جزيرة بولاو كيتام

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

هذه المقالة تدوين لرحلة قمت بها إلى جزيرة صغيرة قريبة من الساحل الغربي لولاية سيلانغور (ماليزيا)، تسمى جزيرة "بولاو كيتام"، وكان ذلك في التاسع من شباط (فبراير) سنة ألفين وثمانية.

استيقظت اليوم الساعة السادسة والنصف (وهو أول وقت الفجر في كوالا لمبور) من أجل الاستعداد لرحلتي الصغيرة إلى جزيرة بولاو كيتام. علمت بأمر هذه الجزيرة بينما أنا أتصفح الإنترنت، وهي جزيرة يؤمها السياح قريبة من الساحل الغربي لسلانغور، يسكنها قوم من الصنيين البوذيين يعيشون من صيد البحر، وقيل إن السياحة فيها راجت بسبب جوها البدائي القديم، حتى وصفتها بعض المصادر بأنها تعيش كما كان يعيش أسلافهم قبل مئة سنة. وذلك -كما سأخبركم بعد- شيء كان صحيحاً قبل عقد من الزمن ثم لم يعد كذلك، وكان من حسن حظي أنني لم أفاجأ بهذا الخبر السيء لأن أحد الطيبين كان وضع مشاركة له على النت مؤرخة بسنة ألفين وخمسة يقول فيها إنه ذهب إلى هناك فما رأى ما قد زعموا من الحياة البدائية، بل رأى طرقاً من الإسمنت وبيوتاً حديثة ورأى مظاهر الحضارة، ثم قال إنه سر برحلته رغم ذلك (وهذه كانت حالي أنا أيضاً). وبعد أن صليت الفجر وافتتحت إفطاري خرجت إلى موقف الباص القريب من غرفتي لكي أنطلق إلى الجزيرة.

الطريق إلى الجزيرة. خرجت أنتظر في موقف الباص، فما كدت أصبح تحت مظلة الموقف حتى بدا باصي آتياً إلي من وراء مباني كلية القانون، وكان ذلك أمراً عجيباً لأنني -فيما أحسب- قد خرقت قانون الاحتمالات بسوء حظي مع عربات النقل العام في كوالا لمبور! وذلك أنني بت كلما عزمت على أن أقصد أي موقف من مواقف النقل العام في هذا البلد تهيأت نفسياً لما سأكتشفه لحظة وصولي إلى هناك؛ وهو أن عربة النقل التي أريدها ستكون قد رحلت قبل وصولي إلى الموقف بدقيقة واحدة، فأنتظر التي تليها نصف ساعة أو ربما أكثر من ذلك! على أن هذا الحظ الجميل لم يكن نعمة دائمة لي في ذلك اليوم، فلقد ركبت قطار كيلانا جايا إلى محطة القطارات الرئيسة في كوالا لمبور لأستقل قطار السفر من هناك، ثم لما وصلت ذهبت إلى شباك التذاكر لأشتري تذكرة ذهاب إلى محطة الميناء التي أريد استئجار العبارة منها، وبينا أنا واقف في الصف مع الناس أنتظر دوري، إذا بي أرفع رأسي فأرى اسم قطاري الذي أريد يومض في لوحة الرحلات الإلكترونية يُعلم المسافرين أنه الآن يهم بالرحيل! وراقبت اللوحة والألم يعتصر قلبي وأنا -رغم ذلك- واقف هادئ هدوء الرجل الوقور الرزين لعلمي أن الأوان قد فات! حتى جاء دوري فأخذت تذكرتي ونزلت السلم إلى الطابق السفلي حيث موقف القطار، فعلمت أنه قد غادر قبل بلوغي مكانه بدقيقة واحدة! ولكن الذي يليه ما تأخر كثيراً كما ظننت أولاً (لأن هذا يعتبر قطار سفر)، فأتانا بعد أخيه بخمس وعشرين دقيقة، وركبته منطلقاً إلى بورت كلانغ.[1]

