الطريق إلى مراكش الحمراء 5

الطريق إلى مراكش الحمراء

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

5

فى الوقت الذى تتنافس فيه الدول من أجل زيادة الإنتاج والسبق إلى نتائج متقدمة فى البحث العلمى ، وبناء القوة العسكرية لحماية الاستقلال الوطنى .. تنشغل بعض الحكومات العربية بقضية الحجاب والنقاب وتجييش الجيوش من الإعلاميين المرتزقة والصحفيين الكذبة ، لتصنع منها قضية ، غايتها الأساسية إلهاء الشعوب عن واقعها البائس المتردى فى المجالات المختلفة كافة .. ولا أدرى ما الذى يحدثه وجود مذيعة محجبة أو ممرضة منتقبة فى بناء الدولة وتقدمها وحركتها نحو المستقبل ؟!

أليس وجود مذيعة محجبة  أولى  من وجود مذيعة دمية لا تملك لغة ولا ثقافة ولا فكراً ، وكل مؤهلاتها جسد عارملطخ بالأصباغ والألوان لتثير المشاهدين ، وخاصة من المراهقين ؟

أليس الاهتمام بوضع المستشفيات المتردى وعدم وجود أطباء أو أدوية أو أجهزة أولى من إشعال حريق دولى حول الممرضات المنتقبات ، يشارك فيه أنصار الاستبداد وخصوم الإسلام ؟

لقد كان فصل مذيعتين محجبتين بالإذاعة المغربية ، مع أن الناس لا تراهما وتسمع صوتهما فحسب ، قراراً مثيراً للاستهجان على أكثر من مستوى .. وقد تساءل الجمهور :

هل الحرية الشخصية ترتبط بالتعرى دون التغطى ؟

كانت مفاجأة ، وأنا أقضى أمراً فى استقبال الفندق الذى كنا نقيم به ، أن أرى " فاطمة الزهراء " ، وهى إحدى موظفات الاستقبال ، تطل من الغرفة الملحقة به ، وكانت ترتدى " إسدالا " يُغطى جسمها كله عدا الوجه ، حيث كانت تصلى العصر . فاطمة من الموظفات المجتهدات ، ولكنها وفقا للنظام السائد لابد أن تكشف عن شعرها ، وتكون سافرة ، وإلا فلا مكان لها !

الدنيا تتحرك .. والقوم فى بعض بلادنا العربية حريصون على إرضاء السادة الأفاضل قادة الاستعمار الصليبى المتوحش ، ولو جاء ذلك على حساب الدين والقيم !

والمرأة العاملة فى المغرب ، تبدو مظلومة ، أكثر من أخواتها فى البلاد العربية الأخرى . رأيت العاملات والموظفات المغربيات فى معظم الأماكن يقمن بأعمال شاقة ومرهقة .. يكاد الرجال يعيشون رفاهية العمل ، والبطالة أيضا .. أما المرأة التى تبدو حاضرة دائماً فى معظم أماكن العمل ، فتحمل العبء الكبير فى التنفيذ والإدارة مع تواضع الأجور ، وواضح أن هذه المسألة لا تلفت نظر الجمعيات والهيئات التى تزعم أنها تدافع عن المرأة !

ومهما يكن من أمر ، فإن الأوضاع الاجتماعية بالمغرب الشقيق ، بما فيه وضع المرأة ، مكشوفة وواضحة ، سواء كانت إيجابية أو سلبية ، إنهم هناك يتعاملون من خلال ما يُسمى عندنا بالشفافية ، لا تعتيم ولا استهانة ، وعشرات الصحف اليومية تتناول ما يحدث داخل المدن الكبرى والقرى الصغرى على السواء ، وللأحزاب جميعا ، والقوى الساسية المختلفة ، صحفها التى تنطق باسمها ، وتبدى رأيها فيما يجرى ويحدث مما يُعطى صورة متكاملة عن أى حدث أو موضوع .

ويُلاحظ أن الأحياء الشعبية فى مراكش تحتفظ بطابعها التاريخى القديم ، وتجد إقبالاً منقطع النظير من جانب السيّاح والأجانب ، وخاصة فى المساء .. وتشبه إلى حد ما خان الخليلى فى القاهرة الفاطمية ..

وأبرز مافى مراكش القديمة مسجد الفنا ، وقبر يوسف بن تاشفين ، وقبر المعتمد بن عباد الذي لم تتح لى الفرصة كي أزوره . والمسجد صورة من الحالة التاريخية التى كانت سائدة فى عصر الموحدين ، وهو عصر شهد مبادرات عسكرية وبطولات حربية كان بطلها يوسف بن تاشفين زعبم الموحدين المشهور ، وقد كان الأثر الحربى واضحاً فى أبنية مراكش القديمة ، حيث تميل المبانى إلى شكل الحصن الذى ينتظر الأعداء القادمين من كل مكان .

