الطريق إلى مراكش الحمراء

الطريق إلى مراكش الحمراء

الأخيرة

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

إذا كان المشهد الثقافي في المغرب بصفة عامة يتصدره " اليساريون " في صورة المسئولية الرسمية والتشكيلات الثقافية والأدبية المهيمنة ؛ فإن طبيعة المغرب الشقيق في صورتها الحقيقية تظل مرتبطة بالإسلام والقرآن والروح الشرقي . وصعود أهل اليسار في الثقافة المغربية ، لا ينفصل عن صعودهم في بقية البلاد العربية ، حيث أتاح لهم الاستبداد في معظم عواصمنا أن يقوموا بمهمة غير كريمة ، وهي إزاحة الإسلام المقاوم والمعارض الحقيقي من العقول والنفوس ، والتشكيك في قيمه وثوابته ، وخدمة الأنظمة الشمولية ، وتسويغ تغوّلها على حرية الأوطان والمواطنين ، في مقابل ما يلقى إليهم من فتات المناصب الحكومية والجوائز العينية ، والحضور الإعلامي في أجهزة الدعاية الحكومية ، والتمثيل الوطني في المهرجانات والندوات والمؤتمرات الخارجية ..

ومع ذلك ؛ فالمقاومة للتوحش اليساري ، وخاصة اليسار المتأمرك ، ومهمته التغريبية لا تتوقف ، والنخبة المثقفة ذات التوجه الإسلامي لا تتوانى عن العمل بإمكاناتها المحدودة الضعيفة ؛ لترسيخ المفهوم الإسلامي الصحيح في القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية ، ويساعدها الهامش المحدود للحرية في المغرب على العمل والممارسة .. إنه هامش محدود ولكنه حقيقي يسمح بانتخابات تشريعية حقيقية إلى حد كبير ، ويسمح بإصدار صحف ، وعقد ندوات  ومؤتمرات ، والخطوط الحمراء لهذا الهامش واضحة وصريحة ، ويعر فها أهل المغرب ، فلا ادعاء بأزهى عصور الحرية والديمقراطية ، ولا زعم بأنه لن يقصف قلم ، أو تغلق جريدة .. لا شيء هناك من ذلك . الخطوط مرسومة ، وعلى العابرين أن يسيروا في حدودها ، ولا يتخطوها .. وهو أمر مرحلي مريح للطرفين على كل حال !

وأعود لأؤكد أن اليساريين المغاربة ، ليسوا بالصلف أو الادعاء الذي نراه عند نظرائهم في مصر ، أو كثير منهم ، فهم يراعون إلى حد ما العلاقات الإنسانية السائدة ، وإن كانوا لا يتوانون عن العمل في برنامجهم الاستئصالى الداعم  للاستبداد على المستوى العام !

وفي الجانب الآخر ، هناك دفاعات باسلة عن الإسلام وحقائقه في حدود الإمكانات المتاحة ، وقد لفت نظري وجود شخصية لطيفة نشيطة ، ومع السنوات الطويلة التي يحملها على كاهله ، فهو لا تكف عن الحركة والعمل ، وطول أيام الملتقى الأدبي ، كان الشاعر " جلول دكداك " الذي تجاوز السبعين ، ويكلل رأسه الشعر الأبيض الناصع ، ينطلق في أرجاء القاعات والفندق مثل شاب في مقتبل العمر ، يسأل ويناقش ويتعرف ، ويوزع كتبا ودواوين ، ويتبادل العناوين ،ويقوم بالتصوير ، وكثيرا ما أجده على مائدة الإفطار أو الغداء أو العشاء ، أو في ردهات الفندق أو المؤتمر ينهض من مكانه ، ويميل علىّ ، ويسألني :

-        سي حلمي ، ما رأيك في الموضوع الفلاني ؟

-  سي حلمي ، هل قرأت كذا ؟

-        سي حلمي ، خذ هذا .. ( قد يكون صحيفة ، أو موضوعا ، أو قصيدة ... )

