رحلتي مع الشعر

في مهرجان الشعر العالمي بميليجين بكولومبيا

عارف خضيري*

[email protected]

كنت في زيارة سريعة لأسرتي في كوالالمبور في إبريل 2010م، وبينما كنا نجلس نتناول القهوة في حديقة المنزل إذا بابني أحمد الشاب الجامعي يهتف بفرح :

- أو حقا يا أبي أنك مسافر إلى كولومبيا؟

- كولومبيا؟ من قال ذلك ياولدي؟ بل أنا مسافر إلى جاكرتا لحضور مؤتمر هناك.

- لقد رأيت اسمك ضمن مائة شاعر مدعوين في مهرجان عالمى للشعر في مدينة ميليجين فى الفترة مابين 8 يوليو إلى 17 يوليو هذا العام.

- لكننى يابني لم أتلق أية دعوة منهم على الإطلاق.

وهنا تدخلت ابنتي عزة الصحفية في كوالالمبور، وقالت:

- دعني أتحدث مع منظمي المهرجان ياأبى لأتبين الأمر.

وفى مثل لمح البصر جاء الرد من فرناندو ريندون مدير المهرجان والذي أرسل دعوة رسمية لي كما أرسل خمس قصائد غزلية من أشعاري كانوا قد ترجموها منذ فترة طويلة إلى اللغة الإسبانية. وطلبوا مني أن أرسل لهم عشرين قصيدة ليترجموها ولتقرأ مع قصائدي الأصلية العربية والإنجليزية فى المهرجان. وكانت عملية الاختيار صعبة اضطرتني إلى أن أعيد قراءة دواويني كلها إلى جانب القصائد التى لم تنشر فى ديوان حتى الآن. وحرصت على أن تكون القصائد مناسبة للمهرجان وشعاره ورسالته، وانتهيت إلى اختيار خمس عشرة قصيدة إنجليزية وخمس قصائد عربية, وقمت بترجمة القصائد العربية للإنجليزية بنفسي، والقصائد كلها تدور حول موضوعات إنسانية كالحرب والسلام والعلاقات البشرية والحب والشعر والوطن ونهر النيل وبلاد الأندلس وموسيقا الفلامنكو وغيرها، ووضعت القصائد فى ملف صغير ولم أرسلها. ثم عدت إلى بروناي وشغلت بعملي فى الجامعة. وذات ليلة بينما كنت أتهيأ للنوم إذا بتليفوني يدق وكانت الساعة الثانية عشرة ليلا، وإذا بالمتحدثة فتاة من كولومبيا ذكرت أن اسمها جلوريا شافتال وأنها من منظمي المهرجان، وسألت عن سبب تأخري فى الرد عليهم ثم عرضت أن يدفعوا لى ثمن تذكرة السفر، وإن كنت لا أستطيع المشاركة فى هذا العام لأسباب قاهرة فإنه يسرهم أن يوجهوا لى الدعوة  لأكون الشاعر المصري الوحيد الذي يمثل مصر فى العام المقبل، فأجبتها بأني شاكر لهم كرمهم ولكنّي سأتحمل بنفسي نفقات السفر. ثم سألتها لماذا وقع اختياركم عليّ أنا بالذات؟ فأنا شاعر غير معروف حتى فى بلدي، ولايكاد يعرفني أحد، فضحكت وقالت: بل نحن نعرفك منذ زمن طويل، وقد ترجمنا شعرك إلى لغتنا الإسبانية، ونحن مفتونون بأشعارك. وسرني ماقالت، فأخيرا بعد هذه السنوات الطويلة وبعد كتابة أحد عشر ديوانا شعريا، ثمانية منها بالعربية، وثلاثة دواوين شعرية بالإنجليزية ورواية وثلاث مجموعات قصصية بالإنجليزية يأتي الاعتراف والتقدير من بلاد اللاتين، فحمدا لله تعالى على نعمه الجزيلة . ثم أبدت ابنتي عزة استعدادها لأن تتولى عملية حجز التذاكر. وتبينت أنها ستتكلّف اثني عشر ألف دولار ماليزى وهو مبلغ باهظ بالنسبة لأستاذ جامعي بالطبع، ولكن زوجتى قالت لي إن هذا المبلغ تهون قيمته فى مقابل هذه الفرصة النادرة التى تضم مشاهير شعراء العالم الذين سيستمعون فيها لشعري، وربما يترجمونه إلى لغات أخرى عديدة. فاستصوبت رأيها واستخرت الله تعالى وعزمت على السفر. ولكن كان عليّ  أن استعدّ لقراءة شعرى الإنجليزى فتحدثت مع زميلة لي فى جامعة بروناى وهي أستاذة فى الأدب الإنجليزى، أن تسجّل لي قصائدى الإنجليزية بصوتها حتى أتدرّب  على إلقائه. ونظمنا مواعيد التدريب  . واستمعت ابنتي عزة إلى صوت القارئة ثم قالت لي : لعله من المستحسن يا أبي أن تسجل أنت هذه القصائد بصوتك وتستمع إليها حتى تتنبّه إلى المواضع التى قد تحتاج إلى التغيير أو التطوير، فاقتنعت برأيها ووجدت فرقا كبيرا بين قراءة الأستاذة الهولندية  وقراءتي ، وقمت بعمل تغييرات كثيرة فى بعض القصائد، وتذكرت قول نزار قباني فى إنشاد الشعر : " كلما ذهبت لألقى قصائدي فى مكان عام أشعر أننى أعيد كتابتها للمرة الثانية. إنني لا أقرأ نصا بقدر ما أخترع نصا. ولا أكرر حالة بقدر ما أستولد حالة. من هنا يصبح إلقاء الشعر عملا إبداعيا ورسما بالإشارة والصوت ". وشعرت كأنه كان يصف حالى حينما قال : " الأمسية الشعرية هي صورة شعاعية نعرف منها أننا لانزال على قيد الحياة وتخطيط كهربائى يثبت أن قلبنا يضرب بصورة منتظمة ولا يضرب فى العدم أو فى الفراغ. الأمسية الشعرية تقرير طبيّ نحصل عليه ممن حضروا أمسيتنا، ونطمئنّ". ثم أرسلت إلى فرناندو أخبره بقراري وبموعد وصولي إلى ميليجين ووقت مغادرتى لها، وسرّ بقراري وشكرنى عليه.