توقف بنا القطار في محطات كثيرة كثيرة، كانت متقاربة ونحن في المدينة ثم أخذت تتباعد بعد ذلك، وصار القطار يسرع في سيره بين المحطات فيقطع المسافات الطوال وكأن الأرض تطوى له. هذا على أن العمران لم يتوقف تقريباً حتى بلغنا الساحل الغربي للولاية، وكنا نمر بمناطق بارعة الجمال منذ أوشكنا أن نمر بمحطة شاه عالم (التي فوجئت بمرورنا بها إذ لم أكن علمت من قبل أن قطاري يقطع أراضيها). بقينا على ذلك حتى توقف القطار بنا في محطة بورت كلانغ، وهي آخر محطات هذا الخط الحديدي الذي يصل قلب كوالا لمبور بالساحل الغربي. وكنت قرأت في الإنترنت أن رصيف العبارات بالغ القرب من المحطة، وقد صدق من قال ذلك لأنني رأيته غير بعيد مني لما نزلت من عربة القطار، مشيت مسافة قدرتها بمئة متر فقط حتى بلغت الرصيف الخشبي. وهنالك دخلت بقالة فاشتريت منها ماء وشطائر كايا[2]، لعلي لا أجد في الجزيرة غير ما لا يؤكل، سواء لارتفاع ثمنه أو لأنه ليس حلالاً. ثم لما تركت البقالة وبلغت نهاية الرصيف.. هل تعلمون ما رأيت؟ أهنئ من قد حزر منكم من الأذكياء! نعم؛ لقد رأيت العبارة الكبيرة تمتلئ بالناس وتتهيأ للرحيل! ولما هممت بالصعود منعني أصحابها وقالوا إنها امتلأت وإن علي أن أنتظر التي تليها! ورحلت العبارة وأنا أنظر إليها محزون النفس، لقد كان ينبغي أن أكون هناك! ثم سرعان ما جاءت خليفتها فكنت من أوائل من صعد على متنها. وبقيت أنتظر في العبارة الجديدة ساعة إلا ربعاً حتى امتلأت بناسها فانطلقنا أخيراً إلى بولاو كيتام جزيرة الصيادين الصينيين.

قطعت عبارتنا ماء البحر وهي تمضي بنا إلى الشمال قريبة من الشاطئ، وكنا نرى حولنا كثيراً من السفن مختلفات الأطوال والأحجام. ولا أدري لماذا اهتم بي ربان العبارة من بين سائر الركاب، فدعاني إلى الجلوس في مقدمة العبارة وجلس بجانبي فترة فجعل يحدثني عن نفسه، فكان مما أخبرني به أن أباه توفي قبل ثلاثة أشهر وأنه بات هو المسؤول عن هذا القارب الآن، وأعتقد أنه قال لي إن مدة الرحلة إلى الجزيرة أربعون دقيقة، ولم يكن ذلك صحيحاً، وأخذت رحلتا الذهاب والإياب كل منهما الوقت ذاته، وهو ساعة وسبع دقائق.

بلوغ الجزيرة. بقينا نمضي إلى الشمال وشاطئ سيلانغور عن يميننا حتى بلغنا جزيرة بولاو كيتام من طرفها الجنوبي، ثم جعلنا نسير بمحاذاة شاطئ الجزيرة وكنا نرى على أطرافه أكواخ الصيادين قريبة منا. لقد بتنا نتحرك متجهين إلى الغرب الآن، حتى وصلنا إلى رصيف العبارات السياحية. نزلت عن سطح العبارة وصعدت الأدراج فوجدتني أقف على شرفة واسعة مملوءة بمقاعد لانتظار العبارات قد صفت عليها، تفضي إلى جسر تليه فسحة من الأرض، في طرفها البعيد عني مطعم مفتوح كبير وفندق متواضع قريب. ومررت بذلك المكان دون ألبث فيه حتى أفضى بي إلى أحد شوارع القرية الرئيسة. والشارع الرئيس في عرف هذه القرية هو الشارع الذي يتسع لدراجتين ذهاباً وأخريين إياباً في اللحظة ذاتها![3] وهذا الشارع الذي سرت فيه كان من الخشب قبل عقد أو أكثر من الزمن، ولكنه بات من الإسمنت الآن. وكان من أول ما استقبلني من أشكال الحيوية والضجيج في الجزيرة احتفال الصينيين بعامهم الجديد برقصة التنين، فترى الناس قد اجتمعوا على تنين أو تنينين هما دميتان في داخل كل منهما رجلان، أما أحدهما فواقف (وهو الذي في المقدمة) وأما الآخر المسكين فيلبث وقت دوره كله راكعاً لكي يحاكي ظهر التنين، يحاولان أن يرقصا على إيقاع واحد فلا يستطيعان في أغلب الأحيان، وتختلف الأرجل والسيقان! وحول التنينين فرقة من "الموسيقيين" قد اجتمعوا وهم يضربون بطاسات معدنية أظنهم يستعلمونها في المطبخ سائر سنتهم، يضربون بها بإيقاع ضعيف وصوت قوي عنيف فلا تخرج من احتفالهم إلا وقد شعرت أن رأسك قد انحطم مما أصابه من ضجيج، وكنت مسروراً باطلاعي على عادات قوم غريبين عنا، ولكني مشهور بين من يعرفني ببغضي الشديد لكافة أشكال الضجيج، فلم ألبث قرب "مهرجان التنين" هذا طويلاً، وما أطلت حتى تركتهم ومضيت. وكنت أمر بالمطاعم هناك فأراهم يقلون أكلة قوامها البيض، فوقفت برجل منهم كان من أول من بدا لي من أولئك الطباخين، وسألته أن يطبخ لي بيضاً لا بصل فيه (نو باوانغ!). وقيل لي إن الزحام على المطعم شديد، وأن أتوقع دوري أن يحين وقته بعد ربع ساعة، فقررت أن أمشي في الجوار أثناء هذا الربع.

