رحلة موسى بن نصير

د.جعفر الكنج الدندشي

من حكايات عن المدن البائدة من ألف ليلة وليلة

المخطوطة رقم 4281

 من المكتبة الوطنية في ستراسبوغ

د.جعفر الكنج الدندشي

[email protected]

لما دنى موسى بن نصير, الذي أرسله الخليفة، عبد الملك بن مروان، للبحث عن القماقم التي حبس فيها سليمان بن داود الجن الشريرة, وصل مع الشيخ عبد الصمد إلى رابية عالية فقصدوها هما ومن معهما, فإذا هي شخص من نحاس وله سنان يلمع مكتوبٌ عليه: أيها الواصل إلى هذا المكان فافرك السنان بيدك فإنه يدور, فأنا موضع وقف, فاسلك الطريق إلى مدينة النحاس.

 قال الراوي:فدنا الأمير موسى من الفارس وفرك السنان بيده، فدار الفارس مثل البرق الخاطف، ووقف السنان إلى جهته، فتبعوا الطريق ساعة من النهار, فإذا هم بجبل عظيم على ساحل البحر, ووجدوا طريقاً ضيقاً( وردت طريق ضيق) فساروا فيه واحد بعد واحد حتى خلصوا منه، فوجدوا أرضاً واسعة، فساروا (وردت فصاروا) فيها أياماً وليالي تمام. فبينما هم سائرين وإذا هم بجبل عظيم وفي أصله شئ قائم, فدنوا منه، فإذا هو عمود من الصخر الأسود، منفرد ما عنده أحد وفيه شخص مسجون غائصٌ إلى إبطه وله جناحان عظيمان واربع أيادي وهي ( وردت وهم) كأيدي الآدميين وأيدي السباع ومخالب حداد، وله شعر في رأسه كأذناب الخيل، وله عينان مشقوقتان طولاً كأنهما جمر الفضاء يقدح منها الشرر، وهو ينادي: سبحان من حكم علي بهذا البلاء المقيم والعذاب الأليم.

قال الراوي: فلمّا عاينوه طارت عقولهم وفزعوا منه ! فقال له: ادنوا مني، فدنوا منه. فسألوه عن حاله، وقالوا: أيها الشخص العظيم، من أنتَ وما اسمك ومن جعلك في هذا المكان؟

فقال: أنا عفريت من الجن، واسمي كهلش بن لاقيس، وأنا محبوس بالقدرة، مغرق بالعظمة، معذب إلى ما يشاء الله تعالى.

فقال الأمير موسى للعفريت: وما سبب سجنك في هذا المكان؟

فقال العفريت: حديثي عجيب وأمري غريب...

قال العفريت (وردت الراوي) ومن جملة أمري أنه كان لامرأة إبن إبليس صنم من العقيق الأحمر، وكنت موكلاً (وردت موكل) بهذا الصنم والناطق بلسانه (وردت على لسانه) وكان يعبده ملك من ملوك البحر وكان ذلك الملك عظيم المنظر، يقود من العساكر ألف الف عنان من الأنس وألف ألف عنان من الجن، يضربون بين يديه بالسيوف ويجيبون دعوته ويقضون حاجته. وكان الجن الذين يطيعونه تحت أمري وطاعتي. وكان كلٌّ منا عصاة على سيدنا سليمان بن داو، عليهما السلام. وكان للملك ابنة ما على وجه الأرض أحسن منها، فبلغ خبرها إلى سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام. وخبر أبيها وصنمه . فكتب إلى أبيها يقول له., إني أريد أن تزوجني ابنتك وتكسر صنمك وتقول : لا إله ألا الله وأ، سليمان نبي الله. فغ، فعلت ذلك كان لك ما لنا وعليك ما علينا, وإن ابيت فاستعد لنا جواباً وللموت جلباباً. لفإني ( وردت فكيف) أسير إليكم بعساكر تملأ الفضاء. فلما حضرت مراسلة سيدنا سليمان ابن داود، عليهما السلام، إلى عند الملك، كبر عليه وعظم لديه وقال لوزرائه: ما تقولون في قول سليمان بن داود، فقد أرسل إلي يطلب ابنتي ، ويقول: اكسر صنمك وادخل في ديني !

فقالوا: أيها الملك، وما سليمان الذي يقدر أن يفعل معك وأنت شديد النعمة وذو بطش، تحكم على ألف ألف عنان من الأنس وألف ألف عنان من الجن. وأنتَ في هذه الجزيرة التي لا يصل إليها أحد . والرأي أن تشاور إلهك في ذلك وتنظر كيف جوابه لك.

قال الراوي: فقام الملك ودخل إلى الصنم وأنشأ يقول:

 يارب إنّا طالبون نصري = هذا سليمان يريد كسري,

قال العفريت: فدخلتُ في جوف الصنم بجهلي وقلة عقلي وعدم معرفتي بسليمان بن داود، عليهما السلام، وقلت:

أمّـا  أنـا فلستُ منه iiخائفا
ولـسـتُ ألقاه بقلبي iiراجفا
وإنـنـي للروح منه iiخاطفا


ومن يريد خربي فإني راجفا
لأنـنـي  بـكل أمرٍ iiعارفا
والـضرب بالبيض له iiمألفا

قال الراوي:فلمّا سمع الملك هذا الشعر, قوي عزمه لحرب سليمان, وكفر وتجبّر ، وأخذ رسول سليمان وضربه ضرباً وجيعاً، وردّ عليه ردّاً شنيعاً وجعل يهدده ( وردت يهدد عليه) وقال له: قل لسليمان (أن) يسير إلي، وإلاّ أسير إليه، وها أنا قادمٌ عليه.

