الزيارة الرابعة للهند

مصطفى محمد الطحان

الزيارة الرابعة للهند

بقلم: مصطفى محمد الطحان

[email protected]

خلال الفترة من 25 فبراير وحتى 5 مارس 2005م، ومع صحبة كريمة قمت مع الأخوين نادر النوري أمين عام جمعية عبد الله النوري الخيرية والأخ المهندس عبد الحميد البلالي رئيس جمعية بشائر الخير، بزيارة الهند للمرة الرابعة.

كانت الأولى في أوائل ثمانينيات القرن الماضي بدعوة من أمير الجماعة الإسلامية الأسبق الشيخ محمد يوسف (رحمه الله).. للمشاركة في مؤتمر الجماعة الإسلامية في مدينة حيدر آباد..

وأما الثانية.. فكانت إلى جنوب الهند في كيرالا حيث أقمنا في عام 1982 مؤتمراً للمنظمات الطلابية في آسيا، في إطار الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية.. وقد حضر هذا اللقاء ثلة من شباب الحركة الطلابية الهندية أمثال أمان الله خان، وزكي كرماني، وأحمد الله صديقي، وغيرهم.. ممن أصبحوا من أعلام العمل الأكاديمي في مختلف الجامعات.

وأما الثالثة.. فقد كانت في نيودلهـي.. بمناسبـة انعقاد مخيم طلابي لطلبة الهند..

وأما الرابعة.. فهذه التي أتحدث عنها.. وقبل أن أتحدث عن برنامج الرحلة التي استمرت قرابة العشرة أيام.. أحب أن أضع القارئ في أجواء هذا البلد العريق.. مركز إحدى حضارات الإسلام الشاهقة.. والهند اليوم هي إحدى الدول التي تسير بسرعة كبيرة لتتبوأ موقعها في عالم التنمية والتكنولوجيا..

من مدنها الكبرى كلكوتا وهي في أقصى شرق الهند، وهي مدينة كبيرة في حجمها وعدد سكانها.. وإذا قطعت عرض الهند إلى الغرب تواجهك مدينة بومباي (أو ممباي) وهي مدينة جميلة لها ساحل متعرج يدخل فيه البر في البحر، والبحر في البر، فلا ترى إلا رأساً بارزاً أو خليجاً والجاً، أو برزخاً معترضاً، وعلى الساحل جبل قائم، يلبس حلة من غرائب الأشجار، وعلى ذروته حديقة معلقة، ومقبرة مغلقة لقوم من مجوس الفرس، لا يدفنون أمواتهم مثلنا ولا يحرقونهم كالهندوس، بل يعرضونهم للطير والحيوانات تأكل لحومهم حتى تذهب بها كلها.

أما دلهي.. فهي مدينة عظيمة، يحس من يدخلها أنه في عاصمة إسلامية، من كثرة مساجدها وقبابها، وفيها المسجد الجامع وهو من أعظم المساجد، وأمامه القلعة الحمراء، وهي درة من درر العمران على الأرض، بناها (شاه جان) باني تاج محل أجمل أبنية الدنيا بلا جدال.

أما لكناو.. فلها حديث خاص.. فهي بلد أبي الحسن النـدوي ومركز ندوة العلماء.

الهند بلد مزدحم بالسكان تجاوز عددهم المليار نسمة.. طرقاتها ضيقة، ومع ضيقها فهي مكتظة بأنواع المركبات: السيارات القديمة والحديثة والدراجات النارية والهوائية وأنواع الحيوانات تجر العربات والناس الذين يمشون.. فمن الصعوبة بمكان أن تسير في مثل هذا الزحام.

حيث تقلبت في أرجاء الهند، وجدت الخضرة الممتدة من الأفق إلى الأفق، والأشجار الضخمة الكبيرة المثمرة وغير المثمرة، وعندما تهطل الأمطار فكأنها أفواه القرب..