والسفر إلى كولومبيا في أمريكا اللاتينية طويل يبدأ من بندر سري بكوان إلى كوالالمبور إلى سنغافورة إلى باريس إلى بوجوتا ومنها إلى ميليجين. وبدأت الرحلة فى الثالث من شهر يوليو وقضيت فى كوالالمبور ثلاث ليال مع زوجتي وأولادي, ثم سافرت فى السادس من يوليو ووصلت إلى ميليجين فى اليوم التالي. وأقنعتنى هذه الرحلة بضرورة إتقاني للمحادثة باللغتين الإسبانية والفرنسية. فالمرء لايستطيع أن يتحرك أو يتفاهم أو يستمتع بوقته فى رحلاته فى فرنسا و كولومبيا وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية أو إسبانيا دون إتقان هاتين اللغتين الهامتين.

وحينما وصلت إلى باجوتا عاصمة كولومبيا لاحت أمام عيني غابات مترامية الأطراف وخضرة وجبال وغيوم تلبّد السماء . بلد شاسع ضخم وأمطار غزيرة تسيل على المطار والجو يميل إلى البرودة، والناس طيبون تبدو فى وجوههم الوداعة والدماثة والود ، والبنات ذوات أقومة ممشوقة وابتسامات ساحرة وشعور سوداء مسترسلة طويلة، خمريات البشرة فى نعومة ونضارة، وتبدو فى الرجال قوة ووسامة وحزم.

وعندما استقررت فى ميليجين وجدت أنهم أضافوا إليّ أمسيتين جديدتين، فصار عدد الأمسيات سبعا. وكان حفل الافتتاح فى مسرح مفتوح فى حضن جبل سيرو نوتيبارا. وألقى عدد من الشعراء شعرهم وكان بعضهم يعتمدون على الأداء التمثيلي. وأعجبني امتلاء المسرح بالشباب من البنات والأولاد الذين حضروا الاحتفال غير مبالين بهطول الأمطار وكانوا بأعداد هائلة. وبدأ الحفل فى السادسة وانتهى فى العاشرة والنصف.

