طبائع البشر بين الماضي والحاضر

طبائع البشر بين الماضي والحاضر

وريقات مبعثرة مكتوبة بقلم الرصاص تحولت إلى كتاب نفيس طبائع البشر بين الماضي والحاضر في رحلة سعد بن أحمد الربيعة هذا الكتاب هو رحلة قام بها أحد رجال نجد الذين هاجروا إلى العراق في بداية القرن العشرين، ومؤلف الكتاب هو سعد بن أحمد الربيعة، وتمت هذه الرحلة عام 1345هـ ـ 1927م.

والكتاب في أصله أوراق مبعثرة كُتبت بقلم رصاص على شكل يوميات، تبدأ منذ يوم مغادرة مدينة الزبير إلى العودة إليها، واستغرقت الرحلة ما يقارب أربعة أشهر.

ويعود الفضل في خروج هذه الوريقات إلى النور، إلى ابن المؤلف وحفيده، فقد بذلا جهداً جباراً في لملمة تلك الوريقات ومحاولة قراءتها قراءة صحيحة، لأن عوادي الزمن جارت عليها، فانمحت بعض الكلمات. وقبل أن نتناول الكتاب، لا بد أن نلقي نظرة سريعة على تلك المدينة التي بدأت فيها رحلة الحاج سعد ورفاقه، وهي مدينة الزبير، التي تقع جنوب البصرة، وتتميز بجو يشبه إلى حد كبير جو نجد، ومن هنا فقد سكنها المهاجرون من نجد ونقلوا إليها عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، ولا أبالغ إذا قلت إن بعض العادات كانت سائدة في الزبير في الوقت الذي اختفت عن منطقة نجد مثل الاحتفال بالعيد وكنس الشوارع من قِبل سكان المنطقة وإخراج طعام العيد بعد الصلاة إلى الشارع ليشترك الجميع في الأكل وتبادل التحيات، وقد أعادوا هذه العادة إلى السعودية في هجرة العودة.

لقد نجح أهالي الزبير من النجديين في المحافظة على أصولهم وقبائلهم واشتهروا بتضامنهم وعاشوا شبه عزلة عن سكان العراق، فلم يختلطوا بهم بالمصاهرة إلا ما ندر، وقد عاد معظم أهالي الزبير إلى بلدهم في الستينات وما بعدها من القرن الميلادي الماضي.

يتميز الكتاب الذي أصدرته دارة الملك عبد العزيز بعنوان «رحلة الحاج من بلد الزبير بن العوام إلى البلد الحرام»، بالسلاسة والعفوية والدقة في الوصف، ويستوي في ذلك وصف الأماكن التي يمر بها الحاج أو وصف المشاعر التي تختلج في النفوس في ساعات اللقاء أو الوداع، الرضا أو الغضب، الصحة والمرض، ووصف الأشخاص وما يتميزون به من كرم أو بخل، طيبة أو خبث، ضعف أو قوة.

كما أن المؤلف يجيد وصف المشاهد العاطفية، مثل مشاهد الوداع أو العودة إلى الأهل، يرسم ذلك بريشة فنان وبأسلوب أديب متمرس، ويزيّن كتابه بالشعر الذي حفظه، والذي يناسب المقام، وأحياناً الشعر الذي ألفه مع اعترافه بأنه قصير النفَس، فلا يقول إلا البيت والبيتين.

وأجاد المؤلف وصف طول الليل على المسافر الذي تتقاذفه الرياح في مجاهل الصحراء المظلمة، وسجل بعض الحوادث التي تعرضت لها القافلة، مثل سقوط الخيام على من فيها، وضياع بعض الدراويش المصاحبين للحملة، وللكاتب قدرة عجيبة على التغلغل في أحاسيس الآخرين ورصدها واستنباط مشاعر رفاقه وقراءة الوجوه الصامتة الخائفة من الرياح العاتية والأرض الوعرة، وله قدرة عجيبة على تحديد المساحات والأعداد.

فحين يصف إحدى المناطق، يخيل إليك أنك أمام جغرافي دقيق المعلومات، ويتمثل ذلك في وصف الصحراء بتلالها وآبارها ومسافاتها ووصف المدن بمساكنها ومساجدها وما يزوره من دورها ودرجات الحرارة فيها تسجل كل يوم... إلخ.