قال: فلما رجع الرسول إلى سيدنا سليمان، عليه السلام، وأعلمه بذلك، غضب غضبأً شديداً وقامت فيه نخوة النبوة، وجمع الانس والجن، وأرسل إلى ملك الوحوش، وأمره أن يجمع الوحوش من جميع البراري والقفار. ودعى ( وردت وادّعى) بملك الطير، وأمره أن يجمع الطير. وأمر وزيره الدرمياط (من الجن) وأمره أن يجمع العفاريت المتمرّدة ، وهم مئة ألف ألف. وركب بساطه وأمر الريح أن تحمله، وسار هو وجنوده من الانس والجن والطير والوحش، ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى الجزيرة وقد ملأت الجيوش تلك الأرض، وأرسل إلى ملك الجزيرة يقول له: قد أتيتك ، فردّ عن نفسك ما نزل بك، وإلاّ تزوجني ابنتك وتكسر صنمك، وتقول: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ سليمان نبي الله. ,عن أبيتَ فابشر بخراب جزيرتك ودمار قبيلتك.

فمضى الرسول وأعلمه بذلك.

قال الراوي: (قال الملك) فما (إ)لى ذلك سبيل، فارجع إليه وقل له إني خارج إليه وقادم عليه.

فعاد الرسول إلى سيدنا سليمان وأعلمه بذلك .

وأما الملك ، فإنه دخل على صنمه ودعاه (وردت ودعا إليه)فأجابه وأنعم عليه وجمع الجيوش (من) الذين أطاعوه من الأنس والجن، وأتوا من البحار والجبال، فاجتمع خلقٌ كثير، ولأحضر الملك مراكبه وأخرج آلات السلاح وفرّقها على الأنس والجن، هذا (ما) كان...وأمّا نبي الله سليمان، فإنه دبّر امره وأمر الوحوش أن تنقسم عن يمين القوم وشمالهم, وأمر الطيور أن تكون في الهواء (وردت الهوى) وقال لهم: إذا رأيتمونا حملنا عليهم، فانقروا أعينهم واضربوا وجوههم بأجنحتكم. وأنتم أيها الوحوش اعقروا خيولهم ولا تتركوا منهم أحدا. فقالوا: سمعاً وطاعة لله ولك يا نبي الله.

ثم أنه احضر ثمانمئة مركب، فعدّوا إلى الجزيرة ونزلوا بناخيةٍ منها، فكانت مسيرة عسكره ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع وقعت العين على العين والتقى الجيشان.

قال الراوي:ثم نزل قضاء الله في عسكر الملك من (نبي) الله، سليمان بن داود، عليهما السلام, فكان أول من حمل الدرمياط (1) بهوله كأنه جبل عظيم, فرميته بسهمٍ فأخطأه (وردت فخطاه) ورماني بسهم فوقع علي، وصرخ علي، فأحسست

( وردت فحسست) أن السماء قد انطبقت على الأرض. ثم حمل بأصحابه علينا، وصرخنا على بعضنا، واشتعلت النيران وعلا الدخان، فكادت النفوس تنفطر من حرب الجان، وقامـ(ـت) الحرب بيننا، فقاتلنا قتالاً شديداً. وصار النحل والنمل والذباب في وجوهنا كالليل المظلم (2)ونحن في أشد ما نكون من الضيق والدرمياط لا يرجع عني، ووليت هارباً منه، فتبعني وقد حملتْ علي الإنس والجن ، والإنس على الجن والجنّ على الجن والوحوش عن اليمين والشمال. وكل من هرب منا أكلوه، والطيور على رؤوسنا ينقرون أعيننا ويأكلون أجسادنا حتى أكلوا أكثرنا، ففررنا من بين أيديهم هاربين وإلى النجاة طالبين. كل ذلك والدرمياط يتبعني في في جوِّ الهواء وفي لجّ البحار، حتى وقعت في يده كالطير الذي لا ريش له. فقلتُ له: بحق من أعزّك وأذلني، لا تؤذني إلاّ بين يدي نبي الله سليمان، يفعل بي ما يشاء. فأخذني خقيراً ذليلاً إلى عند نبي الله ، سليمان بن داود، عليهما السلام.

فلما أوصلني إليه أخذني وسجنني في هذا العمود، وجعلني كما ترى، وختم علي وأمر الدرمياط أن يرميني في أوحش الأرض، فحملني وجعلني في هذا الجبل، وهو سجني إلى يوم القيامة ، ووكّل بي من يحفظني من الجان، وتركني في هذا العذاب الشديد.

فقال الأمير موسى: لقد أوتي سليمان بن داود، عليهما السلام، ملكاً عظيما,

فقال الشيخ عبد الصمد للجني: إن سألتك عن شئٍ تخبرنا عنه؟

فقال: سل ما شئت.

فقال الشيخ: قد قربنا من قماقم النحاس التي هي محابس الجن؟

قال: في بحر كركر، مقاطع مدينة النحاس من الغرب.

 (1) حسب الروايات الإسلامية هو ملك الجن الذين كانوا في خدمة النبي سليمان الحكيم.

(2) هل فكّر الإنسان باستخدام السلاح البكتيريولوجي منذ القدم ؟!

قال الشيخ عبد الصمد: كم بقي بيننا وبين مدينة النحاس ؟

قال: أيامٌ قلائل.

قال له الشيخ: صف لنا الطريق.