كانت أمسيتي الشعرية الأولى فى حديقة عامة جميلة وألقيت ثلاث قصائد: فلامنكو وعيناك وبستان الهوى. وألقى شعره  بعدى شاعر فلبيني فى الثانية والسبعين من عمره يدعى جيمينو إتش أبد , ثم ألقت الشاعرة الفرنسية آليس  كارون لمبير قصائدها , ثم ختمت الأمسية الشاعرة الكولومبية جوزيه ليبرادو بوراس. وعند نهاية الحفل توافد الحضور إلينا لالتقاط الصور والتوقيع لهم على أوتوجرافاتهم , وقد اختار فريق من البنات أن يكتبن عنى بحثا كلفتهم به مدرستهم.

في يوم السبت العاشر من يوليو ألقيت شعري فى أمسيتي الثانية فى مجلس مدينة سيوداد بوليفا، فى قاعة كمارا دى كوميرسيو ومعي ثلاثة شعراء: الشاعر الكيني كريستوفر أوكيماوا , و إيرلينج كيلسين النورويجى , وبدرو إسترادا أورتورو الكولومبى. وألقيت ثلاث قصائد وهي أحلام ربيعية, وأنشودة السلام , وأأخبرك، وصاحب ذلك قراءة ترجماتها الإسبانية من قارئ شعرى خوان ديفيد دايز.

أمسيتى الثالثة كانت فى دار الثقافة. قرأت ثلاث قصائد أخرى وهي:  ذكرى , ووطن , وسلام. وألقى أربعة شعراء آخرون شعرهم : شاعر نيجيري وشاعرة كولومبية وشاعرة من بيرو وشاعر روسي. وقد لفت نظري الشاعر النيجيرى نيي أوساندريه , وقد ألقى أربع قصائد اثنتان منها طويلتان وهو شاعر رائع بحق بزيه النيجيرى البديع وطريقته المسرحية المعبرة وأدائه  وشعره الذي يحمل مضامين وأفكارا جديدة قوية ولاسيما قصيدته عن الكلمة. وقد ختم الشاعر الروسي الأمسية بأداء طويل ممل حتى إن الشاعر النيجيرى قد استاء ومال نحوى قائلا: أليس هناك من يستطيع أن يوقف هذا الرجل الثرثار؟ فأجبته لا أظن أن هناك من يجرؤ على ذلك! فهز رأسه وضحك. وفى نهاية الأمسية أقبل الحاضرون يهنئوننى على شعري وأدائى , وقالت كاتالينا المترجمة الكولومبية الفاتنة: إن أشعارك جميلة وأداءك معبر وفى كلماتك بساطة وعمق. إننا فخورون بك ومسرورون لأنك شرّفتنا بحضورك بيننا فى هذا المهرجان. ثم حدثنى الشاعر النيجيرى عن عشقه لمصر وحبه لها ولحضارتها وإعجابه بمكتبة الإسكندرية الضخمة ولشرائه كثيرا من الكتب من مصر.

فى الأمسية الرابعة أنشدت ثلاث قصائد فى مكتبة الحديقة وكان هذا المبنى من قبل سجنا حولوه إلى مكتبة للأطفال. وقد قرأت بيرنيس بيندا الشاعرة الكولومبية الجميلة شعرها , ثم أنشدت أنا قصيدة قطرة حب، والقصائد، وأهواك، ثم قرأ شاعر كولومبى شعره القصير الذى يشبه الهايكو اليابانى , ثم ختم الأمسية شاعر فرنسى شاب يغني شعره غناء سريعا أقرب إلى الراب الأمريكى المعروف في هذه الأيام .

في الأمسية الخامسة أنشدت شعري في مبنى أنيق من مباني المدينة امتلأ بالحاضرين، ووجدت كتبي الإنجليزية ,التي كانوا قد طلبوا مني أن أحضرها معي , تباع فى معرض بالمبنى وطلب مني المشترون التوقيع عليها.

ألقى شاعر كولومبي عجوز قصائده الشعرية في نصف ساعة ثم قدموني فألقيت ثلاث قصائد: أحلام ربيعية، وعندما يعود السلام، والمغني. ثم ألقى الشاعر الكولومبي الثاني قصائد إسبانية قصيرة بديعة بدليل ردود أفعال الجمهور تجاهها.