ويظهر من خلال الكتاب أن البدو في صحرائهم كانوا ينتظرون قدوم الحجاج لتتم المقايضة بين الطرفين، فالبدو يقدمون اللبن والاقط والحجاج يقدمون لهم البُر، ويتم طلب ذلك تلميحاً أو تصريحاً، وأحياناً يترك التصريح للمرأة التي قد تكون أكثر جرأة على مدّ يد الحاجة من الرجل. وأظهر الكاتب إعجاباً واضحاً بما رآه منزل أمير منطقة بريدة (مبارك بن مبيريك)، ووصف الدار وصفاً دقيقاً، وقدم لنا من خلال هذا الوصف آداب الضيافة في ذلك الوقت، فهي تبدأ بإرسال الغضا إلى منزل الضيوف، ثم يأتي الضيوف للعشاء بعد صلاة العصر، ويقدم الطعام المكون من الرز والجريش والبُر، ويتولى الخدمة عدد من خدم الأمير، ويتوزعون بين تقديم الطعام والوقوف على رؤوس الضيوف وبيدهم المراوح وأكواب الماء، ويقف بعضهم لترديد عبارات الترحيب والاعتذار عن التقصير.

ويذكر لأول مرة أنهم غسلوا أيديهم بعد العشاء بالماء والصابون، وتشم من هذا الوصف رائحة الابتهاج بهذا الترف الذي بدّد قتامة حياة الصحراء وجفافها وخشونتها.

ويسجل الكاتب بعض المفارقات التي حدثت أثناء الرحلة، منها أنه أراد أن يبتاع شاة بالاشتراك مع رفاق الرحلة، إلا أنهم رفضوا ذلك، لكنه كان مصراً فاضطر إلى دفع ثمنها لوحده، وحملوا الشاة على الراحلة انتظاراً لذبحها عندما تخيم القافلة في أحد الأماكن. وفي أثناء الرحلة، كانت تشابه الهواجس التي سجلها في مذكراته، فقد كان في حيرة من أمره: هل يُطعم القوم من الشاة التي رفضوا شراءها، وهنا سيتهمونه بالتبذير وقلة التدبير، أم يحرمهم منها، وحينئذ سوف يحاسبه ضميره على هذه الأنانية؟!، ولم ينقذه من الصراع النفسي إلا علمه أن الشاة ماتت وألقي بها في الصحراء.

ويشير الكتاب إلى الأمراض التي تنتاب الحجاج، مثل الحمّى والإسهال وغيرهما، ويبدو أنهم كانوا يعالجون أمراضهم بالمسهل لاعتقادهم أن المعدة هي بيت الداء، ولك أن تتصور عزيزي القارئ حالهم مع الإسهال في صحراء شحيحة المياه.

ومن المشاهد التي سجلها المؤلف، وصف المسعى وما يحيطه من دكاكين وباعة خضار وما يغطي أرضه من قاذورات وهو يشكو مُرّ الشكوى من قذارة الناس وعدم إحساسهم بالمسؤولية، فهذا يبصق تحت أرجل الساعين، وذاك يرمي بفاسد الخضار، ويرى أن هذه الحالة لا تتناسب مع شرف هذا المكان، ويناشد القائمين عليه بالاهتمام بذلك، وليته عاش إلى أن وجد المسعى يسر الناظرين من نظافة تامة وإضاءة مشرقة وأرض مرصوفة بالرخام ومياه متوفرة للساعين. وسجل الكاتب غياب الخشوع عن الحجاج وأنانيتهم وكأنهم في سباق مع الزمن يعبّر عن ذلك بالقول: (وقد رأيت العجب العُجاب من تعدد أجناس البشر وتنوع صورهم ولباسهم على أني رأيت أيضاً ما يقطع القلوب أسى وحسرة، فإن هذه الخلائق التي لا تُعد على تباين صورهم وأجناسهم، لا ترى منهم واحداً عليه سيماء الخشوع والرهبة، بل كلهم كأنهم في أشغال خصوصية، فترى القوي يدفع الضعفاء والشيوخ والعجزة ولا يبالي بمصيرهم.. حالة يبكي عليها الإسلام ويسأل المصلحون إصلاحها.