المسلمون في الهند(1)

دخل المسلمون الهند حيناً بدافع ديني مجرد من كل مصلحة أو منفعة، يحملوا إلى أهلها رسالة الإسلام العادلة الرحيمة، من أمثال السيد علي الهجويري، والشيخ معين الدين الأجميري، والسيد علي بن الشهاب الهمداني الكشميري.

ودخلوها حيناً آخر كغزاة فاتحين، كالسلطان محمود الغزنوي، وشهاب الدين محمد الغوري، وظهير الدين بابر التيموري، فكانوا مؤسسي دولة عظيمة ازدهرت مدة طويلة، وخدمت البلاد، وتقدمت بها الهند في نواحي الحياة المختلفة.

ولقد جاء هؤلاء وهؤلاء ليستقروا في هذه البلاد فكل الأرض وطن للمسلم، وأن كل ما يضيفونه إلى ثروتها إنما يضيفونه إلى ثروتهم، ويحسنون إلى أنفسهم وأجيالهم القادمة، لأنهم أهل البلاد، وأمة المستقبل.

كانت نظرتهم إلى البلاد تختلف عن نظرة الأوروبيين المستعمرين يوم جاءوا إلى الهند، جاءوا ليستعبدوا شعبها وينهبوا ثرواتها وخيراتها.

دخل المسلمون الهند وهي تعتز بحضارة أصيلة عريقة في القدم، وفلسفة عميقة، وعلوم رياضية دقيقة، وخيرات عظيمة، ولكنها كانت تعيش منذ قرون في عزلة عن العالم، حجزتها الجبال والبحار عن بقية بلدان العالم، وكان آخر من دخلها من العالم المتمدن هو الإسكندر الكبير..

دخل المسلمون الهند، وهم يومها أرقى أمة في الشرق، بل في العالم المتمدن المعمور في ذلك الوقت.. يحملون ديناً جديداً سهلاً، سمحاً، وعلوماً اختمرت واتسعت، وحضارة تهذبت وجمعت بين سلامة ذوق العرب، ولطافة حس الفرس، وبساطة الترك، وكانوا يحملون للهند وأهلها غرائب كثيرة وطرفاً غالية.

وكان أهم ما كانوا يحملون هذا الدين الذي جاء بالتوحيد الخالص، الذي لا يرى الوساطة بين العبد وربه في العبادة والدعاء، ولا يعترف بالآلهة والمظاهر وحلول الله – جل وعلا – في بعض البشر وظهوره فيهم، ويؤمن بالإله الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، له الخلق والأمر، وله الكبرياء في السموات والأرض.

يقول الباحث الهندي المعروف K.M. Panikkar: (من الواضح أن تأثير الإسلام في الديانة الهندوكية كان عميقاً في هذا العهد (الإسلامي) إن فكرة عبادة الله في الهنادك، مدينة للإسلام، إن قادة الفكر والدين في هذا العصر وإن سمّوا آلهتهم بأسماء شتى قد دعوا إلى عبادة الله، وصرّحوا بأن الإله واحد، وهو الذي يستحق العبادة.

أما في الاجتماع فقد كان تأثير الإسلام كبيراً. يقول جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند: (إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شمال غرب الهند، ودخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند، إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي، إنه قد أظهر انقسام الطبقات، واللجنس المنبوذ، وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ويعيشون فيها أثرت في أذهان الهندوس تأثيراً عميقاً وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حرّم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية(2). فلا نظام طبقات، ولا منبوذ، ولا نجس بالولادة، ولا جاهل يحرم عليه التعلم، ولا تقسيم أيدي للحرف والصناعات، يعيشون معاً، ويأكلون معاً ويتعلمون سواءاً، ويختارون ما يشاؤون من الحرف والصناعات.

وكانت الهدية الثالثة احترام المرأة والاعتراف بحقوقها وكرامتها كعضو محترم من أعضاء الأسرة الإنسانية، وشقيقة الرجل.

