إلى بريطانيا(2)

د. عثمان قدري مكانسي

إلى بريطانيا(2)

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

فتحت المدارس أبوابها ، لكنني للمرة الأولى لم أكن فيها ، بل كنت بعيدا عنها آلاف الكيلومترات . قضيت في ثانوية دبي ثلاث عشرة سنة ، ورأيت نفسي في سن الحادية والخمسين متقاعداً ، فقد أُنهي عملي في الإمارات في غاية حزيران من عام ثمانية وتسعين وتسع مئة وألف ، وطُلب إلي أن أغادر على جناح السرعة ! .. فقد رأوا فيّ مدرسا غير مرغوب فيه ! أحشر الإسلام في الدروس والمحاضرات ، وأقارن بين ما نحن عليه من تبعية للغرب وهوان – في قصعة يتجاذبها وحوش الغرب – وبين حال المسلمين حين كانوا ملوك الارض وسادتها إذ القرآن بأيديهم، والإيمان في قلوبهم .

كنت في عمان أرتب دارنا التي اشتريناها قبل سنتين تحسباً لإخراجنا من الإمارات وتذكرت قول الله تعالى في الكفار من قوم شعيب : " لنخرجنكم من أرضنا ، أو لتعودُنّ في ملتنا ..." فقلت مثل ما قاله الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم إذ أخرجه قومه : والله يا دبي: لأنت من أحب أرض الله إليّ، ولولا أن المفسدين فيك أخرجوني ما خرجت.

فـالإمـارات  بـلادي
حـبها في القلب يسري
عـشت  فيها خير iiأيـ
نلت فيها الأنس iiوالأمـ
نلت  فيها الراحة iiالكبـ




 
حـبُّهـا  فـرض iiعليّا
دافـقـاً حلواً ، طريّـا
ـا مي شـباباً ، iiحيويّا
ـن ، وقد كان ، عصيّا
ـرى  ،وقد عشت هنيّا

كانت الحياة رتيبة ، جديدة ذات طعم آخر ، فيها الهدوء والتفكر المتمعن في الحياة الفانية والتشوف إلى ما عند الله سبحانه وتعالى ، فكان كتابه العظيم رفيقي على مدي ثلاثة أشهر ، استنبطت منه كتابي " صور من التربية في القرآن الكريم " وكتبت خلاصة ما جاشت به نفسي في حب لهذا الكتاب العظيم :

دار الـزمـان iiكدورته
والـنفس بالإيمان iiحقـ
يـا مـن سعـدتَ iiبآيهِ
الـحـقُّ فيه على الدوا



 
وسـما الفـؤاد iiبفكرتهْ
ـاً قـد روتْ من دفقتهْ
وبـعدلـه  في iiشرعتهْ
مِ  فلا تزل في iiنصرتهْ

وفي الخامس عشر من ديسمبر " كانون الأول من السنة نفسها حين اشتريت بطاقة المغادرة على الخطوط البريطانية المتجهة إلى بلادها ، وأكدت على مكتب البيع أن تكون الرحلة مباشرة إلى لندن ، فطمأنني إلى ذلك ... ودخلت الطائر الميمون !! ولم يكن من عادتي أن انتبه إلى الكابتن وهو يرحب بالمسافرين على متن الطائرة .. لكنني إذ ذاك – بقدر من الله سبحانه – ربطت حزام الأمان وأناأستمع إلى ما يقول ... فإذا بالطائرة متجهة إلى دمشق أولاً لتحمل ركاباً منها ، ثم تنطلق إلى مطار " هيثرو " ولكن دون أن أكون معهم !! لأنني حينئذ أحل ضيفاً ثميناً على زنازين النظام العطوف الرؤوف بمواطنيه المنكوبين به .. رأيت نفسي قد حللت الحزام وحملت حقيبة سفري الصغيرة، وأسرعت إلى باب الطائرة قبل أن تتحرك فأدلف كالسهم إلى خارجها ، فأحمد الله تعالى على أنني ولدت من جديد ، والناس بين متعجب مما فعلت ، وآخرين لم يشعروا بما حدث ، فالأمر لم يتعدّ الثواني ... وتأخر انطلاق الطائرة عشر دقائق كي يخرجوا حقيبتي الكبيرة من بطنها مقطوعة اليد ، ممزقة الجيب. يبدو عليها الإنهاك كما كان يبدو على صاحبها .