ما أشبه اليوم بالأمس، ان هذه الصورة التي وصفها الكاتب ما زالت قائمة، بل تضاعفت وتعددت صورها، فإن كان ولاة الأمر قد نجحوا في تغيير صورة المسجد الحرام العمرانية، ووفروا فيه كل وسائل الراحة، فإنهم عاجزون عن تغيير طبائع البشر، فما زال الناس على عهد المؤلف من الأنانية ومسابقة الزمن للفراغ من واجبات الحج من دون اهتمام بالآخرين، ومن دون استحضار وخشوع لتلك الساعات المهيبة، ومن دون التفات إلى ما حفل به القرآن الكريم والحديث الشريف من بُعد عن الأنانية وحب الذات ودعوة إلى التكاتف بين المسلمين وصيانة بيت الله الحرام من كل ما يُؤذي.

ويتميز الكتاب بدقة وصفه للحياة اليومية وتسجيل المصروفات والأسعار، فالشاة بأربعة ريالات، ورزمة ظروف المكاتيب بقطعة، والريال يساوي أربع عشرة قطعة.

ويسجل الكاتب الاهتمام الشديد بالإبل والمحافظة عليها من وعثاء الطريق، بطلي أخفّها ببعض الأدوية الشعبية وعدم إجهادها في السير.

ويسجل إعجابه بنخيل بريدة، ويرى أنها تزري بنخيل أبي الخصيب، وأبو الخصيب ناحية

من نواحي مدينة البصرة، اشتهرت بوفرة نخيلها، ويقال إن صدام حسين قد اقتلع منها مليون نخلة أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وما زال الناس في البصرة يتحسرون على ذلك النخيل كما يتحسرون على أشياء أخرى كثيرة فقدوها بسبب رعونة النظام.

ومما يسجله الكتاب، الخلافات التي تحدث بين أفراد الحملة بسبب اختلاف وجهات النظر، وغالباً ما يكون سبب الخلاف هو: أيّ الطرق أسهل لأن تُتبع؟، ولكل وجهة نظره، لكن هذه الخلافات تتبدد بسرعة حباً ورغبة في جمع الكلمة. ومن المناظر الجميلة التي وصفها الكاتب منظر التلال الرملية في منطقة الدهناء، فهو بعد أن يصفها ويحدد ارتفاعها يذكر أن أحد اصحابه تمنى أن يسحبها إلى (أم البروم) في البصرة، لكي يبيعها، في حين أن كاتبنا عشقها لمنظرها، مما جعله ينزل من الراحلة ويتمرغ على ذلك الرمل الذهبي الجميل. وهو من خلال هذا الوصف، يبيّن الفرق بين نظرة التاجر ونظرة الأديب، فصاحبه يريد أن يسحبها ليبيعها، في حين كان المؤلف يكتفي بالاستمتاع بها مستخدماً أكثر من حاسّة. لقد أجاد الكاتب في وصف تلك الرحلة، وألّف كتاباً من أنفس الكتب من دون أن يكون في حسبانه ذلك، والكتاب

يجمع بين الطابع العلمي والطابع الأدبي، فالعلم يتبدّى من خلال تحديد الأماكن والمسافات والأسعار ودرجات الحرارة والأرقام، والأدبي يبتدئ في الأسلوب الفني الرفيع وانتقاء العبارة المؤثرة ورسم الصورة الجميلة والاستعانة بالشعر في بعض الأحيان.

لقد أحسن ابن المؤلف وحفيده صنعاً في جمع تلك الوريقات المبعثرة وتحويلها إلى كتاب يسجل رحلة الحج في فترة مهملة، كما أحسنت دارة الملك عبد العزيز في تبنيها نشره وتوزيعه، ليحتل مكاناً بارزاً بين الكتب الأخرى، التي اصدرتها الدارة، مما يتعلق بتاريخ السعودية.

ولعل ما يميز الكتاب الصدق والبُعد عن الهوى، فكثيراً ما يميل بعض المؤرخين المحترفين إلى تزييف الحقائق وتبديل الصور من أجل غرض في النفس، أما هذا الكتاب فهو يبتعد عن ذلك، لأنه أصلاً كان يرمي إلى تسجيل تلك الأيام خوفاً من أن تخونه الذاكرة في القص، حين يعود إلى بلده الزبير، ويتحلق القوم حوله يسألونه عما رأى، وهنا تظهر قيمة الكتاب التاريخية، ويأتي دور المحلل التاريخي الذي يتأمل النصوص ويحللها ويناقشها ويسقط بعضها على أيامنا هذه، ونترك ذلك لدراسة أخرى.