فقال العفريت. هي عن شمالي، سيروا ولا تسلكوا طريقاً غيرها.

مدينة النحاس

قال الراوي: فتركوه وساروا وجعلوا يحثون السير ليلاً ونهارا، حتى قطعوا براري وقفارا وأودية وأوعارا، حتى أشرفوا على مدينة النحاس، وإذا لاح لهم سواد عال عظيم تحت جبل وعنده نيران شاعلة متصاعدة. فقال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد:

ما هذا السواد وهذه النيران ؟

قال: هذه مدينة النحاس.

قال الراوي: فلم يزالوا سائرين مدة ثلاثة أيام حتى وصلوها، فإذا هي مدينة حصينة شاهقة واسعة، علوّ سورها( وردت صورها) ثمانون ذراعاً بالهاشمي (؟) ولها خمسة وعشرون باباً ، وليس (وردت ولم) فيهم باب له فتح من الخارج، بل يفتح الكل من (الـ)ــداخل.

قال الأمير موسى: وكيف الحيلة في دخول هذه المدينة وليس لها مسلك / وسورها عظيم عالي كأنه جبل عالي أصمّ ؟

فقال الشيخ: أيها الأمير، أنزل بنا نستريح يومين أو ثلاثة، وبعد ذلك ندبّر حيلة في الدخول إليها، إن شاء الله تعالى.

قال الراوي: ثم أن القوم نزلوا ونصبوا خيامهم. ثم أمر الأمير موسى رجلاً من أصحابه أن يركب هجيناً من الجياد ويسير حول ( وردت حوالي) هذه المدينة، لعله يلتقي مسلكاً أو موضعاً يدخلوا منه.

قال:فركب الرجل وأخذ معه من الزاد والماء ما يكفيه ثلاثة أيام، وسار حولها يومين يجدّ في السير لا يستريح أبداً، فلم برَ إلاّ أبراجاً مشيدة كانها قطعة واحدة، وأسوراً عالية لا يوجد فيها ثقب ولا نقب ولا شئ, فلما كان في اليوم الثالث وصل إلى أصحابه مذهول العقل مدهوش البال.

فقال له الأمير موسى: ما الذي رأيته يا فلان؟

فقال الرجل: أيها الأمير، أهون موضع الذي نحن فيه، ولقد حرت في حسن بنيانها وعلو أبراجها...

قال الراوي : فقام (وردت فقال)الأمير موسى والشيخ عبد الصمد وطالب بن سهل وصعدوا إلى الجبل حتى اشرفوا على المدينة، فنظروا إليها وتشوقوا إلى دخولها. فنزلوا واحتالوا على باب ففتحوه ودخلوا، فإذا هي مدينة حصينة ما رأى ( وردت ما ترى) الرائون مثلها, دورها عامرة وقصورها عالية وأبوابها شاهقة وأنهارها دافقة واشجارها باسقة وأطيارها ناطقة تسبح (لـ)ـمن له العزة والبقاء، وقصورها تبكي على من كان يسكنها ويأوي إليها(وردت ويأواها) وهي خالية ما فيها حس حسيس ولا إنس أنيس , إلا البوم يصفر في شوارعها وعرصاتها...

قال الراوي: فتأسّف الأمير موسى عليها وعلى أحوالها وخلوّها من السكان، ثم انه بكى بكاءص شديداً حتى (أ)غشي عليه، فلما أفاق قال: لا إله إلاّ الله الباقي بعد فناء خلقه. والله إن كل ملك آخره الموت، الفقر خير منه...

ثم أنهم صعدوا الجبل مرة ثانية وصاروا يتفرجون فيه ، فنظروا خوشقاً(1) شاهقاً في الهواء ( وردت: فنظروا خوشق شاهق في الهوى)مبني على عواميد من الذهب الأحمر، في وسطه بركة ، والمياه فيها تتدفق، وفيه بستان فيه كل ما يشتهيه الإنسان من أشجار الفواكه والثمار وعليها أطيار البلابل والهرار(؟) وفيه قبة عالية على عشر(ة) عواميد من الذهب الأحمر، ولها أربع دكك من الذهب والفضة ، ولها أربعة أبواب, وأرض القبة (وردت والأرض القبة) مصفحة بصفائح الذهب ، وسقفها من العاج الأبيض والأبنوس الأسود، مسمّرة بمسامير الذهب والفضة، حيطانها مرصعة بالدرر والجوهر والزبرجد الأخضر,,,

فصار الأمير موسى والشيخ عبد الصمد متفكرين حائرين مما رأوا من العجائب والأموال ، وهي خالية، لا حسّ حسيس ولا إنس أنيس. وإذا بالسيوف على أبوابها معلقة ورماح متشابكة ( وردت مشتبكة) ورايات منشورة ، وإذا فيها سبعة ألواح من الرخام مكتوب فيها من أحسن كلام وأظرف نظام، فيها (مـ)ـواعظ واعتبار لذوي العقول والأفكار.