وفي الأمسية السادسة مضينا إلى مكتبة كبيرة أخبرني المترجم بأنها قد شيدتها حكومة إسبانيا هدية لكولومبيا. وعندما كنت أهبط السلم استقبلني رجل كولومبي فى نحو الستين من عمره يلبس حول عنقه شملة فلسطينية وقال للمترجم: هل هذا هو عارف خضيري الشاعر المصري؟ فأجابه : نعم ,  هو بعينه , فتقدم نحوي ,  فسلمت عليه وقال لي إنه سمع عني وجاء لمقابلتي وذكر لي أنه مسلم وإنه متقاعد ثم أخبرني أن فى ميليجين نحو مائة مسلم فقط، ولكن هناك مسلمين فى السواحل الشمالية من البلاد، وقال إن فى ميليجين مسجدا ولكنه ليس مثل مساجد مصر. وقال إنه كان يتوقع أن يراني ألبس طربوشا على رأسي، ودعاني لزيارته في بيته ولكني اعتذرت لانشغالي بالمهرجان ووعدته أن أزوره والجالية الإسلامية في زيارتي المقبلة لكولومبيا.

كان معي فى هذه الأمسية شاعران إسبانيان وشاعرة ألبانية. بدأ الشاعر الكولومبي الأول بإلقاء خمس قصائد من الشعر المنثور الطويل. ثم ألقى الشاعر الكوبي الثاني قصائد قصيرة تدور كلها حول النساء ماعدا قصيدة واحدة تحدث فيها عن جده الذي أخبره أنه سيموت شيوعيا ويذكر أنه قرأ ستالين وغيره من زعماء الحركة الشيوعية. وألقت الشاعرة الألبانية ست قصائد لعل أروعها قصيدة فتاة ميليجين، وهي قصيدة غزلية عن فتاة جميلة قابلتها وأخذت تتطلع إليها دون أن تتكلم  الفتاة الحسناء معها. فتوسلت إليها الشاعرة أن تهدي لها ابتسامة وإلا فإنها لن تترك المكان أبدا. وأخبرتني الشاعرة أنها أنشدت القصيدة ثلاث مرات فى المهرجان, وأنها الليلة كانت تنشد القصيدة وهي تنظر باسمة إلى فتاة جميلة تجلس فى الصف الأول من القاعة!