في الجزء الأول من القرية. مشيت في الشارع الرئيسي إلى الشمال قليلاً، ثم دلفت إلى أحد الأزقة التي كانت عن يميني. وبينا أنا أمشي في الزقاق، إذ رأيت عن يميني غرفة فيها رجال يلعبون البلياردو، فاعتراني الفضول وخف رأسي فدخلت ذلك المكان، فما كدت أضع رجلي داخله حتى صرت محط أنظار كل من كان فيه من رجال! وكانت معي أحمال مغرية دخلت بها مكاناً مما يظن وجود الأشرار في مثله، فسارعت بالخروج دون أن أقول حرفاً. وتابعت طريقي في الزقاق الصغير حتى انتهى بي إلى سور المدرسة. وكان بناء المدرسة أجمل بناء في الجزيرة كلها وأكثر ما عمر حداثة وجدة في الألوان والتصميم ، وكانت -كذلك- نظيفة البناء والفناء. ومشيت إلى الشمال مرة أخرى حتى بلغت أطراف القرية، ووجدتها مغلقة من حدودها الشمالية والشرقية بالأدغال الكثيفة، ويضاف إلى هذا أن أرض الجزيرة التي تلي أرض القرية الصناعية مشبعة بالماء لا تصلح للسير عليها. ذلك أنني لم أخبركم بعد أن القرية كلها قد رفعت عن أرض الجزيرة على الدعامات، وهذا مما يحلو رؤيته من تلك القرية الهادئة.

وكان دوري في استلام وجبتي قد اقترب أوانه فعدت إلى حيث كنت. وقعدت آكل، ونظرت في الصحن جيداً فإذا بي أرى فيه بين ما قد عرفناه من البيض والبندورة كائنات هلامية غريبة مما يثار من مثله العجب، وأدركت حينها أنني قد طلبت وجبة كل ما أعرفه عنها أنها حلال وأنها ليس فيها بصل، وأن من مكوناتها البيض! فلا والله لا أدري ما أكلت، ولعل فيه قواقع وأخطبوطات وحشرات بحرية وغير بحرية وما لا أدري ما هو وما الله أدرى به. ولم أسأل الطباخ عما وضع لي في تلك الأكلة العجيبة وآثرت ألا أعرف قط ما أكلت!

وكأني بكم تسألونني الآن عن طعمها؟ الحق أنها كانت أكلة لذيذة جداً! وهي تؤكل بالأعواد الصينية من غير خبز.

ودخلت الحمام بعد وجبتي، فلما دخلت الحمام رأيت منظراً عجيباً؛ رأيت في الأرض الخشبية ثقباً واسعاً حيث اقتطعوا من الخشب قطعة، ما ثم تحتها غير الهواء الذي يليه أرض الجزيرة من بعده! وأما أنابيب التصريف والمجاري فيظهر أنه شيء لم يعرفوه في جزيرتهم هذه، ولعلهم لا يحتاجون إليه، فلقد جربت أن أدخل هذه الحمامات البدائية فلم تؤذني أي رائحة كريهة، ونظرت خلال الثقوب فما وجدت تحتها ما تتوقعون رؤيته من "أشياء". فهل السر في ذلك أن البيئة البحرية تحلل الفضلات بسرعة؟ لست أدري.

