الطريق إلى مراكش الحمراء  - 4

الطريق إلى مراكش الحمراء  - 4

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

الشارع فى مراكش منضبط ! حلم أن تكون شوارع أى مدينة مصرية منضبطة .. خليها على الله ، السيارات فى شوارعنا من كل شكل ولون .. و " معلهش " أصل احنا بنتكلم " و " مصر حتتقدم بينا " ، ولكن المغاربة يلتزمون التزاماً صارماً  بالقانون : المواطن والمسئول الذى ينفذ القانون . لايمكن أن تجد ذلك الكرنفال  الذى تعرفه شوارعنا وطرقنا السريعة والفرعية " تريللا " و " مقطورة " ، و " كارو " و " ملاكى " ، و " أجرة " ( عفاريت الأسفلت ) ، الدنيا مختلطة ، ويتوه رجال المرور مع المارة فى قلب الطريق ، وإذا أصرّوا على إثبات وجودهم توقفت حركة المرور ، وشعر الراكبون والناس جميعاً بالاختناق ! فى مراكش لا يستطيع أحد أن يقف فى الممنوع لحظة ، تنشق الأرض ويخرج رجل المرور ليُعاقب قائد السيارة أيا كان اسمه أو رسمه .. لا يوجد هناك : انت عارف أنا مين ؟  أوابن مين ؟ ورأيت بنفسى شخصية كبيرة تخضع لرجل المرور الحازم الصارم ، الذى لا يمدّ يده ، ولا ترتعد فرائصه أمام موظف كبير أو ابنه أو راقصة درجة ثالثة تهدد بنقله إلى حلايب وشلاتين !

حركة المرور هناك – وعقبى للقاهرة وبقية المدن – تنساب بهدوء ، ودون عادم سيارات ، وإشارات المرور آلية ، لا يحركها شرطى ، ولا يُشرف عليها لواءات وعمداء وعقداء فى عرض الشارع ، وإذا قطع أحدهم الإشارة وجد المرور يمسكه من عنقه ، ويُعاقبه بالغرامة على الفور أو السجن مع الغرامة فى الحال ، لا تجدى التوسلات أو الرجاءات أو " معلهش " ..ولذا فكل الناس يحترمون نظام المرور .. حتى " الحنطور " الذى ما زال موجوداً ، ويلعب دوراً مهماً فى السياحة والتجوّل بالسائحين فى أرجاء المدينة .. وهو " حنطور " متحضر ، لا يُلوث الشارع ، لأنه يستخدم " البامبرز " الذى بشّر به " سنبل " فى " رحلة المليون " ! لا تضحكوا – والله العظيم يضعون تحت ذيل كل حصان قطعة قماش أو مشمع عريضة تنحنى من الطرفين لتسقط فيها فضلات الحصان ، حتى لا يتسخ الشارع .. ويلتزم الحنطور بالسير بجوار الرصيف دون أن يُغالب السيارات ، وله مواقف مخصصة له ..

بيد أن الدراجات تمثل ظاهرة ملحوظة ، حيث يمتلئ الشارع بالدراجات العادية والبخارية ، ويُمكن لها أن تصعد الرصيف العريض وتمضى عليه ، والدراجات البخارية تحمل شخصين أو ثلاثة ، والمفارقة أن المحجبات يركبن الدراجات البخارية أيضا مثلهن مثل السافرات وكل واحدة وراءها اثنتان ، وفى الجامعة رأيت مكاناً واسعاً مخصصاً للدراجات إلى جانب السيارات .. ركوب الدراجة لا غضاضة فيه ، ويركبها موظفون وطلاب ومعلمون من الجنسين . سيارات الأجرة متوفرة ، وسائقوها مهذبون هادئون ، ويستخدمون العدادات ( عقبى لنا يارب ! ) ..

وصلنا إلى مقر المؤتمر بجامعة القرويين فى التاسعة صباحا ، حضر رئيس الجامعة وعميد الكلية ورئيس رابطة الأدب الإسلامى العالمية ورئيس الرابطة فى المغرب .. بدأ افتتاح المؤتمر بالقرآن الكريم ، وتلاوة القارئ على طريقة " ورش " .. لا يتلون هناك بقراءة حفص .. قراءة " ورش " هى السائدة فى المساجد والصلوات والتعليم .. وقد اتخذ وزير شيوعى سابق من قراءة " ورش " سبباً منع بموجبه مئات العناوين من الكتب الإسلامية من المشاركة فى أحد المعارض الخاصة بالكتاب ! ومع ذلك لم نسمع لرفاقه فى مصر أى احتجاج على مصادرة الإبداع ، هم لا يتكلمون عن المصادرة إلا إذا أصابت كتابة ملحد أو شيوعى أو ساع للشهرة يكره الإسلام !