فى الأمسية السابعة والأخيرة قبل سفري مضينا إلى مسرح كبير ضخم واصطحبونا إلى غرفة خلف المسرح لنتناول القهوة، ورافقتنا ثلاث فتيات كولومبيات جميلات إحداهنّ تقدمنا للجمهور، والثانية، كاتالينا، مترجمة فورية شقراء نحيلة تجيد لغات كثيرة بطلاقة من بينها الإنجليزية والفرنسية، والثالثة قارئة سمراء رائعة الجمال. وفى السادسة والنصف نودي على أسمائنا ودخلنا المسرح وسط عاصفة من التصفيق والترحاب وأخذنا أماكنّا. وكانت الأمسية الشعرية للشعراء الأفارقة، وكنا أربعة شعراء: شاعرة أمريكية سوداء تدعى بتريسيا جابيه ويسلي وهي فى الأصل من ليبيريا، والثانية تومانيثو زينبو دياللو من غينيا، ومحمد بنيس من المغرب، وأنا من مصر. وقد بدأت الشاعرة الليبيرية إلقاء شعرها بإنشاد غنائي إفريقي جميل شجي عن الحرب الأهلية وحياة الناس فى بلادها في الأوقات العصيبة التي مرت بهم . وكان شعرها بالإنجليزية وهو شعر رائع بنطق إفريقي مميز. ثم ألقت زينب الغينية شعرا عن الصداقة والحب باللغة الفرنسية، وقد أعجبني إلقاؤها ولاسيما في قصيدتها الأخيرة التي عبّرت  فيها عن مشاعرها الجياشة بشكل مؤثر أخّاذ. وكانت الشاعرتان السوداوان زهرتين يانعتين من الزنابق السوداء الملفتة للنظر طوال المهرجان، وهما متمتعتان بشخصيتين جميلتين قويتين، والأولى، باتريسيا، تجمع بين قوة الشخصية والروح الفكهة المحببة، وهي تفعم جلساتها بالبهجة والضحك. وقد قالت ونحن نشرب القهوة قبل الجلسة الشعرية إنها لا تريد أن تخدمها واحدة من الفتيات الكولومبيات المرافقات وتقدم لها القهوة , بل إنها تفضل أن  تقوم وتعد قهوتها بنفسها، فهي ليست سوى عبدة وأمة لا أكثر ولا أقل، فضحكت وقلت لها، لكنك في زيّك الرائع هذا الذي ترتدينه هذه الليلة تبدوين كملكة متوّجة ! فسرّت بقولي ولكنها قالت : حسنا يا عارف أنا إذن ملكة وأمة فى آن واحد. ثم جاء دوري وقدمتني المقدمة الكولومبية الخمرية البشرة وذكرت سيرتي ورأيي فى الشعر وأعمالي واهتمامي بالصورة والموسيقا والموضوعات الإنسانية والحب بصفة خاصة. وبدأت انشادي بمقدمة قصيرة قلت فيها للجمهور المحتشد الذي تجاوز الألف شخص في هذا المسرح الضخم الذي تزيّنه الأضواء : السلام عليكم يا أصدقائي الأعزاء .ثم ذكرت كلمة  " أُوْلى " (وهي تعني بالإسبانية مرحبا) ثم قلت : إن لديّ سرّا أريد أن أذيعه لكم الليلة. إنني فى حالة عشق شديد! هل تودون أن تعرفوا من هي حبيبتي؟ حسنا، إنها ميليجين , بلدتكم الساحرة , مدينة الشعر والجمال والناس الودودين الطيبين. وقد قوبلت هذه الكلمات بعاصفة من التصفيق والإعجاب. ثم قالت المترجمة أظن يا شاعري العزيز أنه لا حاجة لي أن أترجم كلماتك الرقيقة؛ فقد فهمها جمهورنا الكولومبي تماما وأحبوها وأحبوك. ثم ترجمتها لهم بالإسبانية فتكرر التصفيق مدويا في في أرجاء المسرح الكبير. ثم قلت لهم (بالإنجليزية) إنني سأنشدكم الليلة ثلاث قصائد في مقدمتها فلامنكو التي أحببتموها , ثم ألقيتها انشادا لعله كان أروع انشاد لها، فساد صمت عميق فى القاعة، كما بدا على الحاضرين الإعجاب الشديد بموسيقا الشعر العربي وحلاوة ألفاظ لغتنا العربية التي حباها الله بجمال وسحر لا تظفر بمثله لغة أخرى من لغات البشر. ثم صفقوا طويلا بعد فراغي من الإنشاد. ثم جاء دور خوان قارئ شعري وقرأ ترجمة القصيدة بالإسبانية قراءة بديعة، وقد قالت لي فتاة كولومبية  بعد انتهاء الأمسية إن إلقاءه الشعري فاتن أخّاذ. ولعل وسامة هذا القارئ، وهو فنان مسرحى وموسيقي معروف، زادت في حلاوة إلقائه وسحره. ثم قلت لهم إن قصيدتي الثانية تتحدث عن العلاقات الإنسانية التى تقطعت وتفككت بين الأزواج فى عصرنا وإن هذه القصيدة عنوانها " القهوة السوداء ". ثم ترجمت كاتالينا كلماتي. والحقيقة إنني أحب دائما أن أتحدث إلى جمهوري وأن أقدم له مقدمة قصيرة لقصائدي حتى أقيم علاقة ودّ وتفاهم بيني وبين هذا الجمهور الذي جاء ليستمع إلى شعري، ولاسيما أن شعري بالعربية أو الإنجليزية، وربما لايعرف هذا الجمهور اللغة الأولى، ويحتاج إلى من يعينه على فهم الشعر الإنجليزي برموزه وصوره وإيحاءاته الثقافية العميقة. وقد لقيت القصيدة استحسانا كبيرا وقوبلت بتصفيق حاد طويل. ثم ألقى قارئ شعري الترجمة الإسبانية وصفقوا لها. ثم قلت لهم إنه من عادتي فى أمسياتي الشعرية أن أنشد للجمهور فى ختام الأمسية قصيدة حب، والليلة سأنشدكم قصيدة حب باللغة الإنجليزية بعنوان The language of love (لغة الهوى). وعندما ختمت القصيدة صفقوا لي طويلا، ثم جاء دور خوان وألقى الترجمة الإسبانية، ثم صفقوا طويلا مرة أخرى فشكرتهم ثم جلست فى مكاني. ثم جاء دور الشاعر المغربي الكبير محمد بنيس بقامته الطويلة وشعره الأبيض وشكله الوسيم الأنيق وألقى مقاطع كثيرة من شعره الذي يتميز بلغة بديعة ومعجم لغوي ثري. وانتهت الجلسة فى الثامنة مساء، ثم توافد الجمهور عليّ ليلتقطوا صورا معي ولأوقع لهم على أتوجرافات.

