رحلتي الى بلاد الرافدين..

ميهاي فضل الله الحداد

"رحلتي الى بلاد الرافدين..."

ميهاي فضل الله الحداد

الرحّالة المجري المستعرب الذي شهد ووثّق

ثمة أوطان تقاسمنا العيش على هذا الكوكب، إلاّ أنها مكتفية بنفسها وتكاد تكون غير معنية بما يحصل في بلاد العالم خارج حدودها، لولا أن بلاداً دون سواها تميّز أبناؤها بأنهم رحّالة، جوّابو آفاق، كأن همّهم تقريب الناس بعضهم الى بعض وكشف مغاليق عوالم ما كانت لتتفتح على الملأ لولا حبّهم للمغامرة والعيش بين شعوب غريبة. اللبنانيون ورثوا عن جدّتهم أليسار حبّ الترحال وهواية اقلّ أهمية لتزجية الوقت بين رحلة وأخرى: حياكة الممالك!

تعتبر هنغاريا (المجر) مثالاً للنمط الأول من الأوطان "المغلقة" ويعتبر ميهاي (ميخائيل) فضل الله الحداد، جنرال الجيش الامبراطوري الملكي النمسوي المجري واللبناني المولود في بيت شباب، مثالاً للمواطن العالمي (اللبناني)، وهو، وإن بلغ مرتبة جنرال في جيش الامبراطور النمسوي المجري إلا أنه لم يشترك في صدّ جيوش نابوليون أثناء معركة جور عام 1809، ولا شارك المجريين في ثورتهم التحررية من النير النمسوي عام 1848، إلا أن الثابت في سيرة حياة ميخائيل فضل الله الحداد، أنه ضرب على يد الامبراطور فرانس يوزف عام 1857 لأن الاخير حاول أن يلمس سيف ميخائيل الذي أهداه إيّاه بعض ضباط الجيش الامبراطوري: "رأى الامبراطور الفتى العربي فضل الله واقفاً الى جانب فرسة عربية، فتعجب له واقترب منه ليسأله من هو ومن أين أتى، ولمس السيف، فما كان من فضل الله أن ضربه على كفّه محتجاً: كيف يجرؤ ويلمس سيفه وهو شرفه، فشحبت وجوه حاشية امبراطور اقوى دولة في وسط أوروبا، إلا أن الامبراطور ابتسم وأعجب بالفتى اللبناني وأمر بتعليمه". ومن الثابت أيضاً في سيرة كاتبنا أنه اكتسب شهرته، وبالتالي رتبته العسكرية في الجيش الامبراطوري النمسوي المجري من معرفته العميقة والأصيلة بالخيول المجرية وأنسابها وطرق تربيتها وكان وراء أكبر مشروع أوروبي، في مدينة بابولنا المجرية لتربية الخيول العربية وتعلّم اللغة المجرية مما اتاح له في ما بعد وضع كتاب (موضوع حديثنا) عن رحلاته الى الشرق بحثاً عن الخيول العربية الأصيلة تحت عنوان "رحلتي الى بلاد الرافدين وعراق العرب". بلغة مجرية يصفها المترجم بأنها "جميلة وبسيطة تنم عن معرفة تامة بهذه اللغة الصعبة التي تعلمها في صباه. فهو يكتب كأي مجري متعلم في تلك الفترة من أوائل القرن العشرين.

تبدأ رحلة ميخائيل فضل الله الحداد الى بلاد الشرق عام 1901 والقصد منها شراء أكبر عدد من الخيول العربية الأصيلة، لكن سرعان ما تتخذ البعثة مساراً أوسع من البحث عن الخيول الأصيلة والكتاب الذي وضعه فضل الله عن رحلته تجاوز مهمة البعثة التجارية الى استكشاف عادات وطرائق عيش الشعوب القاطنة هناك مطلع القرن الماضي وكيف آلت حال البلاد التي احتضنت أهم حضارات الارض وأعرقها بدءاً من لبنان مروراً بسوريا وانتهاء بالعراق.

بعد ابحار اثني عشر يوماً تصل سفينة الجنرال النمسوي المجري فضل الله الى عاصمة آبائه وأجداده بيروت التي يسهب في وصفها متناولاً حال السكان الذين تغيّروا بعد حوادث عام 1860 لانتقال المسيحيين من مناطق الجبل أليها وساهموا في ازدهارها، ويتذكر الجنرال النمسوي طفولته في بيروت حيث كانت معظم اراضيها الساحلية مقفرة جرداء لمسافة كيلومترين وهي اليوم مزروعة في عناية ويغطي شجر التوت كل شبر منها. والحوادث الآنفة لم تغير من طابع بيروت الجغرافي فحسب بل "كان الاحتلال الفرنسي الذي جاء لحماية المسيحيين المضطهدين فاتحة لتحولات ثقافية جديرة بالاهتمام. عندما ذهبت الى المدرسة في بيروت وأنا طفل صغير كانت  لغة التعليم الايطالية. لكن منذ العام 1860 حين اكتسبت بيروت ولبنان كله بعض حقوق الادارة الذاتية، صار البلد تحت التأثير الفرنسي وتغيرت لغة المدارس".

