سمعت ورأيت

(1)

في طواف العمرة

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

رحلتنا  إلى العمرة – إياي ورفيقة العمرأم حسان - في منتصف الشهر الماضي  حزيران عام ألفين وتسعة كانت  سهلة بفضل من الله تعالى إذ يسر لنا تأشيرتها بسهولة ويسر ، فانطلقت الحملة بنا يوم السابع عشر من الشهر نفسه إلى المدينة المنورة – مثوى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ومبعث نور الهداية إلى أرجاء المعمورة .

وصلنا المدينة بعد سبع وعشرين ساعة ، وقد استغرقت العودة من المدينة إلى عمّان الأردن– دون الحملة-   ست عشرة ساعة فقط . ولك أخي القارئ أن ترى الفرق الشاسع بين زمني الذهاب والإياب لتدرك بعض معاناة المعتمرين والحجاج حين يقصّر المسؤولون – أيّاً كان موقعهم - في واجباتهم ويتعدّون حقوقَ الآخرين .

لن أستطرد في هذا الحديث ولن أخرج عن الموضوع نفسه ، إلا أنني أحببت أن أنبه بعجالة إلى ما يُحزن المعتمر حين يقلق أمثالُ هؤلاء الساعين إلى الربح  ليس غير راحتـَه ، ويغتنمون صبره في رضى ربه .

انطلقنا من المدينة المشرفة إلى مكة المكرمة بعد أن مكثنا فيها ثلاثة أيام زرنا فيها الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه وصلينا في مسجده الطاهر الذي تفضل الصلوات فيه ألف صلاة فيما سواه عدا المسجد الحرام الذي تفضل الصلاة ُ فيه الصلاة َفي مسجد المدينة مئة مرة وأحرمنا في أبيار علي – وهو مسجد جنوب المدينة يبعد عنها كيلو مترات عديدة –

كانت الرحلة مريحة ، وكان جلوسنا خلف السائق الماهر مباشرة ، نرى الطريق يُطوى أمامنا بسرعة  فوصلنا بعد أربع ساعات ونيّف إلى بيت الله الحرام ، وبدأنا قبيل صلاة العشاء طواف العمرة أمام الحجر الأسود الذي قبـّله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال فيه الخليفة الثاني رضي الله عنه حين قبّله " والله إنك لحجر لا يضر ولا ينفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " وهذه قمة الطاعة المبصرة التي ينبغي للمسلم أن يحققها في حياته الدعوية وسلوكه الإسلامي الواعي .

الزحام على أشدّه في هذه الساعة ، فالشمس غائبة ، والحرارة لا تتجاوز الثامنة والثلاثين . آلاف الطائفين تملأ ساحة الحرم ، يطوفون عكس عقارب الساعة بنظام جيد ، يخيل للناظر من علُ أنهم قطعة واحدة تتحرك برتابة وتنسيق ، فيطوف قلبه معهم وهو ينظر إليهم ويتابع تحركهم الحبيب ويسمع هدير التلبية والدعاء كأنه صدى إعصار بعيد يتجاوب في واد فسيح .

لم نستطع - ولم نُحاول - الاقتراب من الحجر متجنبَين الزحام الخانق أمامه راضيَين بالإشارة إليه كلما أكملنا شوطاً . وكانت الدائرة تتباطأ كلما وصلنا الخط الموازي للحجر الكريم ، إن أغلب الطائفين يحرصون على التأكد من وصولهم أمام الخط الممتد أمام الحجر ثم الإشارة بالبسملة والتسبيح وذكر الله تعالى قبل التحرك ثانية في دائرة جديدة حول الكعبة المشرّفة . مع أن الأمر لا يحتاج شيئاً من هذا الحرص الذي ينتج عنه انحباس مروري مؤقت ومجهد بآن واحد .

 كانت الألسنة تلهج بذكر الله بكل اللغات واللهجات ، فهذه جماعة من الفرس يتقدمها شاب جهْوَري الصوت يدعو بالعربية مشوبة بلكنة أعجمية ، ويردد بعده الرجال والنساء دون أن يفقهوا مما يقول شيئاً إلا أنهم يجتهدون في الدعاء ، ويقلدونه في لهجته وإيقاعه . وهذا من مصر المحروسه يجعل الذال زاياً ممسكاً بكتيّب صغير يقرأ فيه جملة وراء جملة وحوله بعض النسوة يرددن ما يقول بصوت عال ولكنة صعيدية محببة .