لقد كانت النساء يحرقن أنفسهن بالنار على وفاة أزواجهن ولا يرى المجتمع لهن حقاً في الحياة بعد الأزواج.

كما نقل المسلمون إلى الهند علوماً جديدة منها:

·    علم التاريخ.. فقد كوّن المسلمون مكتبة هائلة من أوسع المكتبات التاريخية في العالم.. ومن ينظر في كتاب الثقافة الإسلامية في الهند للعلامة الشيخ عبد الحي الحسني.. يجد مصداقية ذلك.

قال غوستاف لوبون في حضارة الهند: (ليس للهند القديمة تاريخ، وليس في تاريخها وثائق عن ماضيها.

فالحق أن دور الهند التاريخي لم يبدأ إلا مع الفتح الإسلامي في القرن الحادي عشر بفضل مؤرخي المسلمين).

·    وقد اكتسبت الهند من المسلمين توسعاً في الخيال، وجدة في التفكير، ومعاني جديدة في الأدب والشعر. وكان مما منح المسلمون الهند هذه اللغة الجميلة التي أصبحت لغة التفاهم ولغة العلم، أعني (الأوردو).

·    وكان تأثير المسلمين في المدنية والصناعة وأساليب الحياة أبرز وأقوى منه في نواح أخرى.

ولقد ترك لنا مؤسس الدولة المغولية العظمى ظهير الدين محمد بابر (888 – 939) صورة واضحة عن مدنية الهند وثروتها الطبيعية والصناعية والمستوى الذي كانت عليه عند غزوه لها.

يقول نهرو: (ومن خلال التاريخ الذي ألّفه بابر ترى فقر الحضارة الذي كان مسيطراً على الهند الشمالية، ومرجع ذلك، التدهور الذي كان نتيجة هجوم تيمور، وبسبب أن كثيراً من العلماء والفنانين والصناع نزحوا من شمال الهند إلى جنوبها، ومن أسباب هذا الانحطاط أن منابع الإبداع والابتكار في أهل الهند قد نضبت. إن سقوك الحضارة الهندية في شمال البلاد واضح لا خفاء فيه إن العقائد المرسومة والمجتمع المتزمت قد منعا الإصلاح الاجتماعي والتقدم)(3).

كانت البلاد – رغم خصبها وغناها – قليلة الفواكه والثمار، حتى جاء المغول وهم أصحاب ذوق رفيع، فأدخلوا عليها ثماراً جديدة وفواكه كثيرة.

وقد أنشأ ملك كجرات السلطان محمود بن محمد الكجراتي المشهور باسم محمود بيكره (917م) مصانع كثير للنسج والوشي والتطريز والنحت، ومصنوعات العاج، والمنسوجات الحريرية، وصناعة الورق، كما أحدث السلطان محمود نشاطاً صناعياً وزراعياً وتجارياً منقطع النظير.

يقول مؤرخ الهند السيد عبد الحي الحسني في كتابه نزهة الخواطر: (ومن مكارمه قيامه بتعمير البلاد وتأسيس المساجد والمدارس والخوانق وتكثير الزراعة وغرس الأشجار المثمرة وإنشاء الحدائق والبساتين، وحفر الآبار وإجراء العيون، حتى صارت كجرات رياضاً نضرة، ومتجرة تجلب منها الثياب الرفيعة، وذلك كله لميل سلطانها محمود شاه إلى ما يصلح الملك والدولة ويترفه به رعاياه(4)

وكذلك فعل أكبر، فأنشأ مصانع كبيرة للنسيج، وقد كانت له إصلاحات دقيقة عظيمة التأثير في تعيين الضرائب على الأراضي والعقارات، وتنظيم المالية وإصلاح نظام النقود، لم يكن للحكومات الهندية السابقة عهد بها، قد كان لشير شاه السوري الملك المقنّن والإداري العبقري فضل التقدم والابتكار وتبعه أكبر.