حمدت الله سبحانه وتعالى أن نجاني من القوم الظالمين ، وهنأني على السلامة من استغرب من تصرفي في بداية الأمر وعدت أدراجي إلى البيت لأقرر السفر ثانية على متن الملكية الأردنية الهاشمية ، فذلك أدعى للطمأنينة ، وأروح للنفس .

بعد ثلاثة أيام كنت في لندن عند أختي أم الحسن ... الجو قبل ثلاث سنوات في الصيف حين زرتها للمرة الأولى غيره في نهاية الخريف على أبواب الشتاء ، فالغيوم تملأ السماء جيئة وذهابا ، ما إن تبدأ قطرات المطر بمباشرة الوجوه والرؤوس حتى تداهمك بقوة قبل أن تفتح المظلة ، لكنني لم أجد البرد الشديد الذي كانوا يصفونه - حين يتحدثون عنه- يجتاح لندن ولا القر اذي يخدر الأنامل والأطراف .

 وها أنا أكتب هذه الذكريات في رمضان 1425 للهجرة ، في بيتي  في عمان بعد صلاة تراويح اليوم الرابع من هذا الشهر الكريم ، وأظن أن المقال سينشر وأنا في ربوع إيطاليا – مدينة " بولونيا " التي سوف أطير إليها إن شاء الله تعالى بعد أيام قليلة .. أكتبها عن رمضان 1419 للهجرة الذي وافاني ولم يمض على وصولي لندن سوى أيام قليلة .. كنت وحدي حين زرت حديقة " ريجنتس بارك " فأم حسان ارتأت أن تنهي " الكورس الأول " مع طالباتها في كلية المجتمع الإسلامي في الزرقاء فهي وفية لعملها وحريصة على فائدتهن .... البطات يسبحن ، وأوراق الشجر المتساقطة على الأرض سابحة على أمواج الهواء توحي بقلة الزائرين ، وكثير منها استقر في قاع البركة الكبيرة فأكسب الماء حزنا مصفرا ولونا باهتا . والشمس فقدت حرارتها ،فكأنها مرآة باردة المنظرتعكس صورة أختها الغائبة في طرف الأرض الجنوبي من الكرة الأرضية ....

كان الأولاد يذهبون إلى مدارسهم ، حسن يوصله أبوه ، والأخريان تحملهما الحافلة ، أما " ربا " فمعاقة تذهب بها وتعود سيارة مجهزة بما يناسب أمثالها ، يعتني بها طاقم من الممرضات المتمرسات خدمة واهتماما، وقد خصص للفتاة إحدى الممرضات تمكث معها بعد عودتها من المدرسة في البيت ساعتين ثلاث مرات في الأسبوع تقوم بتنظيفها وإطعامها ومساعدتها بكتابة واجباتها.. تماما كما تفعل وزارات التربية والتعليم في بلادنا !! ولعلنا نسميها وزارات " التغبية والتعليب " فلا تستحق أكثر من ذلك ،هذا إن أحسنا بها الظن . وتصور معي - أخي الحبيب - أن للتلميذ خمسة عشر جنيها استرلينيا كل أسبوع – من خزانة الدولة طبعا - فهو إنسان ينبغي أن يشعر منذ الصغر بكرامته وقدرته على مجاراة رفاقه الموسرين ، وأن وليّ المعاق ينال خمسة وثلاثين جنيها كل أسبوع لخدمته ولده ، فهذا الولد سيكون أحد بناة مستقبل الأمة ، وفيه الخير شابا ما اعتُني به صغيرا !! أليس هذا سببا في رقيهم وتقدمهم ؟ ومعلما حضاريا بارزا يدل على التخطيط السليم لأمة تريد أن تعيش رحم الله الشيخ محمد عبده القائل عن الغرب : رأيت هناك إسلاما ولم أر مسلمين ، وفي بلادنا مسلمون ولا إسلام !