كان أول الأماكن المميزة التي دخلتها بعد ذلك معبداً صينياً هو أكبر ما رأيت من المعابد البوذية في تلك الجزيرة، كان المعبد في ثلاث طبقات صعدتها إلى الطبقة الأخيرة فأشرفت من هنالك على الجزيرة كلها[4]، وأخرجت بوصلتي من جيبي فوضعتها في يدي وجعلت أنظر فيها وإلى المنظر الممتد من حولي (وكانت بوصلتي معي طول الوقت أستعين بها في تصور خريطة المكان الذي أجول فيه. ومن عادتي أنني أستعين بها في تحديد جهة القبلة كلما اضطررت إلى الصلاة في الخلاء). وخرجت من الشرفة فدخلت غرفة المعبد (لا أزال الآن في الطابق الثالث)، وأخذت أمشي في المكان وأنا أطيل النظر في تماثيلهم وأعجب من أمر هؤلاء الناس. أيعقل أنهم لا يزالون يعبدون التماثيل في عصر الذرة والقمر! إنني لا أزال أزداد عجباً من سطوة الأديان على عقول البشر حتى تشل أذهانهم فلا ترى أشد البديهيات بداهة وأوضحها وضوحاً. وتحرك في داخلي الفضول، فلبثت في مكاني لا أبرحه حتى سمعت وقع خطوات قادم يقدم علي، وكنت أنتظر أي قادم لكي أسأله عن أمره وأمر دينه الذي أثار في نفسي العجب والفضول. انتظرت فدخل علي رجل كهل من العباد، ما كاد يدخل الغرفة صاعداً من الدرج حتى ابتدرته بالحديث، فسألته عن أشخاص هذه التماثيل الماثلة أمامي. فلم يملك الرجل أن يجيبني لأنه ما فهم سؤالي، ونادى الرجل ابنته[5] لكي تحدثني، وهم هكذا يصنعون؛ ينادي الكبار أبناءهم وأحفادهم ممن يحسنون التحدث بالإنكليزية. وجاءت ابنته فسألتها، قلت: من هؤلاء الناس؟ قالت: إنهم آلهتنا. قلت: وهل تعبدونهم كما تعبد الآلهة؟ قالت: نعم. (وكنت سألتها هذا السؤال لأنني سمعت أن الصينيين يدعون أنهم لا يعبدون بوذا، ولكن يقدسونه بلا عبادة) قلت: ولكن عندي سؤالاً، لماذا تصنعون لآلهتكم هذه التماثيل؟ هل هي طريقة لكي تتواصلوا مع رموز تمثل هذه الآلهة؟ وهنا بدأت الفتاة ترتبك قليلاً، ثم قالت وهي تبتسم: إنها مجرد ثقافة! وما أعجبه من جواب! وأحببت أن أشرح لها أن المعتقدات ينبغي أن تبنى على الحق وحده، وأن هذا شيء لا علاقة له من قريب أو بعيد بالثقافات التي تورث وحسب. ولكنني شعرت أن الوقت لم يزل مبكراً في مثل تلك المحادثة القصيرة للولوج إلى مثل هذه التعليقات، وأنني كنت غير قادر على توصيل هذه الفكرة بطريقة رقيقة في تلك المرحلة المبكرة، فتركت محداثتنا الدينية تبتر هنا، وتبع هذا أسئلة ودية قصيرة مثل السؤال عن أصلي وبلدي، ثم سمعتهما -لما قلت "سوريا"- يذكران كلمة "إسلام"، ثم كان آخر ما بيننا أنهما (الرجل وابنته) ودعاني والفتاة تقول مبتسمة "سيم سيم"[6] بالإنكليزية وهي ذاهبة. وكم أشعر بالندم الآن وأنا أكتب هذه الكلمات أنني لم أرجعها لأسألها عما قصدته بقولها "سيم" (أي: متشابهان).. لقد كان آخر ما سُمع من التعليقات أنني من سوريا وأن سوريا بلد مسلم معظم أهله مسلمون وأنني أنا من المسلمين. أيعقل أنها كانت تقصد بكلمة "سيم" دينها وديني كما بدا لي من بعد! إنها لفرية عظيمة أن يشبه دين التوحيد الإسلام بدين بوذا وأعوان بوذا. وهذا يقودني إلى مسألة غريبة: إذا كانت تعني بقولها "إنهما متشابهان" دين الإسلام ودين بوذا، أفلا يثير هذا العجب أعظم العجب، أنها صينية تعيش في بلد مسلم ولا بد أنها احتكت بالمسلمين، ثم أسمعها تقول مثل هذا الكلام! من الصعب أن أجد قصة أحسن من هذه تبين ضعف التمييز عند عامة الناس، إن كانت فتاة صينية عاشت قريبة من المسلمين لا تستطيع أن ترى الفروق بين دينها ودينهم! وتركت المعبد بعد ذلك، وأخذت أمشي في هذا القسم من الجزيرة.