قال الراوي:ثم أن الأمير موسى قال للشيخ عبد الصمد : إقرأ ما على هذه الألواح. فدنا الشيخ عبد الصمد وإذا على اللوح الأول

(1) الخوشق هو الجزء الردئ من كل شئ، أنظر لسان العرب,

مكتوب < يا بن آدم ما أغفَلَك عن أمري ؟ ما هو أمامك؟ وكأس المنية لك مترع وعن قليل مسرع ، فانظر لنفسك قبل حلول رمسك! أين ملوك الشرق والغرب؟ أين الذين ملكوا البلاد وأذلّوا العباد وسكنو الحصون والشو(ا)هق وقادوا الجيوش والعساكر، فنزل بهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات وخرّب المنازل العامرات ومعمّر القبور والدارات، وأنزلهم من سعة القصور إلى ضيق القبور، فسبحان الله القار فوق عباده وهو على كل شئ قدير > وقرأ شعراً (وردت وأنشد يقول شعراً)

أيـن  الأُلى ملكوا الدنيا إذا iiزعموا
وشُـتِـتـوا بعد لمّ الشمل وافترقوا
وأصبحوا في الثرى رهناً بما عملوا
مـن بـعد ما كان أمن في iiمنازلهم
سـكـنـاهـم بعد عزّ في iiمنازلهم
فـلا  يـغـرّنكم طيب الزمان iiلكم






قـد فارقوا مابنو رغما وما iiصبروا
قد  ذلّهم حكم رب العرش وانكسروا
وأيـن جـمـعهمُ هيهات ما iiكبروا
مـضـوا  جميعاً ولم يُعلم لهم iiخبرُ
ضيقُ  اللخود وردم الترب iiوالحجرُ
وإن  صفا ساعةً كم يتبع الكدر ii(1)

قال الراوي:فبكى الأمير موسى ومن معه وجرت دموعهم وقالوا: والله إن هذا هو التوفيق وغاية التحقيق...ثم أنهم كتبوا ذلك الشعر وتقدموا إلى اللوح الثاني، وإذا عليه مكتوب < بسم الله مقدّر القدر ومنزل المطر وخالق البشر، سبحان الله مقدّر القضاء وعاجل السخط والرضا، الذي حكم فأمضى ، ربّ الأرباب ومسبب الأسباب ومنشئ السحاب ومبدئ الخلق من تراب. يا ابن آدم ما غرّك بالقديم الأزل وما أغفلك عن حلول الأجل ـ فلا تغتر بالدنيا وطول الأمل . ألا تعلم أن الدنيا الناظر إليها، مربوط عليها: أين الملوك الذين ملكوا العراق ، أين العمالقة والجبابرة الأوثاق ،أين ملوك خرسان الذين فرّقوا ومزّقوا كل إنسان, دعاهم والله داعي الموت فأجابوه، وناداهم منادي الفنا فأتوه ، وصاح بهم صاحب الرزايا فلم يخالفوه. فما نفعهم ما بنوا وشيدوا، ولا ردّ عنهم ما

(1) حاولنا صياغت هذه الأبيات لشكل أنسب ، حيث وردت بأخطاء إملائية ونحوية عدا عن الأوزان ...

جمعوا وعدّدوا >

قال الراوي:ثم ان الأمير موسى بكى واعتبر مما رأى ...ثم دنو إلى اللوح الثالث، وإذا عليه مكتوب هذه الكلمات: < باسم الله مال الملك ومسيّر الفلك ، الأول والآخر، الظاهر والباطن، ذو القدرة والسلطة، لا يشغله شأن عن شأن ...يا ابن آدم أنت بعينيك ساهي، وطوال أيامك لاهي، كل يوم من عمرك ماضي، وأنت بذلك قانع وراضي، فقدّم الزاد ليوم الميعاد واستحضر الجواب لرب العباد> .

قال الراوي: ثم دنوا إلى اللوح الرابع وإذا عليه مكتوب: < بسم الله عظيم العظماء، بسم الله قديم القدماء، باسط الأراضين ورافع السماء. يا ابن آدم، لما خالفت مولاك ، وأنت غائض في بحر هواك. كل يوم فضله عليك ونعمته لديك، مشغول بالذنوب وبالمعاصي، فما شأنك يوم يؤخذ بالنواصي, هل لا تستحي ممن يراك وأنت لا تراه، فتأتي يوم القيمة حزيناً على ما فرّطت في حب (وردت حنب) الله > ومكتوب عليه هذه الأبيات ، صلّوا على سيد السادات:

أين الذين عمّروا البلدان والقرى
*             *             ii*
مـن بـعد تعمير السواحل iiكلها
وتباعدت  أجسادهم عن iiروحهم
فـالعيش  يومٌ والمسرّة iiتنقضي
فـاحفظ  وصية قابلٍ لك iiناصحٌ
كم  من رجالٍ فوق فرق iiجبينهم







ذهبوا  وغابوا كلهم تخت iiالثرى
*             *             ii*
بـعث  المنون لهم نداءَ، iiفماتوا
لـكـن  مـنـازلهم بهم iiشُمّاتُ
والـدهـر فـي طـبقاته iiآفاتُ
فـي  دهـره تتكامل iiالحسرات
فسالتُ  عنهم قيلَ: قد ماتوا ii(1)

 (1) غيرنا في توزيع كلمات هذه الأبيات وتصحيح الأخطاء الإملائية وحاولنا تصحيح الأوزان قدر المستطاع دون أن نمسّ بالمعنى.