وكذلك كان للحكومات الإسلامية فضل تربية الحيوانات وترقية نسلها، وتأسيس المستشفيات ودور العجزة والحدائق العامة والمنتزهات والترع الكبيرة، والشوارع الطويلة التي تجمع بين شرق الهند وغربها وتمتد على طول الهند وعرضها.. اشتهر منها الشارع الذي أنشأه شيرشاه السوري من سنار كاؤن من أقصى بلاد البنغال إلى ماء نيلاب من أرض السند (4832 كم) وأسس في كل ثلاثة كيلومترات رباطاً ومسجداً، وفي كل رباط فرسين للبريد، وغرس الأشجار المثمرة على جانبي الطريق ليستظل بها المسافر ويأكل منها.

كما أحدث المسلمون انقلاباً عظيماً في المجتمع وفي الحياة المنزلية وفي نظام تأسيس البيوت.

وكذلك أدخلوا فناً معمارياً جديداً يمتاز بالمتانة والدقة والجمال، ولا يزال تاج محل آية في الهندسة والبناء، وذكرى عهد المسلمين الزاهر، ودليلاً ناطقاً على ما بلغوا إليه من رقة الذوق ولطافة الحس والإبداع في الفن.

يقول نهرو في كتابه ( اكتشاف الهند ): إن دخول الإسلام والشعوب المختلفة في الهند التي حملت معها أفكاراً مختلفة للحياة قد أثرت في عقيدتها وأثرت في حياتها الاجتماعية(5). وقد اعترف أحد قادة حركة التحرير في الهند ورئيس المؤتمر الوطني سابقاً بذلك وقال إن المسلمين أغنوا ثقافتنا، إنهم قووا إدارتنا، وقربوا أجزاء البلاد بعضها إلى بعض. ويقول الدكتور هنتر الذي يعتبر من كبار الحاقدين على المسلمين. (إن المسلمين قد أنشأوا مستعمرات في جنوب الهند في الأراضي التي أحيوها وعمروها، وقد ظل المسلمون ينشرون دينهم نادراً بالسيف وغالباً بتأثير عاطفتين قويتين، فقد قدموا جميع الحقوق الإنسانية لطبقة البراهمة والمنبوذين سواء بسواء).

إن هؤلاء الدعاة أعلنوا في كل مكان:

·     أن كل واحد يجب أن يخضع لله الواحد.

·     وأن البشر كلهم سواء(6).

وقد أضاف مؤرخ الهند (جادو ناتهه سركار) في مقاله (الإسلام في الهند) عشراً من هبات الإسلام للشعب الهندي.

·        صلة الهند بالعالم الخارجي.

·        وجود الوحدة السياسية والوحدة في اللباس والحضارة.

·        وجود لغة رسمية إدارية.

·        تقدم لغات إقليمية في ظل الحكومة المركزية.

·        تجديد التجارة عن طريق البحار.

·        إنشاء بحرية للهند.

ندوة العلماء(7)

أسس ندوة العلماء عام 1894م (1312هـ) الشيخ محمد علي المونجيري، ونخبة من العلماء، ومن بينهم العلامة شبلي النعماني، وكان من كبار مساعديه الشيخ عبد الحي الحسني.

كانت الندوة التي أنشئت كحركة تعليمية وتربوية، تجربة فريدة في التعليم والدعوة، فقد انضم إلى هذه الحركة علماء باحثون كالعلامة شبلي النعماني (1332هـ) صاحب المؤلفات العلمية الكثيرة، ومؤسس المجمع العلمي المعروف بدار المصنفين في أعظم كراه. لقد كان الغرض من تأسيس هذه المدرسة، إيجاد قنطرة تصل بين الثقافتين: الإسلامية والغربية، والطبقتين: علماء الدين والمثقفين العصريين، وإحداث فكر جديد يجمع بين محاسن القديم والجديد.

لقد كان لهذه المدرسة الفضل في نشر الثقافة الإسلامية على يد علماء كبار أمثال شبلي النعماني وتلميذه النابغة سليمان الندوي، والأستاذ عبد الباري الندوي.