مشيت فترة ليست قصيرة، ورأيت أثناء ذلك طرفاً من عادات هؤلاء الناس، فهم يتركون غرف استقبالهم مفتحة الأبواب، فكنت أرى وأنا أمشي طرفاً واسعاً من داخل بيوتهم وأشعر أنه تداخل مع الشارع الذي أسير فيه. وكنت أنظر فأرى غرف استقبال واسعة نظيفة مرتبة أنيقة، في معظمها "تلافيز"[7]، وفي أطراف كثير منها طفلان صغيران يلعبان في هدوء وتهذيب، وشعرت أن هذه الغرف جنان قد صفت على جنبي الطريق، فكنت أتمنى أن أدخل إحدى تلك الجنان! ولا يغرك ما ذكرت فتظن أن كل الجزيرة على مثل ذلك، ذلك أنهم ناس على الطريقة "الشامية"، داخل بيوتهم جنات ثم هم لا يبالون بنظافة الأماكن العامة بعد ذلك، فلقد جعلتني المناظر الرهيبة تحت سطح القرية المرفوع أخمن أن من أهداف ذلك الرفع تأمين مكان للزبائل والقاذورات. فما أكثر ما تكدس حوالي ممرات القرية المرفوعة من فضلات الحياة الحديثة مما يستعمل ويرمى! ودعوني أقص عليكم موقفاً طريفاً بهذه المناسبة حصل معي وأنا هناك، ذلك أنني كنت اشتريت كأس عصير مثلج ثم أردت رميه في سلة المهملات لما انتهيت، فجعلت أمشي مشياً طويلاً من غير أن أعثر على سلة للنفايات، وكنت أسير وأنا أرى القاذورات عن يميني وشمالي فلا تطاوعني نفسي أن أشارك ألوف المذنبين في تلويث بيئة الأرض، رغم أن ما أحمله كان مثله كمثل قطرة في بحر! لبثت أمشي حتى عثرت أخيراً على سلة نفايات، فأتيتها وفتحت غطاءها فإذا هي.. فارغة، نظيفة، ليس فيها ذرة من وسخ!!