رأيت نفسي أمشي وراء شاب يحمل طفله الصغير على كتفيه وإلى جانبه زوجته ممسكاً بيدها متجنّباً  – مثلي – الزحام ، وطفله يخصني ببسمته الطفولية البريئة ، فأبادله البسمة بمثلها ، فيلوّح بيده محيياً ويكلمني بما لا أسمعه ، فأرسلُ له قبلة صغيرة ، فيرد القبلة بأفضل منها ، ويبتعد أبواه إثر موجة صغيرة دفعته إلى اليمين ، فيلتفت الصغير إليّ ملوّحاً ومودّعاً .

أصل إلى مقام سيدنا إبراهيم ، فأجد بعضهم يتمسحون بزجاجه ، فأوقن أن كثرة تمسّح هؤلاء جعل الزجاج لمّاعاً نظيفاً ، وأرى شاباً يردّهم عنه ، مكرراً أن هذا التمسح لا ينفع صاحبه ، ولعله من الشرك الخفيّ ، وأقترب من المقام فألمح أثر قدمين مرسوماً على صخرة تمثّل وقوف سينا إبراهيم عليهما يوماً ، فأتساءل : كيف غاصت الرِّجلان في صخرة مرمرية قاسية ، ثم أجيب نفسي : ما هذا إلا رمز ليس أكثر - ولعل القارئ العارف يوضح ما استغلق عليّ فهمُه – ثم أصرف ذهني عن التفكر بهذا ، فالتصديق به وعدمه ليس من العقيدة بشيء . والمهم أن أوقن أن إبراهيم عليه السلام أعاد بناء البيت مع ابنه إسماعيل ، وهنا مقامه .

ويصرّ بعضهم أن يصلي ركعتي الطواف خلف المقام – اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن الطائفين كثُرٌ ، ويمتدّون خلف المقام بأمتار كثيرة ، ومع هذا يأمر بعض أصحابه أن يتحلّقوا حوله يصدّون موجات الطائفين ليؤدي أحدهم ركعتين في هذا المكان المزدحم ، ويقطع على الناس حركة الطواف الانسيابية . ولله في خلقه شؤون .

وكان من المنطقي لمن أنهى الأشواط السبعة أن يستمر في الطواف مبتعداً عن الزحام إلى اليمين أمتاراً قليلة ، فيتخلص من كتلة الطائفين المنسابة بسهولة ويسر ، إلا أن العديد منهم يدافع ويناحر ليعود بعكس التيار ، أو لينطلق بشكل معترض إلى باب الكعبة يدعو الله تعالى بما شاء يسأله الغفران والرحمة ، وكان أولى به – إن أراد الوصول إلى الملتزم – أن يميل إلى الكعبة رويداً رويداً فيجنب نفسه والآخرين عناء التدافع .

لم نستطع أن نصلي في حجر إسماعيل - هذه العمرة على مدى اثني عشر يوماً – ، ومن صلى في حجر إسماعيل فكأنه صلى داخل الكعبة ، فالحِجْر من أصل البيت وقد كاونوا في أكثر الأوقات كذلك يمنعون، ولم ندر سبب المنع ، إلا أننا أرضينا نفسَيْنا حين استذكرنا أننا صلينا فيه في المرات السابقة كثيراً .

أرى نفسي أحياناً أدعو بما لم يكن يخطر ببالي من الأدعية التي يقذفها الله تعالى في نفسي وقلبي ، فأرتاح لها كثيراً ، ولو حاولت أن أستعيدها ما تذكرتها ، فقد كان الذهن أو القلب يتلقفها ويلهج اللسان بها وينشرح الصدر لها ، فأعلم أن الله تعالى رحيم بعبده لطيف به ، وأعلم أنه سبحانه غفار الذنوب ستار العيوب ، يلقي في قلب عبده من المعاني العظيمة في مثل هذه المواقف ما يُشعره أنه قبل توبته ، ومحا ذنوبه ...

 اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين وجار المستجيرين ، وأمان الخائفين ، وكهف التائبين ، يسّرت لنا أسباب العمرة فدعوتنا إليك ، فأسرعنا راغبين ، فاجعلنا في عبادك الصالحين ، وهيء لنا من أمرنا رشداً ، واجعلنا من عبادك السُّعدا .. اللهم آمين ، يا رب العالمين