ولم انتظر الحفل الاختتامى لأسفى الشديد؛ فقد كنت مرتبطا بحضور مؤتمر دولي فى جاكرتا لألقى بحثا عن العالمية : نحو تأصيل نظرية الأدب الإسلامى. واستقللت الطائرة مغادرا ميليجين، وبدا منظر المدينة ساحرا أخاذا: مروج خضراء وسهول وجبال تتخلّلها الغيوم والسحب البيضاء التى تسبح فى السماء كالزبد الطافى فوق سطح البحر.

لقد ضربت كولومبيا بمدينتها الفاتنة ميليجين - كما ينطقها الكولومبيون، أو كما يكتبها العرب " مدلين " تارة، و" مديين " تارة أخرى- مثلا رائعا فى اهتمامها بالشعر واحتفائها به وتوظيفه فى أداء رسالة جليلة سامية فى مقاومة كل ما هو ردىء وشرير ومرفوض فى حياتنا من زهق للأرواح وفتك بالنفوس وإهدار للقيم كالعنف والحرب والتعصب والدمار. وأحمد الله عز و جل أن رأيت بعيني رأسي بلدا فى عصرنا هذا يقدر الشعر هذا التقدير الكبير وتدعو الشعراء وتكرمهم وتعاملهم معاملة مشاهير النجوم، وشاهدت الأطفال والشباب والشيوخ يتوافدون بالألوف على الحدائق والمسارح والساحات العامة ودور الثقافة والمكتبات غير مكترثين بالأمطار ليستمعوا للشعر فى تقديس وإعجاب ويقفون فى صفوف طويلة ليصافحوا الشعراء وليلتقطوا صورا معهم أو يحصلوا على توقيعاتهم أو ليقولوا لهم كلمة شكر وود وامتنان.

ولن أنسى ما حييت زوجين هرمين لمحتهما يدخلان قاعة بعض المكتبات ليقضيا ساعات فى معبد الشعر وقد أمسك الزوج بيد زوجته يساعدها على السير والجلوس في ود وحنو واهتمام ، أو رجلا مسلما سمع بأن شاعرا من مصر جاء لبلاده فجاء , رغم تقدمه فى السن, ليراه ويسمع له ويحييه ويملأ كفّيه بالحلوى ويدعوه لبيته تكريما وحبا، أو فتاة فى العاشرة جاءت مع أمها لتسمع الشعر فى قاعة من القاعات. أحمد الله تعالى أن رأيت بلادا في قارة قصية من القارات تقدر أشعاري وتتابع أعمالي وتترجمها إلى لغتها، ويكتب تلاميذها وطلابها عنّي، و يطلب منّي الأطفال وتلاميذ المدارس أن يستمعوا إلى شعري العربي في المتحف القومي الذي يضم في طابقه الأول معرضا لأعمال الفنان الكولومبي  العالمي الشهير فرناندو تربيرو في ميليجين, ثم يطلبون مني أن أوقع لهم اسمى باللغة العربية التى أحبوها وفتنوا بها.

إن ميليجين - مدينة الشعر في عالمنا المعاصر كما يلقبونها بحق-لواحدة من أجمل بلدان الدنيا بجبالها الشامخة الخضراء , وغاباتها الكثيفة الشاسعة , وسمائها الممتدة الزرقاء , وظبائها الخمريات الساحرات. بيد أن جمالها وروعتها وفتنتها لا تنسي المرء بطبيعة الحال سحر مصر , محبوبتي الفاتنة الأثيرة , التي ستظل- إلى الأبد- في الفؤاد , بمحياها الجميل , وأهلها الطيبين , وروحها القوي ,  " ونهرها الذي / رافقت موجه أعيني / في صباي / والهوى الذي / يفيض في روحي لها /كلما طوّلت / في البحور رحلتي / وزاد في / عدوه الزمن " .

               

*  عارف خضيري (الدكتور عارف كرخي أبوخضيري) شاعر وروائي ومترجم ومحاضرمصري يعمل أستاذا  مشاركا للأدب العربي بجامعة السلطان الشريف علي الإسلامية بسلطنة بروناي دار السلام.