لقد عرفتم أن الأدغال الكثيفة تلف القرية من الشمال والشرق، وقلت لكم من قبل إننا أتينا القرية من جنوبها ففي جنوبها البحر، وأما الغرب فمسدود بالماء فيما بدا نهراً صغيراً يمضي بمحاذاة القرية من الشمال إلى الجنوب فيعزلها عن جزءها الآخر. وكنت في ذلك الحين أسائل نفسي ماذا أصنع بعد ذلك، ومررت وأنا أتساءل ببقالة اشتريت منها ما يشرب، وأخرج صاحب البقالة المرطب من "ثلاجة حديثة" وناولني إياه. وسألت صاحب البقالة العجوز عما يمكن أن يزار هنا من أماكن، فلم يدر ما أقول، ونادى شاباً يصلح أن يكون في عمر أحفاده ليحدثني، وسألت الشاب إذا كان المكان قد اختلف عليه في العقد الأخير، فقال: أوه، كثيراً جداً! أترى هذه الممرات الإسمنتية؟ لقد كانت كلها من الخشب! وابتسمت معه وأنا أقول بأنني تأخرت إذن في المجيء كثيراً، وأنني كان ينبغي أن آتي قبل الآن بعشر سنوات. ثم قال لي بأن في الجوار جسراً يوصل إلى الأجزاء الأخرى من القرية. سألته: وماذا يوجد هناك؟ ففكر لحظة ثم أجابني وهو يبتسم: لا شيء حقاً، المزيد مما رأيته هنا! ولكنني رأيت في الحقيقة جواً مختلفاً في الأجزاء الأخرى. مشيت إلى الجنوب بمحاذاة النهر الصغير ومررت بالمعبد البوذي حتى بلغت الجسر وعبرت عليه إلى الجهة الأخرى، وهنالك رأيت المكان اختلف؛ فحيث نزلنا من القارب كانت قرية شديدة الازدحام بيوتها بالغة التراص، ثم رأيت نفسي لما قطعت الجسر صرت في مكان أهدأ بكثير و.. وأشد بدائية! رأيت الأرصفة الإسمنتية لم تزحف هنا زحفها في القسم الذي جئت منه. وكان كثير من الناس يبتسمون بود في وجه هذا السائح اللافت للأنظار! فلقد كان جل السياح صينيين، يليهم الملاويون، ولكني لم أر في المكان "خواجات" غير رجل واحد.

في الأجزاء الأخرى من القرية. مشيت في جزءين جديدين من القرية كانا أهدأ وأقدم من الذي كنت فيه ومنه بدأ مشواري، رأيت فيهما ثلاثة معابد صغيرة ومشيت في الأزقة ونظرت إلى تماثيل بوذا التي انتثرت على أبواب البيوت داخل صناديق من الخشب وقد قُدمت لها القرابين، وهي في أغلبها (أو ربما كلها) من أشكال الفواكه، وانتبهت وأنا أمشي على الممشى الخشبي قرب أكواخ الصيادين أن الأرض كانت مشبعة بأعداد هائلة من السرطانات الصغيرة إلى حد يثير العجب! وكان من آخر ما صنعته أني مررت عند الرصيف البحري بجماعة من الرجال يرفعون صيدهم الذي صادوه، يرفعونه "برافعة كهربائية حديثة"! وركب أحدَ أولئك الصيادين الحماسُ لما رآني فأمسك بسلطعون يكافح ليعضَّ وهو يقول هيا صوّر! صوّر![8] وصوَّرته ولم تزل صورته عندي.

العودة إلى المنزل. وكان أوان رحيلي قد دنا فبدأت باتخاذ طريق العودة إلى المرفأ، ذلك أن ربان عبارتي قال لي إنه سيكون في الميناء بين الثالثة والرابعة لكي أعود معه. وصدق، ووصل في آخر الساعة الثالثة. ومررت قبل بلوغي الرصيف ببياعين يستخرجون العصير الحلو من قصب السكر ثم يخلطون ذلك بالماء ويضعونه للناس في أكياس. يصنعون ذلك بأن يدخلوا قضبان القصب في آلة طاحنة فتنهرس بين تروسها هرساً شديداً حتى يعتصر ماؤها. وأخرجت المرأة التي كانت تعمل على الآلة القصب بعد أن مر خلال التروس أول مرة فوضعت ما بقي منه في التروس مرة أخرى، حتى خرج من الجهة الأخرى مزقاً قد جف كل ما كان فيها من ماء، ثم رمت تلك المزق بعد ذلك. إن الفاكهة الاستوائية فاكهة بالغة الحلاوة غنية بالسكر غنى شديداً، وربما من أجل ذلك أحب أهل هذه البلاد السكر حتى وضعوه في أكولهم "المالحة" عادة من بيض ولحم وغير ذلك، وأحبوا شرب هذه الأشربة السكرية التي لا فاكهة فيها. لا أدري، هذه مجرد نظرية محتملة!