قال الراوي : ثم دنوا إلى اللوح الخامس وإذ عليه: هذه الكلمات < بسم الله خالق السموات والأرض وجامع الناس ليوم العرض, يا بن آدم مالذي يلهيك عن طاعت ربك؟ ألم تعلم أنه حاضر معك ليس غائب ؟ يرزقك وأنتَ تعصيه، وتجحد نعماه وهو بحلمه يسيل عليك بستره فاعتبر قبل أن تمسي وحدك وحلولك في رسلك > ومكتوب عليه هذه الأبيات:

فأين ( كل) ملوك الأرض إذ iiذهبوا
كـانـوا إذا ركـبوا يوماً iiمراكبهم
وكـم مـلـوكٌ أُزيلوا من iiمنازلهم
فـلا تـكـن غافلاً عمّ غررت iiبهِ




فأصبحوا بعد طيب العيش قد نُكبوا
عـسـاكـرٌ  تملأ الآفاق إذ ركبوا
وكـم  من ملوكٍ أذلّوها وقد iiغُلبوا
وانـظـر إلى فعلها فالدهر iiينقلبُ

قال الراوي : ثم دنوا إلى اللوح السادس وإذا عليه مكتوب < بسم القائم على مرّ الأيام بما يكون في الأعوام، منوّر النور ومنشئ الظلام ، ذو الجلال والإكرام. يا ابن آدم لا تظن أن السلامة تدوم وعقاب المنية فوق رأسك يحوم، أما يصبحك ويماسيك , أين أحبّائك وخلانك؟ أين أهلك وجيرانك؟ أين قومك وأعوانك ! مضوا في سفر فلم يعودوا إلى يوم النشور. فاعتبر يا ابن آدم بمن سلف قبلك ، كأنهم ما جلسوا وصاروا رهناً بعد ما كسبوا واختلسوا. فانظر لنفسك النجاة وافزع لمن يراك وأنت لا تراه، ولا تكونن ممن اتبع هواه >.

قال الراوي: ثم دنوا من اللوح السابع، وإذ عليه مكتوب < بسم عالم الأسرارومنزل الأمطار ومغلي الأسعار وهي غرار، ومرخصها وهي قفار، خالق الليل والنهار، الملك القهار. يا بن آدم لا تركن إلى طيب الزمان، فتصبح ندمان، فلا تأمن إلى الدنيا وغرورها، فإنها دار انقطاع سريعة الفراق بعد الاجتماع، فمن تعلّق بها قطعته، ومن طلبها خدعته، ومن وثق بها فجعته >

قال الراوي: ثم اتوا إلى المكان الذي صعدوا منه ونزلوا من الجبل. ثم قال الأمير موسى للشيخ: سر بنا إلى المدينة لننظر ما فيها. فأتوا إلى الباب الذي دخلوا منه أولاً، فوجدوه قد قفل كما كان. فاحتالوا عليه فلم يمكنهم.

 فقال الأمير موسى: وكيف العمل؟

قال الشيخ : الرأي عندي أن نقطع من ورق الصنوبر ونصنع سلماً ونصعد إلى السور(وردت الصور) .

فعند ذلك أمر بقطع الأخشاب، وقطعوا سلماً عالياً وأقاموه إلى حائط السور .

 وقال الأمير موسى:من يصعد إلى أعلى السور؟ ( وردت أعلا الصور)

 فطلع (أحدهم) وأشرف على المدينة وقام على قدميه ، وصاح صوتاً عظيماً. فقال: آمنت بالله. ثم صفق بكفيه وطار إلى داخل المدينة فاندقّ عنقه ومات.

فقال الأمير موسى: لا شك أن هذا الرجل اعترضه عارض من الجان فأهلكه. إنّا لله وإنا إليه راجعون.

فقام رجل آخر وقال: أنا اصعد وأفتح الباب.

فقال الأمير موسى: لعلّك أعقل منه، فاحذر أن تطير مثلما طار، ولا تشغل نفسك بالنظر.

قال الراوي: فلما صعد وصار على أعلى السور( وردت الصور)، ضحك ضحكاً شديداً، ثم صفّق بكفيه وقال: والله مليح، وطار إلى داخل المدينة. فاندقّ عنقه ومات, فقال الأمير موسى: إن كان هذا العاقل هلك فعلى هذا الحال لن يبقى ( وردت لم يبق) من أحد ولن ( وردت أفلم) تُقضى حاجة أمير المؤمنين ,

ثم صعد ثالث ورابع وخامس, إلى أن كمّلوا عشرين رجلاً، وهم يرمون أنفسهم إلى داخل المدينة ويموتو(ن).

قال الراوي: فقام الشيخ عبد الصمد الدليل وقال: أيها الأمير، ما إلى هذا الآمر سواي، وأنا أصعد وأكشف لك الخبر,وليس من جرّب كمن لا جرّب.

فقال الأمير موسى: لا تفعل ذلك فإنك إن صعدت وطرت مثل هؤلاء القوم هلكنا عن آخرنا، والرأي أن نرحل عن هذه المدينة.

فقال الشيخ عبد الصمد، لا خوف عليكم،إن شاء الله تعالى ولا بدّ من الصعود إليها وأنظر ما فيها.

قال الراوي: ثم أن الشيخ بسمل ( وردت سمى) وتحصن وطلع على السلم وهو يتلو أيات وأسماء إلى أن صار أعلى السور (وردت الصور) وأشرف على المدينة ، فصاح صوتاً عظيماً وقال: والله مليح وصفّق بكفيه، ثم جلس إلى الأرض ساعة، ثم زجرهم، فذهب عنه ما وجد ( وردت ما يجد) ثم قام على قدميه وقالك ابشروا بالخير، لا باس عليكم ، فإن الله قد صرف عنا كيدهم ببركة اسم الله الأعظم.

فقال الأمير موسى: مالذي رأيته ؟

قال: رأيت عشر جوارٍ كأنهمّ الأقمار وشعورهن كالعرسان ووجههن حسان ، فقلن ( وردت فقالوا) : هيا إلينا وخذ منا ما تريد. فلما رأيتهن ( وردت رأيتهم) كدت أطير وارمي نفسي إليهن ( وردت إليهم) فزجرتهن ( وردت فزجرتهم) باسم الله تعالى، فصرف عني كيدهن ( وردت كيدهم)

فقال الأمير موسى: بشّرك الله بالخير .