فمسجد الفنا مثلاً ، تقوم مئذنته على هيئة مربعة ، تشق عنان السماء ، وطرفها العلوى يكاد يكون مختفيا داخل المربع ، الذى تظهر على جوانبه عدّة نوافذ ضيقة للغاية ، وكأنها مجرد وسيلة لمراقبة الفضاء المحيط .

والمئذنة نموذج لبناء المسجد ذاته الذى يبدو على هيئة قلعة لا يتم تمييزها عن بقية المبانى إلا بالمثلثات التى تصطف على حواف جدرانه الأربعة العليا بما فيها حواف المئذنة أيضا .

أما قبر يوسف بن تاشفين ، البطل الذى ظل قويا وصامدا فى فترة انهيار الأندلس واستقواء الصليبيين الهمج ، فهو قبر بسيط ، يُحيطه الإهمال ، وتعلوه آثار عوامل التعرية .. وكأن القبر يحدث الناس عن نفسه ، وعن صاحبه وأعماله التى لا يعرفها المسلمون المعاصرون ولا الذين سبقوهم حتى وفاة ابن تاشفين نفسه ، مسجد الفنا بداية للمكان الذى يمثل مركز مراكش القديمة ، وهو الساحة .. والساحة دائرة كبيرة مبلطة بالبلاط الأسود المستطيل الصغير ، الذى يشبه بلاط الحوارى القديمة فى القاهرة المعزّية ..

والساحة فى النهار تبدو فارغة من الجمهور اللهم إلا مجموعات من الدكك والترابيزات الخشبية والنصبات الخاوية .. وتظل الساحة خالية حتى منتصف النهار ، عندما ينصرف الموظفون والعمال من مكاتبهم وأعمالهم .. وحينئذ تتحول إلى شئ آخر تماماً ..

الساحة عندما تعمل ، تكتظ بالناس من كل الأجناس ، وليس المغاربة وحدهم ، هناك باعة الأطعمة المختلفة اللحوم والأسماك والفطائر ، وهناك الطعام الشعبى بدءًا من لحمة الرأس إلى الممبار ، والأسماك بأنواعها المختلفة ، مشوية أو مقلية ، وقد تعرضت لموقف صعب حين وقفت مع صديقى الشاعر المغربى الكبير " محمد على الرباوى " والدكتور " عبد العالى بوطيب " ، وكلاهما أستاذ جامعى ، واصرّا على أن أتناول معهما طبق الحلزون ( القواقع ) ! منظر الحلزون أزعجنى ، وجعلنى أتقزز ، وهما يضحكان ، ويُحاولان إقناعى بكل الوسائل أن أتذوقه ، مجرد تذوق ، ولكنى لم أستطع ، كان الرباوى يتناول ( شوربة ) الحلزون ، وهو يقهقه وعبدالعالى يستخدم الملعقة فى التهام اللحم الحلزونى بهمة ونشاط .. وأنا أرفض رفضاً قاطعاً ، كان يتكلمان عن فوائد الحلزون ، وتهافت الأزواج على استخدامه ، وأشياء أخرى ، ولكنى لم استجب لهما وهما يضحكان ، ربما لسذاجتى الريفية أو عدم خبرتى الحياتية ..

من المفارقات أننى شاهدت تقريراً تلفزيونياً يتحدث عن مطعم خاص بالحلزون افتتح فى إحدى المدن الفرنسية ، يقوم صاحبه بالحصول على الحلزون وإعداده وتقديمه للزبائن بأسعار مرتفعة للغاية ، ويصدره إلى دول الاتحاد الأوروبى ! ولله فى خلقه شئون !

إلى جوار مطاعم الساحة ، حلقات الحكواتى الذى يجلس مع فرقته الموسيقية ليحكى السيرة الشعبية وله جمهوره الذى يتفاعل معه ويندمج إلى درجة التماهى ، يذكرنا بشاعر الربابة قديماً فى مقاهى مصر وقراها ، وهناك حلقات عرض الثعابين ، وباعة الفواكه ، والتمور ، والياميش ..

أما المحلات على حافة دائرة الساحة ، فهى متنوعة بتنوع أغراض الناس بدءاً من الملابس الجاهزة والهواتف المحمولة إلى المكتبات والفنادق .. وهذه المحلات لها نظامها المختلف تماماً عن الساحة . فالساحة مقصد الفقراء والأغنياء والسياح ، يأكلون ويستمتعون بدراهم معدودة ، أما المحلات على حافتها ، فهى مقصد القادرين وحدهم ، لأن أسعارها مرتفعة وتكاد تقترب من أسعار مراكش الجديدة .