رئيس الجامعة ، تحدث حديثاً رقياً عن الأدب وأهميته ، ودور المؤتمر فى ترسيخ قيمة الكلمة فى البناء والإصلاح ، وتوالت كلمات الجالسين على المنصة تؤكد دور الحروف المتوضئة فى تحقيق السلام الروحى والنفسى والوجدانى واختتمت الجلسة الافتتاحية بقصيدة جميلة للشاعر المغربى الكبير " حسن الأمرانى " – الذي غاب عن المؤتمر ألقاها نيابة عنه شاعر مغربى كبير آخر هو " محمد على الرباوى " .

لاحظت أن المؤتمر فى جلساته التالية تمتع بقدر كبير من حسن التنظيم ، وخاصة فيما يتعلق بالحوارات التى كانت تتعلق بالبحوث الملقاة .. كانت هناك فرصة للتعقيب والرد عليه . كانت الحوارات على الطريقة التبادلية ( خذ وهات ) بما يُحقق قواسم مشتركة .. الصراحة سمة عامة ، فى إطار الاحترام الكامل لوجهات النظر المختلفة .

كان عنوان المؤتمر : " نحو منهج إسلامى للرواية " ، وقد شارك فى المناقشات من يرفضون وجود الإسلام فى أى شئ خارج جدران المسجد .. ولكنهم كانوا أكثر نضجاً وتقبلاً للآخر ، ولا يجدون غضاضة فى قبول ما يقتنعون به .. على العكس من رفاقهم فى بلادنا البائسة ؛ الذين يستأصلون كل مخالفيهم ، وكل من لا يسير على خطاهم الضالة ، هل يرجع ذلك إلى تعوّدهم على قراءة أكثر من وجهة نظر ؟ أو يعود إلى أنهم يتمتعون بهامش حقيقى للحرية ، فلا يُقلدون من عندنا حيث يقولون مالا يفعلون ؟

بالطبع ، ليست الصورة هناك وردية على الإطلاق ، فهناك شيوعيون وعلمانيون متعصبون للغاية ، أسوأ من نظرائهم عندنا ، ولكنهم يتحركون فى دائرة محدودة ، تسمح أن تقوم بجوارها دوائر أخرى ، وأذكر أن وزيراً يسارياً سابقاً ، كان لا يدعو إلى مؤتمر " أصيلة " وبقية المؤتمرات الأخرى التى تقيمها وزارته ، غير الشيوعيين المتأمركين عندنا وأشباههم !

على كل حال ، فإن سير المؤتمر أو الملتقى كان جيداً ، وكانت مشاركة أساتذة الجامعة ( القرويين ) تدل على وعى مرتفع بقيمة التفاعل مع الأبحاث والمناقشات .. وأيضاً قيمة التعارف مع الباحثين المشاركين من خارج المغرب والاستفادة بهم فى لقاءات مفتوحة مع الطلاب فى المستويات المختلفة .

حدثنى بعض أساتذة الكلية عقب انتهاء جلسة من جلسات المؤتمر والاستعداد لجلسة أخرى عن رغبتهم فى أن أخصص لهم وقتاً فى المساء لأتحدث فى موضوع " بلاغة المحاججة والخطاب الدينى " لطلاب المستوى الثالث .

إن أساتذة كلية اللغة العربية – جامعة القرويين ، يُشعرون ضيوفهم بمودة مغدقة ، وتعاطف كريم ، وهو ما شهدناه فى العديد من اللقاءات والمناقشات .

الظاهرة اللافتة فى المؤتمر أو الملتقى ، هى مشاركة المرأة مشاركة فعالة ومؤثرة .. سواء فى الأبحاث اللاتى شاركن بها أو المداخلات اللاتى علقن بها على القضايا المثارة ، أو القصائد اللاتى ألقينها ولقيت استحسان المستمعين أو المتلقين .. لم يمنعهن الحجاب من إثبات الوجود والحضور ..وهناك على المستوى العام تتعايش المحجبة ، وخاصة فى مجال العمل مع غير المحجبة ، والمشكلة هى التمييز الرسمى بينهما ، وخاصة فى المؤسسات التى تتعامل مع الجمهور فالبنوك مثلاً لا تسمح لمحجبة بالتعامل مع العملاء ، إنها تجلس فى الخلف ، على المكاتب الداخلية لإنجاز أعمال كتابية ونحوها ، أما غير المحجبة فهى التى تجلس أمام الجمهور لإنهاء معاملاته .. بالطبع غير مسموح للمحجبة أن تظهر مذيعة فى التلفزيون ، مثلما هو حادث فى مصر المحروسة ، حتى الإذاعة ممنوعة على المحجبات ، وقد نُشر مؤخراً إبعاد اثنتين من المحجبات من العمل فى الإذاعة إبعاداً تاماً ، أى فصلهن من الوظيفة بسبب الحجاب !

ويبدو أن الحجاب لدى الدوائر الرسمية ، وبعض النخب المتغرّبة ، صار مزعجاً لدرجة دفعها إلى تصرفات مجافية للحرية الشخصية وحقوق الإنسان.