أتم وجه . حتى لو كان التعامل مع غير المسلمين .

فهنيئا لنا بديننا الذي جعل منا خير أمة أخرجت للناس . 

فهذا الرجل يمتاز بالحنكة التجارية حتى استطع أن يهيمن على اقتصاد هذه البلاد بنسبة كبيرة جدا . 

رُوي من أشخاص أنجوليين وعلى لسانهم أن منتجات الحاج قاسم تأخرت يوما عن التسويق فرتفعت كل الأسعار للمنتجات بصورة فادحة ، وقالت عنه بعض الصحف المغرضة : "  قاسم تاج الدين يقوم بتجويع الشعب الأنجولي " .

وأخذني العجب والأسى لعدم اهتمام هذه البلاد بشؤنها الداخلية ، حتى أصبحت سوقا مفتوحة لكل من يريد أن يتاجر في أي شيء .

كانت هذه التعليقات قد أثارت انتباهي وتعجبي لما يحول بيني وبين قلمي في هذه الأونة ، فكلنا ــ نحن المسلمين ــ جنود الكلمة البناءة ، نقولها في كل أوان وفي كل مكان ، فكل عامل مسلم في  هذه البلاد يعتبر نفسه جنديا في كتيبة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ... لقد رأيت فيهم الإصرار ، وصدق الانتماء الديني ، وحيوية الضمير بصورة عملية لا ينقضها ناقض .

كما أن الاغتراب ساوى بين الشباب والشيوخ في هذه السمة الخلاقة .

وأسوق في عجالة قصة موجزة تتلخص فيما يأتي :

كان الذي يقوم بمشاويرنا وقضاء مهماتنا سائق أنجولي يعمل في نفس الشركة التي أعمل بها ، ثم تم تعيينه سائقا خاص لي ولزميلي ورفيقي في العمل والسكن الاستاذ  تاج الدين ...  إن السيارة جميلة فكانت تحملنا ، وتحمل المعدات والمهمات . كان هذا السائق شديد الانتباه يعلم ما نريد مرة واحدة وبعدها هو الذي ينبهنا لما يجب عمله .  مع العلم بأن هذه لم تكن طبيعة الشعب الذي نتعامل معه ، فطبيعة هذا الشعب " أنه لا يعمل دون نداء أو أمر " . فأغلب من رأيناهم ، واختلطنا بهم يقبلون على الخمر أكثر مما يقبلون على الماء .

ونبقى ــ نحن العرب في أنجولا ــ نتخوف تخوفا شديدا من اندلاع حرب أهلية يكون الأجانب ضحيتها . علما بأن شركتنا في أنجولا تحمل أكبر قدر من أسهم الاقتصاد هناك ،  فتعتبر أغنى شركة في أنجولا كلها ، ومن ثم ستكون أول ما يتعرض للهجوم.    فكنا دائما متحفظين ولا ندري شيئا عن المخطط  المستقبلي لهذه البلاد ، فأصبحنا في لهفة شديدة لمتابعة أخبار هذه المظاهرات والتحركات السياسية في هذه البلاد .

وحكى لنا بعض الأنجوليين عن حرب أهلية سابقة فجرت بحرا من الدماء .

أعود بكم لسائقي المحترم " زَكال ".  فقد تعلم منا هذا الرجل كيف يكون المسلم طاهرا نظيفا دائما ، ثم أصبحنا ننتظم على مواعيده التي كدنا نضبط عليها ساعاتنا . لقد كنا مواظبين على الذهاب إلى المسجد ومعنا المصاحف ، لكن السائق كان يحمل الإنجيل دائما في يده وفي السيارة  ، علما بأن زكال كان ينبهنا لميعاد صلاة الجمعه كل يوم خميس لنستعد للصلاة في المسجد .

وذات يوم حضر زكال فرحا سعيدا ، فسألته عن السبب ، فقال : إن زوجته وضعت له بنتا جميله ، فسألته عن الاسم الذي اختاره لها ، فكان جوابه مفاجأة لي ، إذ سمى ابنته على اسمي " أشرف " ( !!!! ) فواضح أنه اختار اسمي ليطلقه على ابنته الوليدة .

حاولنا مرارا وتكرارا أن نوضح له أن هذا الاسم يطلق على البنين لا البنات دون جدوى . ولضعفي في اللغة البرتغالية استعنت بزميلي اللبماني " رامي السهلي"  الذي يتقن اللغة البرتغالية ليقنعه بما أردتُ ، وبعد جهد جهيد توصلنا لحل وسط وهو أن يسمي ابنته " شريفة " . وتنفست الصعداء ، وشعرت براحة عميقة لسببين :

السبب الأول : أنه حول المذكر إلى المؤنث .

والسبب الثاني : أن اختياره لاسم " شريفة " له دلالة إسلامية ومعنوية طيبة جدا .

وقلت الحمد لله إذ وجدنا انعكاسا لديننا عند رجل لم يسمع عن دين اسمه الإسلام من قبل .

وبمشيئة الله سيكون لنا لقاء آخر في الحلقة السادسة . والحمد لله رب العالمين .