تولى رئاسة ندوة العلماء سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، فقام سماحته بدور قيادي في معظم الحركات الدينية والتربوية، بالإضافة إلى مجهوده العلمي الجبار.

وكان الشيخ الندوي يرأس بجانب رئاسة ندوة العلماء، مجلس الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند، وهيئة التعليم الديني، وعدة منظمات هندية وعالمية.

حركة تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني

وإلى هذا الجيل ينتمي العلماء الذين قادوا حركة تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني، كشيخ الهند محمود الحسن، وشيخ الإسلام حسين أحمد المدني، والشيخ عطاء الله البخاري، ومولانا أبو الكلام آزاد، والشيخ عبد الباري الفرنجي محلي، والشيخ داود الغزنوي.

وقد أدى هذا الجمع بين العلوم الظاهرة والباطنة، وبين الربانية والطريقة إلى خلود هذه السلسلة الذهبية، فوجد جيل بعد جيل من العلماء والمشايخ لإرشاد المسلمين وشرح التعاليم في مختلف العصور حسب مقتضيات الظروف وإحياء الدين الإسلامي كلما واجه التحديات.

جهود العلماء بعد الاستقلال

نالت الهند الاستقلال وانقسمت البلاد إلى بلدين في عام 1947م، فمرت البلاد بثورة عصيبة، وغليان للقومية والعداء الديني، فكان لمعاقل التربية الدينية المذكورة دور عظيم في بقاء المسلمين في الهند وتربيتهم تربية دينية، وكان في مقدمة هؤلاء الربانيين شيخ الإسلام حسين أحمد المدني شيخ الحديث في دار العلوم بديوبند، والشيخ عبد القادر الرائبوري، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي (1402هـ) الذي أثرى المكتبة الإسلامية بكتبه في الحديث الشريف والتربية الإسلامية ، وأنشأ جيلاً من العلماء والدعاة بتربيته.

وكان يلتقي في مجلسه الزعماء السياسيون، والحكام، والعلماء، والدعاة، والمربون، والباحثون، وكل منهم يستنير برعايته في مجاله.

وتحوّل عدد من العلماء إلى باكستان، وتولوا قيادة المسلمين في ذلك البلد، ولولا حركة هؤلاء العلماء الربانيين لضاع التراث الإسلامي، ولكانت الطاقة الإسلامية عرضة للتخريب والتشويه والضياع.

كان تأثير حركة الإمام أحمد بن عرفان الشهيد عاماً وشاملاً، ظهر في مكافحة الغزو الاستعماري، ومواجهة الفتن، ومعالجة التحديات الفكرية، وتربية الجيل الناشئ.

وبالإضافة إلى هذه الجهود توجهت عناية بعض العلماء إلى عرض الفكر الإسلامي، وحل القضايا المعاصرة بأسلوب عصري، وتأليف أحزاب وجماعات للعمل من أجل العودة إلى ذاتية الإسلام، وقد كان لمولانا أبي الكلام آزاد دور قيادي فيه، فقد أزكت صحفه التي كان يصدرها كالهلال والبلاغ، روح العمل والاجتهاد في المسلمين، ونفوراً من الاستعمار وثقافته.

وبذل الأستاذ أبو الأعلى المودودي في عرض الإسلام وحل مشكلات العصر، والتوعية الفكرية للمسلمين جهوداً مشكورة فقد كانت له مساهمة كبيرة في عرض الإسلام علمياً، وفي تأليف جماعة للعمل الإسلامي.

وقد أنشأت الجماعة الإسلامية مكتبة كاملة في الموضوعات الإسلامية، وكان لحركته تأثير عميق على الفكر الإسلامي المناهض للغزو الفكري الغربي، وانتقل مقر هذه الحركة إلى باكستان بعد الاستقلال، وواصل الشيخ المودودي حركته ونشاطه العلمي والفكري من باكستان، وانتشرت دعوته إلى العالم الخارجي عن طريق مؤلفاته، وتأثر بها المثقفون العصريون بصفة  خاصة.