ثمّ تمشّى الشيخ على السور ( وردت الصور) حتى صار إلى البرجين النحاسيين ، وإذا عليها باب من النحاس الأندلسي (1)وله لمعان كأنه ذهب وبينهما فارس من نحاس راكب على جواد من نحاس. فوقـ(ـف) الشيخ متحيراً ولم يعرف كيف يفتح الباب، وإذا على كف الفارس مكتوب<< ايها الواصل إلى هذا المكان، عن أردت ان تفتح الباب، فإن فيه مسمار حديد ،( فا)فركه عشر فركات على اليمين فإنه يفتح.

قال الراوي: فمسك الشيخ المسمار وفركه عشر فركات فانفتح الباب ، وإذ هو بدهليز كبير طويل فيه دكتين متقابلتين من اوله إلى أخره ، وعليهما أقوام موتى ، وإذا بالسيوف معلقة والرماح مشبكة والرايات منشورة ، وزرود(2)ودروع وأتراس ، وخلف الباب عمود حديد ومراسي صنوبر . فقال الشيخ في نفسه : ما تكون المفاتيح إلا مع هؤلاء القوم الموتى. فتقدم إليهم ونظر فيهم، فإذا فيهم شيخ كبير ، فشال ثيابه وإذا المفاتيح في جيبه . فأخذهم الشيخ عبد الصمد وفتح الباب من الداخل ( وردت من جوى) فلما نظر _وردت رأى) المير موسى والعسكر إلى فتح الباب ، هللوا وكبروا وهمّوا بالدخول ، فمنعهم الأمير موسى وقال: يدخل البعض ويبقى البعض . فلما دخل الأمير موسى ونظر إلى تلك الرجال وهم شيخ وشباب وكهول وأتراب وكل منهم متكئ على وسادة وقد بليت منهم الأجساد وقد بليت الأجستد ، وبقيت جلودهم على العظام ، يراهم الناظر كأنهم نيام (3)

قال الراوي:فتفكّر القوم في حالهم وأمرهم وما حكم الله عليهم، ثم جاءوا على اول بيوت المدينة ، وإذا هو كبير عالي مربّع الجنبات

(1)نلفت نظر القارئ أنّ موسى بن نصير كان قد افتتح الأندلس مع طارق بن زياد.

(2) الزرودة هي خلقة الدروع.

(3) يصوّر لنا كانهم المومياء التي يدرسها علماء الآثار بدون احترام للحضارات التي اندثرت وذلك باسم زيارات المتاحف.

لا يزيد بعضه عن بعض، وهذه المدينة لم ينظر الناظر أحسن منها، قصورها عاليات ودورها شامخات وأشجارها مثمرات وأنهارها جاريات، وهي هامدة لا حس فيها ولا حسيس ولا أنس ولا أنيس ، حكم بهذا الواحد الأحد، والظلام على دورها والبكاء على سورها ( وردت صورها)لفقد أهلها تتاسف على طيب زمانها ، وشوارعها تبكي على من كان يسكنها. ثم نظروا إلى الدكاكين مفتحة والموازين معلّقة...

قال الراوي:فتعجب الأمير موسى من ذلك، ولم يزالوا سائرين من سوق إلى سوق، والناس فيها مطروحين، وقد بليت منهم الأجساد وبقيت الجلود على العظام، ينظرهم الناظر يحسبهم نيام لطول الليالي والأيام.ثم مضوا إلى سوق الصيارفة وإذا فيه الأنطاع مبسوطة والأموال عليها مطروحة والأوزان معلقة. ثم مضوا إلى سوق الجوهر، وإذا الضناديق مفتحة فيها أنواع الدرر والجواهر. ثم مضوا إلى سوق العطارين ، وإذ الدكاكين موسوقة بأنواع المسك والعنبر وطيب الكافور يفوح منها ... وكل ذلك أصحابه موتى وليس ( وردت ولم) فيها شيئاَ من القوت يؤكل ( وردت يأكل). ثم مضوا إلى أخر سوق العطارين، وإذ بقصرالملك فدنوا منه ، وإذ بابه مفتوح والأعلام على بابه منشورة، وعلى باب القصر بسط من الحرير مفروشة، وفوقها رجال موتى، شيوخ وشباب، وكل واحد منهم تحته مدورة وتحت رأسه وسادة، وقد يبسوا من طول الأيام والأعوام ...

فوقف الأمير موسى والقوم ينظرون إليهم وإلى القصر وهو عالي البنيان مشيد الأركان، هائل كأنه جبل أصم، شامخ وهو يشرف على المدينة كلها. وهو خالي من السكان عديم الأهل والخلان ، مافيه حس حسيس ولا أنس أنيس ، وقد علاه الغبار. سبحان الله الواح القهار.

قال الراوي:فبكى الأمير موسى حتى (أ)غشي عليه، فلما أفاق دخل الفصر، فلما أفاق دخل القصر ، وإذ فيه حجرة كبيرة فيها أربع لواوين متقابلات عاليات مبنياتٍ لبنة من قضة ولبنة من ذهب ، وصناديق من ذهب . وعلى ليوان منها سرير من الأبنوس الأسود مطعّم بالعاج الأبيض مصفّح بصفائح الذهب مرصّع بالدرر والجوهر ، وعلى ركن من السرير طير من الياقوت الأحمر، مطعّم بالدرر والجوهر والزبرجد الأخضر . وعلى هذا السرير جارية كأنها الشمس الضاحية في السماء الصاحية، لم ير الراؤون أحسن منها ، وعليها ثياب من الحرير مزركشة بالجوهر ، وعلى رأسها تاج وعصابة من الجوهر محشوة بالعنبر ، وفي عنقها عقد من الدرر والجوهر وفي وسطها درة وفي جناحيها جوهرتان ، وهي ناظرة بعينين كحل كأنهما عينا غزال.