صار " جلول " معلما من أهم المعالم المميزة للمؤتمر ، نفتقده إذا غاب لدقائق ، ولكنه كان حاضرا دائما في الأذهان والقلوب ، طيبته الفطرية ، ومودته الإنسانية ، وحرصه على مناغاة الضيوف ، جعل منه نجما بلا ريب ، ويصف نفسه بشاعر السلام الإسلامي ، وهو بالفعل يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين ، وإن كان لا يكف عن الكتابة والعمل والنشاط . ذكرته برسائله وقصائده التي كان يرسلها إلى مجلة " الشعر " قبل ثلاثين عاما أو أكثر . كان الدكتور عبده بدوي – رحمه الله – قد نجح في إصدارها مرة أخرى عام 1976م على عهد " يوسف السباعي " – رحمه الله – وكنت أحرر بعض أبوابها ، وكانت تأتي رسائل " جلول " مفعمة بإنسانيته وطيبته الفطرية ، فأنشر القصائد وأرد على الرسائل ، ومع سنّه المتقدمة لم يزل ينشد لفلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والصومال ، وبلاد المسلمين المستباحة ، ويرد على أكاذيب أهل ( الحداثة ) المتغربين ، ويكتب المقالات ، ويصحح  المصطلحات ، ويسعى لنصرة القرآن الكريم ، ويستوعب – بحب – كتابات الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – ويردد مقولته    : " إن أخشى ما أخشاه على الإسلام والمسلمين ؛ هم المسلمون أنفسهم !" ..  

و" جلول " يحتاج إلى صفحات للتعريف به ، وتناول كتاباته وأشعاره ، ولكنه يبقى نسمة ندية في صيف قائظ يصنعه خصوم الأمة  . وتمتد هذه النسخة إلى آفاق أخرى ، وتتحول في أيام البرد العاصف إلى لمسة دفء وأمل ، عندما تلتقي أساتذة كلية اللغة العربية – جامعة القرويين ، في مراكش الحمراء ، بدءا من العميد ، حتى أصغر معيد ، بل إلى الطلاب أنفسهم .. هناك أمل في عالم آخر ، من أهل التعليم والثقافة ، يحترمون التقاليد ، ويحترمون بعضهم ، ويقدسون العلم والبحث ، ويشتاقون إلى المعرفة ، ويرجون ضيوفهم أن يتحدثوا إليهم في ندوات مفتوحة مع الطلاب ، أو يحاضرونهم في تخصصاتهم المختلفة ,, الطلاب ملتزمون بالحضور ، والمتابعة والمناقشة ، ودراستهم  شاملة متكاملة ، فهم في قسم الدراسات العربية مثلا  ( يسمونه مسلك الدراسات العربية ) ، يدرسون ستة فصول ، وتجد فيها مواد مختلفة بدءا من دراسة اللغة والأدب والسيرة وفقهها ، والمذهب المالكي ،والمكتبة الإسلامية وتقنيات التعبير والتواصل ، والنحو والصرف والبلاغة واللسانيات والتفسير ، والعقيدة والقانون والنقد وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية والقراءات والسرد ، والعقود والالتزامات والمعلوميات والأدب الإسلامي والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية والتداولية ، والأحوال الشخصية ، والأسلوبية ، ومنهجية البحث ، والتصوف الإسلامي ، وعلوم القرآن ، وتحليل الخطاب والسيميائيات والعروض ومناهج الدراسات الأدبية  إلى جانب الفرنسية والإنجليزية ....

وإلى جانب الدراسات المنهجية ، هناك نشاطات  مستمرة على شكل ندوات ولقاءات وإصدارات تعالج مختلف الموضوعات والقضايا ، ومن خلال رؤى متنوعة وتصورات شتى ..

كان وداعنا لمراكش الحمراء وداعا للحظات استثنائية في العمر ، عشناها بين أهلنا وأمتنا بعيد عن صخب المتاعب والمحن في مصر المحروسة  التي لا نتوب عن حبها ولا نقدر ، مهما فعلت بنا ، وأزرت بوجودنا في ظل أوضاع استثنائية لا تجنح أبدا إلى الوضع الطبيعي الذي استقرت عليه أغلب الأمم ؛ حيث يكون الوضع الاستثنائي قصيرا تعود بعده إلى حالتها الطبيعية ، ولكن قدرنا أن نحيا في استثناء دائم ، وعذاب دائم حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا .. وبلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي ، وعذابي أيضا..