المجمع الإسلامي العلمي

ويذكر في صدد جهود العلماء في عرض الفكر الإسلامي:

·        مجمع (دار المصنفين) الذي أنشأه العلامة شبلي النعماني، ثم وسع دائرة نشاطه العلمي العلامة السيد سليمان الندوي.

·        و(مجمع ندوة المصنفين) بدلهي للمفتي عتيق الرحمن العثماني.

·        و(المجمع الإسلامي العلمي) الذي أنشأه الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي بندوة العلماء.

فإن هذه المجامع أصدرت كتباً قيمة في مختلف الموضوعات الإسلامية بلغات مختلفة، وكان للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي منهج يختلف عن منهج العلماء الآخرين في عصره، فقد جمع في منهجه خصائص مدرسة الشيخ السرهندي، والشيخ ولي الله الدهلوي، والإمام أحمد بن عرفان الشهيد، وقد اتخذ طريقا جديداً للدعوة والإرشاد والتربية، وجذب قلوب غير المسلمين بحركته (حركة رسالة الإنسانية)، ورعايته لـ(حركة التعليم الديني)، ولقاءاته مع الحكام، وإرسال رسائل توجيهية إليهم، وكسب وُدّ أصحاب النفوذ والقوة، وإتاحتهم فرصة فهم الإسلام، بجانب إثراء المكتبة الإسلامية ببحوث وتحقيقات علمية، فامتاز بذلك بمنهج خاص للدعوة والتربية.

الندوة العلمية العالمية في الهند

وصلنا إلى نيودلهي العاصمة قبيل صلاة الفجر، وكان باستقبالنا عددٌ من الإخوة الأعزاء على رأسهم أمين عام الجماعة الإسلامية ممثلاً لسعادة أمير الجماعة.. انتقلنا إلى فندق قريب.. وبعد الصلاة وطعام الفطور انتقلنا إلى المطار مرة ثانية.. نتابع سفرنا إلى بناريس.. ومن بناريس ركبنا السيارات لنصل إلى أعظم كره.. ثم إلى موقع جامعة الفلاح.

كانت رحلة شاقة وطويلة.. ولم تحسن من أجوائها إلا الأحاديث الجميلة والصحبة الصالحة.

·    تم عقد الندوة العلمية العالمية حول موضوع (الدعوة الإسلامية والمدارس الدينية) في الفترة من 25-27 فبراير 2005م بجامعة الفلاح بلريا كنج، أعظم كره – الهند، وكانت فرصة طيبة اجتمع فيها رجال الفكر والدعوة من داخل البلاد ومن خارجها. وحضرها المسؤولون في كبرى المدارس الدينية في أرجاء الهند.

افتتحت الندوة في 25 فبراير بعد صلاة الجمعة وكان رئيس الجلسة الافتتاحية فضيلة الشيخ السيد جلال الدين العمري شيخ الجامعة ونائب أمير الجماعة الإسلامية . وقدم كلمة الترحيب الشيخ أبو البقاء الندوي مدير الجامعة. ثم قام الشيخ محمد طاهر المدني مدير التعليم والتربية بتقديم كلمة تمهيدية بيّن فيها أن الغرض من هذه الندوة إبراز أهمية الدعوة الإسلامية وأساليبها، ودراسة التحديات الموجودة في حقلها، وإقامة الصلات الوثيقة بين المدارس الإسلامية والمنظمات الإسلامية، ثم ألقى فضيلة الشيخ كاكا سعيد أحمد العمري الأمين العام لجامعة دار السلام (عمر آباد) كلمة الافتتاح ودعا إلى ضرورة العناية البالغة بنشر الدعوة وإعداد الشباب لهذه المهمة الكبيرة وفي الكلمة الرئيسة أوضح رئيس الجلسة مفهوم الدعوة وفضلها والصفات اللازمة للدعاة إلى الله.