قال الراوي:فتعجّب الأمير موسى من حسنها وجمالها وحمرة خدودها وسواد شعرها وبياض كفيها وأطراف أناملها فظنهاحية (وردت فظن يحسبها حية)، فسلّم عليها فلم تتحرك بخطاب ولم تردّ عليه جواب .

فقال الشيخ عبد الصمد: أصلح الله الأمير، إنها ميتة لا روح فيها!

فقال: ما نراها غلا ناظرة إلينا.

فقال: إنها مصبّرة وقد قلعو عينيها ( وردت قلعن عيناها) ووضعوا فيهما الزئبق وردوهما كما كانتا ( وردت كما كانوا) وإذا لعبـ(ــت) الريح تحركت عيناها كما ترى.

فقال الأمير موسى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحان الله الدائم الباقي بعد فناء خلقه.

قال الراوي: وإذ بعبدين بين يديها، واحد أبيض والآخر أسود، وبيد كل واحد منهما سيف مسلول وفوق رأسيهما لوح من ذهب أحمر مكتوب فيه: < بسم القوي الضديد المبدي المعيد، بسم الله الذي ليس له انقضاء، الذي حكم فأمضى، يا ابن آدم لا تغتر بالأمل، فيفسد عليك ما قدّمت من عمل،

إياك أن ترغب في البنيان مجتهدا فقد بنَتْ قبلك الماضين والأُوَلُ

قد زخرفوا في الدُّنا أغلى تصّورهم لم يعلموا أنهم لا شك في زلل

إلى القبور، فهم فيها اذا انقرضوا إلى القيامة منساقين كالأُوَل

فاكثر من الزاد ما سمّه خالقنا فذاك تقوى الإله الواحد الأزل (1)

قال الراوي: فلما سمع الأمير موسى هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلام وقال: والله هذا هو الحق المبين...

وعليه مكتوب من الجانب الآخر:< أيها الواصل إلى هذا المكان ، اعتبر ما ترى من حوادث الزمان وطوارق الحدثان ولا تركن إلى

(1)أجرينا بعض التعديلات لتصحيح الأبيات من حيث الوزن.

الدنيا وبهتانها، ولا تعجب لحسن بنيانها وتصورها، وأحسن ظنّك من ربِّ العباد وأكثر من الزاد ليوم الميعاد، واعلم أن الملك الديّان هو ربّ العباد، واعتب بمن سلف قبلك من الأمم المتقدمين والقرون الماضين، وانتبه وتذكّر وتدبّر وتفكّر. يا ابن آدم ما أغفلك عمن خلقك ورزقك. أين آدم أبو البشر؟ أين شداد بن عاد الأكبر؟ أين أهل الناس؟ أين مَن أذل الناس؟ أين من زاد في الطغيان؟ أين ملوك السودان؟ أين فرعون وقارون وهامان؟ أين النمرود بن كنعان؟ أين داود وسليمان؟ فرّقهم والله هادم اللذات ومفرّق الجماعات واسكنهم في ظلمات القبور إلى يوم البعُ والنشور. فع (وردت فاعد) لنفسك قبل حلول رمسك. فاعتبر يا من سمع هذا الكلام وخذ ما تشتهي من الذهب والفضة والدرر والجوهر، واقنع بذلك ولا تطمع فيما على جسدي، تقع في المهالك، وبالله عليك لا تهتك ستري ولا تكشف عورتي، فغني حرمة، وللحرمة على ناظرها حق. فإن كنت لا تعرفني أنا أعرّفك بنفسي: انا العفيفة النظيفة الظريفة اللطيفة ، بنت ملك هذه المدينة. مَلَكَ البلاد وأذلّ العباد، وملكت ملكاً بعد أبي ما ملكته واحدة ( وردت ما ملكه أحد) من بنات الملوك، وعشت عيشاً رغداً ووهبت وأعطيت وأطلقت وأنعمت ومت عزيزة وذلك أنا كنّا في هذه المدينة آمنين مطمئنين. ومضى علينا أحقاب وسنين ونحن فرحين مسرورين. فلم نشعر إلا وقد أتانا نازل المنايا وحلّ بنا محل الرزايا ( وردت الزايا) حتى توفانا حكم ربّ العالمين، وذلك أنه ترادف علينا بالجدب سبع سنين، لم تنزل لنا من السماء قطرة ولم تنبت لنا من الأرض ورقة. ففي سنة والثانية والثالثة أكلنا ما ادخرناه من جميع القوت والزاد والمواشي...وسابع سنة حملنا أحمال الذهب والفضة وأرسلناها في جميع الأقطار والبلاد والبراري ( وردت البرر) يطلبون كيلاً بكيل فلم يجدوا شيئاً (1)ورجعوا خائبين. ثم بعد ذلك طحنا اللؤلؤ والجوهر وأكلناه، فلم يغذنا منه شيئ. فمن عظمة ما نزل بنا أكلنا بعضنا بعضا من الجوع والقحط.