قلت لكم إني قصدت الرصيف (أي رصيف العبارات)، فبلغته قبل وصول العبارة بساعة إلا ربعاً. وكنت جالساً أقرأ في مجلة اقتصادية قد أعطاني إياها أحد أولاد خالتي قبل سفري إلى ماليزيا، وإذا بمساعدة ربان عبارتي تطل علينا فجأة وهي تحمل مكبر الصوت الذي لم يفارقها في يومها ذاك. أَوَأعرف هذه السيدة التي لم أحدثكم عنها من قبل؟ نعم، أعرفها! لقد كانت هي نفسها واقفة قرب عبارتي أثناء رحلة مجيئي إلى بولاو كيتام، تصيح في مكبرتها وأنا جالس أنتظر في القارب بلهجة تسويقها المبتذلة السخيفة:

"بولاو كيتام، يِيس بولاو كيتام، فيري غود فيري غود!!"، والآن ظهرت أمامنا ونحن جالسون على مقاعد الرصيف في الجزيرة، تريد جمع ناس عبَّارتها لأنها قاربت أن تصل إلينا. ثم أرادت أن تسلينا ريثما يصل القارب فبدأت تغني وتتراقص! ثم تضحك ضحكة خليعة ذهبت بآخر ما بقي لها من ذرات الوقار والركازة.

كانت امرأة صينية قبيحة، فلما غنت عرفنا أن قبح صوتها شيء يهون دونه قبح وجهها. وكان الناس يضحكون منها لقلة وقارها.

لم تطل عبارتنا علينا حتى وصلت بعد ظهور المرأة الصياحة التي لا وقار لها. وكان رأسي وأنا في القارب يخفق من النعاس، وكنت أرفعه بين الحين والحين لأنظر فيما حولي من مناظر جميلة، ثم أتركه يسقط بعد ذلك، وأترك عيني تغمضان. وظللت على ذلك قريباً من ساعة، ثم ارتحت بعد ذلك في القطار الذي رجع بي إلى قلب العاصمة. وباقي الطريق تعرفونه لأن طريق الإياب كان مثل طريق الذهاب، ولكن بالعكس.

وكنت وأنا في طريق العودة أذكر في سخرية ما رأيته في هذه "القرية البدائية" من صور الحياة الحديثة: بيوت حديثة فيها كهرباء وتلافيز، وطرق من الإسمنت، وخطوط كهرباء وهاتف، ورافعات كهربائية! ولكني قلت في موضع سابق إن حالي كانت مثل حال السائح الذي اطلعت على ما كتبه في شبكة الإنترنت: لم أر شيئاً عظيماً يستحق العناء، ولكنها كانت رحلة لطيفة رغم ذلك. ولقد استمتعت بالرحلة، واستمتعت استمتاعاً مثل ذلك وأنا أكتب عنها.

               

[1] وكانت رحلتي في عدة مراحل؛ فكان علي أن أركب الباص أولاً إلى محطة خط قطار كيلانا جايا (ربع ساعة)، ثم أذهب به إلى محطة KL Sentral (كما تكتب بالتهجئة الملاوية!) (نصف ساعة)، ملتقى خطوط القطارات في كوالا لمبور، ومن هناك حولت إلى قطار KTM Commuter الذي حملني إلى محطة بورت كلانغ، آخر محطات هذه السكة إلى الغرب (ساعة وعشر دقائق)، وهو الشاطئ من حيث تستأجر العبارة إلى الجزيرة (ساعة وسبع دقائق لكل من رحلتي الذهاب والإياب).

 

[2] وهي حشوة ماليزية حلوة قوامها جوز الهند فيما أعلم، وقد يخلط بالبيض وبعض الأعشاب المنكهة.

[3] والدراجات هي وسيلة النقل الأساسية في بولاو كيتام، ولم أر في القرية كلها عربات تعمل بالوقود إلا شيئاً قليلاً كان مركوناً إلى جانب الطريق لا يتحرك.

[4] وبناء المدرسة كان مثله في ثلاث طبقات، وهما من أعلى الأبنية في الجزيرة، وأما سائر المنازل فطابق واحد.

[5] أي فيما بدا لي أنها ابنته ولم أحقق.

[6] "same".

[7] جمع تلفاز! ونعم؛ أجهزة تلفاز تعمل "بالكهرباء" في تلك القرية "البدائية"! وكان جلها يعرض أغنية صينية راجت في هذا الموسم بمناسبة عيدهم الصيني فيما يظهر.

[8] والحق أنني لم أعرف ما قال لأنه كان يتحدث بالصينية! ولكني قدرت ذلك من اللهجة ولغة الجسد غير الكلامية.