·    وبعد صلاة العصر وضع حجر الأساس لمركز الدعوة بالجامعة فضيلة الشيخ نادر عبد العزيز النوري أمين السر لجمعية الشيخ عبد الله النوري الخيرية بالكويت، كما قام فضيلة الشيخ عبد الحميد جاسم البلالي بافتتاح المبنى الجديد لقسم تحفيظ القرآن الكريم.

·        وبعد صلاة المغرب بدأت جلسة العمل الأولى للندوة تحت رئاسة فضيلة الشيخ نادر النوري، قدمت فيها البحوث التالية:

1-        الدعوة الإسلامية مفهومها وأهميتها   الدكتور تابش مهدي من دلهي.

2-        تحديات الدعوة الإسلامية في الهند   الشيخ السيد سلمان الحسيني الندوي من ندوة العلماء لكناو.

3-        فنون كسب الآخرين                   الشيخ عبد الحميد البلالي رئيس لجنة بشائر الخير بالكويت.

4-       مستقبل الدعوة الإسلامية والتحديات التي تواجهها  

المهندس مصطفى محمد الطحان الأمين العام لاتحاد المنظمات الطلابية (SOU).

·    وفي يوم السبت (26 فبراير) بدأت جلسة العمل الثانية تحت رئاسة الشيخ السيد محمد الرابع الندوي مدير ندوة العلماء لكناو ورئيس هيئة الأحوال الشخصية لعموم الهند. وألقى فيها كلمة خصوصية الشيخ سعيد الرحمان الأعظمي الندوي مدير مجلة البعث الإسلامي.

كما قدم فضيلة الشيخ محمد الرابع الندوي كلمة الرئاسة وبيّن أهمية دور المدارس في الدعوة إلى الله. ودعا إلى ضرورة جمع الكلمة وتنسيق الجهود الدعوية والاستفادة من خبرات العاملين في هذا الميدان.

·    وفي يوم الأحد ثالث أيام الندوة (27 فبراير) بدأت الجلسة تحت رئاسة فضيلة الشيخ كاكا سعيد أحمد العمري وكان الموضوع: (دور المدارس الدينية في الدعوة إلى الله).

ودعا رئيس الجلسة إلى ضرورة الشعور بالمسؤولية تجاه الدعوة إلى الله والسير على طريق الأنبياء، ومطالعة السيرة النبوية لاتخاذ السبل المناسبة لنشرها.

·        وكانت الجلسة الختامية للندوة تحت رئاسة فضيلة الدكتور محمد عبد الحق الأنصاري - أمير الجماعة الإسلامية بالهند.

في مدينة لكناو

وعلى الرغم من اهمية البرنامج الذي أعد في جامعة الفلاح، واهمية الشخصيات التي تحدثت، وتمكنهم العلمي والدعوي.. إلا أننا كنا نهفوا إلى مدينة لكناو.. مدينة أبي الحسن الندوي.. ورفاق دربه العلماء الكبار.

ركبنا السيارة في طريقنا إلى لكناو.. وفي الطريق عرجنا على إحدى المدارس التابعة لندوة العلماء.. ووصلنا أخيراً مع مغيب الشمس.

استرحنا ليلتنا في فندق.. وابتداءً من صباح اليوم التالي.. ولمدة ثلاثة أيام كان عندنا برنامج حافل لا يهدأ.. زيارات لمدارس وجامعات.. جمعية الشباب الإسلامي.. جامعة أحمد عرفان الشهيد.. جامعة الندوة.. أحاديث .. ومحاضرات.. وزيارة مشاريع.. واستعراض رائع لكشافة الندوة..

أرض منبسطة خضراء، في وسطها بناء جميل، كأنه قصر من قصور الأندلس، ووراءه مبان متفرقة، في أرض واسعة، في بقعة هادئة، فيها الأشجار المزهرة والمثمرة، والسواقي الجارية، إنها مدرسة ندوة العلماء..