يتضح في سياق استعراض المدن، جغرافيا وتاريخاً، أن فضل الله ملمّ بمادة الكتاب وكأفضل وأعمق ما يكون عليه كاتب أدب الرحلات، فهو لا يترك قرية أو نهراً أو هضبة إلا ينسبها الى أصولها التاريخية كما يفعل تماماً مع الخيول الكثيرة التي عُرضت عليه أثناء الرحلة، ورغم استحسانه أصولها وأنسابها إلا أنه لا يعدم وجود خطأ في تركيبتها الجسمانية مثل التقدّم في السن او صغر الحجم وعليه يمتنع عن الشراء حتى ظن أصحاب الخيول المحبطون ان مهمة فضل الله ليست في وارد شراء الخيول وليست هذه سوى عملية تمويه لمهمة سرّية أكثر خطورة، أي في معنى آخر التجسس لمصلحة بلاده الامبراطورية النمسوية المجرية،  بيد أن مثابرة فضل الله وعزمه الشديد على نيل مراده من خيول العرب ومعرفته الأصيلة بتجاراته جعل الألسن السيئة تكفّ عن سمعته، خاصة عندما عثر على ضالته في خيول العراق لدى قبيلة شُمَّّر في البادية المحاددة لشبه الجزيرة العربية، بعد عناء انتظار وصبر وتحمل لمشاق السفر وعناء الطريق.

كتاب ميهاي فضل الله الحداد دليل في السفر للرحالة المغامرين على ظهور الجمال والبغال، فقائد الرحلة خبير بكل تفاصيل الطريق وما يحتاج اليه من العدد والطعام والأدوية والسلاح ورفيق الطريق والترجمان، بل وضع في الحسبان الرشاوى التي سيدفعها والاكراميات لرجال المحميات التركية التي سيجدونها حتماً في طريقهم.

لكن للقارىء الشغوف بالرحلات والتعرف الى عادات الشعوب وصفاتها يجد في كتاب ميهاي وصفاً دقيقاً حيادياً عميقاً للسكان الذين تمرّ بهم قافلته، ولم يوفّر ميهاي رجال القافلة انفسهم من الوصف الدقيق المحبب فجلّهم من الدروز والموارنة الذين لم تمض على الحرب التي نشبت بينهم سوى بضع عشرات من السنين كيف اندمجوا متناسين الماضي ومآسيه وأخطاءه: "عندما جلت ببصري بينهم لم أفهم كيف يستطيع هؤلاء الناس الذين لا يختلفون بعضهم عن بعض في شيء أن يدخلوا في قتال مرير مع بعضهم البعض، قتال اجتاحت تفاصيله الدامية والقاسية كل أوروبا بجلبته وفظائعه".

من غرائب رحلة ميهاي مما ورد في كتابه الممتح الشائق أخبار قد يجد البعض صعوبة في تصديقها، عندما ألتقى رحّالتنا شيخاً بدوياًً يتحدث بلغة فرنسية سليمة وأنيقة تنم عن ترف صالونات باريس وكان وراء الشيخ حادثة رومانسية لا نقع على مثلها إلا في الخيال، فهذا البدوي نصب فخاً لسيدة فرنسية كانت في زيارة لآثار تدمر، ودبّر مكيدة توهم السيدة أن الشيخ الشهم يتدخل في اللحظة المناسبة وينقذها من براثن اللصوص، وهم عصبة  بدوية أتفق معهم الشيخ على تنفيذ هذه المسرحية التي انطلت على السيدة الفرنسية وسرعان ما وقعت في غرامه واصطحبته معها الى باريس لكنه عاد منها بعد سنة واحدة مصحوباً بذكرى عطرة عن سيدة باريس ولغة فرنسية أنيقة. وثمة الكثير من غرائب الرحلة التي يرويها الكاتب في أسلوب شائق وشاعري لا يترك للقارىء فرصة التفكير في التخلي عن الكتاب قبل اتمام قراءته حول مشاركته في عمادة طفل في كنيسة انطلياس، واسطورة الحصان العربي، والقطار الذي اقلهم من بيروت بعجلات مسننة، الخ: حوادث وغرائب ملتقطة بعين ذكية ومدوّنة بقلم أخاذ ومترجمة الى العربية من ثائر صالح في بلاغة عربية لا أظنها قصّرت عن الأصل.

ما نعرفه عن المجر قليل. ولعل اسم الشاعر يوجيف أتيلا هو الوحيد الذي تعرفه قلّة من القراء في المجرية (لغة الثمانية ملايين فقط) كما شكسبير في الانكليزية، وهذا على حد علمي، لكتاب الثاني المنقول من المجرية الى العربية مباشرة وكاتبه ميخائيل فضل الله الحداد وسّع الفرجال الفينيقي ليشمل وسط أوروبا هذه المرة ويترك لنا كتاباً مدعماً بالصور عن عالمية هذا المواطن الذي خدم الجيش الامبراطوري النمسوي المجري قرابة 56 عاماً، المولود في  بيت شباب عام 1841، والمتوفى في بابولنا في المجر عام 1924 عن ثلاثة وثمانين عاماً ولا يزال قبره هناك.