وقد كتبت هذا الكلام وعظاً واعتباراً لذوي العقول والأفكار . فاسأل الله تعالى أن لا يبليكم بذلك. ثم أمرت بإغلاق هذه المدينة وأسلمنا أنفسنا(وردت وأسلم نفسنا) للقضاء لما نزل بنا من حكم القادر فيما قضى (وردت مضى) ولم نقدر (أن ) نردّ ما حكم به الجليل القدير.

قال الراوي: فبكى الأمير موسى ومن معه بكاءً شديدا، واعتبروا بما عاينوه. ثم بعد ذلك أمر الأمير موسى بإحضار الأعدال فجابوها وملؤها من أخسن ما يكون من الجوهر والدنانير وما قدروا على حمله.

(1) الراوي متأثر في هذا المقطع بسورة يوسف من القرآن الكريم.

ثم قال رسول أمير المؤمنين سهل بن طالب للأمير موسى: خذ ما على هذه الجارية فإنها ميتة وهي أخسن هدية لأمير المؤمنين.

فقال الأمير موسى: أما سمعت ما كتبت وقد أوصت وحلفت الإيمان؟

فقال سهل: لا بدّ لي من أخذ تاجها وما عليها، فإنها أوفى غنيمة.

فقال الأمير موسى: دونك وإياها، وأمّا أنا فلا حاجة لي بذلك.

قال الراوي: ُم أنّ سهل دنا من الجارية ليأخذ (وردت فيأخذ) ماعليها، وقد حطّ يده عليها، وإذا بالعبد الأبيض دار مثل اللولب فرماه (وردت فأرماه) على الأرض، فدار العبد الأسود كذلك فضربه بالسيف فقسمه نصفين. فلما نظره الأمير موسى قال: لا رحمة الله عليك ولا رعاك. اما يكفيك ما بين يديك؟ إن الطمع قاتل صاحبه لا محالة.

ثم أحذوا ما يكفيهم وأرادو الخروج، وإذ على الباب مكتوب من داخلـ(ـه) شعر:

تـفـكّر واعتبر في قدرة iiالباري
وانـظر بعينيك أقواماً إذا iiوصلوا
عافوا القصور وحلّوا الدور بعدهم
واعـلـم بأنك عن قرب iiمتابعهم




بـالميتين  وهم في عرضة iiالدار
تـحت اللحود وفي ترب iiوأحجار
والـيـوم بـعـدهم ما تمّ iiإعمار
لم يبق فيها سوى قهارها iiالباري.

قال الراوي: فلما سمع الأمير موسى ذلك الشعر والنظام قال: سبحان الله، ما كان أحسنهم في زمانهم وما أحسن نظامهم.

ثمّ أخذوا لهم راحة مدة سبعة أيام وارتحلوا، وما زالوا سائرين مدة أشهر. فعند ذلك أقبلوا على جبل شامخ شاهق، وفي ذلك الجبل مغائر كثيرة. فبينما هم سائرون، وإذا هم بأقوام جرذان عليهم أنطاع الأديم وبرانيس. فلما نظروا العساكر تنافروا منهم وخافوا ودخلوا المغارات، فنصبوا الخيام ونزلوا هناك.

فتقدّم الشيخ عبد الصمد الدليل وناداهم: اخرجوا لا بأس عليكم.

فخرجوا وعلى رؤوسهم برانيس، وإذا هم سود وملكهم أبيض. وهم لا يعرفون كلاماً غير كلامهم. فتقدّم الأمير موسى وأقبل على ملكهم، فقام على قدميه وقال للأمير: أنتم من الأنس أم من الجن؟

وكان ملك السودان يعرف العربية.

فقال الأمير موسى: نحن من الانس.وأنتم من أولاد مَن؟

فقال الملك: نحن من الكركر من أولاد آدم عليه السلام، وما وصل إلينا أحد غيركم.

فقال الأمير موسى: وما دينكم وما تعبدون؟

فقال الملك: نحن على دين محمد( صلعم) ونعبد الله الواحد القهار.

(قال الأمير موسى): ومن(أين) لكم ذلك؟ فهل (أ)وصل إليكم ذلك أحد؟

فقال ملك السودان: إعلم أيها الأمير(وردت الملك) إن كل جمعة يطلع علينا من هذا البحر شخص عليه ثياب خضر، وعلى وجهه نور من الشمس والقمر فيضئ (وردت فيضو) من وجهه البحر وهو يقول : سبوح قدوس ربّ الملائكة والروح، ما يشاء الله كان(و)من (لم) يشأ(ه) لم يكن...اعبدوا الرب الذي يرى ولا يُرى وقولوا قولاً مخلصاً: لا إله إلاّ الله، محمد الرسول، تنجو(ن) من عذاب النار,

فقلناك من أنت يرحمك الله ؟

فقال: أنا أبو العباس الخضر، عليه السلام.

ثم علمنا كلمات نقولها عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعلمنا شرائع الإسلام. وإن كنت لا تصدقنا فأقم عندنا حتى تنظره بعينك.

قال الراوي: فأقاموا عند هؤلاء القوم حنى نظروه بأعينهم. وودعوا القوم (بعد أن) دلوهم على الطريق، وساروا إلى صوب مقصدهم أياما وليالي تمام،وإذ بهم أقبلوا على واد فسيح الجناب وأرضها بيضاء لها نور ساطع، وقد لاح لهـ(ـم)سواد عظيم كالسحاب المتراكم سائر على وجه الأرض فقصدوه، فإذا هو النمل ( وردت النحل النحل) وهذا واديه الذي وصل إليه نبي الله، سليمان بن داود، عليهما السلام. ..