هذه غرفة أبي الحسن.. وهذا الفراش المتواضع فراشه.. وهؤلاء الأعلام هم إخوانه وزملاؤه.. كلهم يتحدث العربية ببيان رائع.. إنها قطعة حالمة، بمنظرها وبساتينها، وهدوئها وسكونها، ومكتبتها، ورجالها.. من يريد أن يعيش مع التاريخ فهذا هو المكان المناسب. لقد استفدت كثيراً في هذه الرحلة.. وماذا ينتظر الداعية الكاتب غير:

·        متعة علمية ينهلها من علماء..

·        وصرح ضارب في أعماق التاريخ..

وودعنا لكناو.. مثل يوم لقيناها.. وباركنا لأخينا السيد سلمان الحسيني الندوي بولادة سبطة الأول.. ويوم ارتحلنا بالقطار إلى عليكرة كان لسان حالنا يقول: ودعته وبودي لو يودعني.. صفو الحياة وإني لا أودعه..

البرنامج في عليكرة

وفي هذه المدينة العريقة.. التي نسبة المسلمين فيها في حدود 30%.. زرت مركز اتحاد الطلبة المسلمين (SIO) وتحدثت عن الحركة الطلابية في العالم.. وكيف تخطت الحواجز.. ووصلت الآفاق.. وفي وقت آخر تحدثت في جامعة عليكرة التي أسسها السيد أحمد خان على الطريقة العصرية.. وكانت هذه الجامعة العملاقة محل تجاذب بين المسلمين.. فهي ومدرسة ديوبند تمثل الأولى التعليم العصري على طريقة الإنكليز.. بينما ديوبند تمثل التعليم التقليدي.. وأخذت ندوة العلماء الطريق الوسط بينهما. كانت المحاضرة رائعة أحدثت صدى كبيراً بين الأساتذة والطلاب وكانت حوارات مفيدة بين المحاضر والحضور.

البرنامج في نيودلهي

أما نيودلهي.. فهي مدينة عملاقة.. سمتها إسلامي.. وعمقها وحضارتها كذلك.. وصلناها في القطار مع الساعات الأولى للنهار.. نزلنا في فندق مريح.. والتقينا بقيادات الجماعة الإسلامية.. ولقد استمتعت كثيراً باللقاء مع فضيلة الأمير د. الأنصاري.

 أهم الأنشطة التي قمت بها:

1-    لقاء مع شباب (SIO) الحركة الطلابية في عموم الهند، ومع الأخ أمان الله خان، ممثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي.

2-    لقاء مع أمير وقادة الجماعة الإسلامية في الهند، نافشنا فيه أهم القضايا المشتركة.

3-    محاضرة في مركز اتحاد الطلبة (SIO) عن الحركة الطلابية الإسلامية ودورها في إعادة بناء الأمة.

4-    محاضرة في مركز الجماعة الإسلامية عن الأوضاع الإسلامية والهجمة الشرسة للغرب ضد الإسلام. لاقت تجاوباً كبيراً.

5-    افتتاح عدد من المشاريع الإسلامية التي تساهم فيها جمعية عبد الله النوري الخيرية.

وأخيراً.. حان الوداع.. وكما جئنا على جناح الشوق.. عدنا على جناح الشوق.. وصدق رسولنا العظيم إذ يقول: (أحبب من شئت فإنك مفارقه).

الهند 5/3/2005م

          

الهوامش:

(1) المسلمون في الهند – أبو الحسن علي الحسني الندوي، ص- 20.

(2) اكتشاف الهند – نهرو، ص- 335.

(3) اكتشاف الهند- نهرو 1: 510.

(4) نزهة الخواطر- عبد الحي الحسني 4: 345.

(5) اكتشاف الهند- نهرو 1: 511. 

(6) مسلمو الهند – هنتر.

(7) الدعوة الإسلامية مناهجها في الهند- محمد واضح رشيد الحسني الندوي، ص- 93.