كانت خطبتي للجمعة الأولى في " دار الرعاية الإسلامية " عن الأخوّة الإسلامية وتنميتها في رمضان ، ولأنني غير متمكن من الإنجليزية فقد أنهيت الموضوع في الخطبة الأولى وجلست ، وكان مرافقي قد كتب رؤوس أقلام أمليتها عليه قبل الخطبة ، ثم زاد عليها مما سمع مني وأعاد موضوعها بأسلوبه  الإنجليزي في الخطبة الثانية ، وحين أنهىترجمته كان الدعاء ثم الصلاة ... فكان مما انتقده بعض ذوي الأفق الضيق أنه أنقص أمورا – هي في الحقيقة من باب التوضيح ، لا من صلب الحديث  - كنت قد استشهدت بها فلم ير لزاما أن يذكرها ،ولعل الناقد أراد إظار عبقريته باللغة الأجنبية فلم ير أنسب من هذه الطريقة ...فأمسك المترجم نفسه  – على الرغم من تطاول الناقد عليه – وابتسمت له مشجعا على ضبط النفس ، فمخالطة الناس يحتاج إلى تحمل أذاهم ومداراتهم ، وسعة الصدر ، ليصل الداعية بعد ذلك بجهد مستمر متواصل إلى غرس الدعوة في نفوس المدعوين على تعدد مشاربهم وتفاوت أخلاقهم ، وتذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصير على أذاهم "  ولن تكون دعوة دون اصطبار وتحمل للأذى . وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام فيها الكثير الكثير من صور الحلم والأناة والصفح والمغفرة. فقد مدحه الله تعالى بذلك فقال:" وإنك لعلى خلق عظيم ". ونبه سبحانه إلى أن اللين والرفق خير سبيل إلى قلوب الناس فقال :"  فبما رحمة من الله لنت لهم ،ولوكنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ... " والرسول الكريم نفسه يقول : إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ،وما لا يعطي على سواه.

الحياة في بلاد الغرب مادية شديدة القسوة ، ولا يعني هذا التعميمَ، فلا بد من النفحات العاطفية ودفء الحنان فالإنسان بطبعه وفطرته ذو دفق شعوري خلاق ، فإذا طغت المادة على حياته فقد كثيرا من هذا الدفق تحت  ركامها ، ولعل صدمة شعورية سريعة تعيد له – قليلا أو كثيرا – هذا الشعور ، لكنه يظل مبتورا ناقصا عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها ... حدثنا الأخ " الأفندي مالك " أنه كان يمشي مع زميل له في العمل "بريطاني " من لندن في oxford street  شارع أوكسفورد العريق متجهين إلى عملهما مسرعين ، فرفع صاحبه يده وهوينظر للرصيف الآخر من الشارع يصيح مبتسما وملوحا : HI HI ثم قال : أنا سعيد اليوم يا مالك ، فقد رأيت أبي وسلمت عليه ،

قال مالك : أمر عادي أن يسلم الإنسان على والديه ويحييهما .

قال : كيف يكون الامر عاديا وأنا لم أره منذ ستة أشهر ؟!

قال مالك :أمن المعقول أن تغيب عن والدك مدة طويلة ثم حين تراه تكتفي بالسلام عليه من بعيد؟!

قال: هذا هو الواقع .

قال مالك :لعله كان مسافرا ثم عاد فعلمت بعودته الآن؟

قال : لا إنه لم يسافر ، ولم أدر إن كان سافر فعلا .

قال مالك : لعله يسكن في مدينة أخرى بعيدة ؟

قال : لا ، إن الوالد يسكن في حي قريب من حينا .

قال مالك : ولعلك اكتفيت بالسلام المقتضب ؟! أم تراك عزمت على زيارته؟

قال : قد أزوره ، ولكن المواعيد والأعمال – كما تعلم – لا تدع مجالا لمثل هذا التواصل .

   وحدثه مالك بما للوالدين من مكانة في الإسلام ، ووجوب بر الوالدين ما كانا على قيد الحياة وبعد مماتهما ، والثواب العظيم الذي أعده الله تعالى لبر الوالدين ، وركز على قوله تعالى " عندك " في قوله سبحان : " إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما " فكما ربياك أيها الإنسان في بيتهما يرعيانك ويحنوان عليك وجب أن ترد لهما بعض الفضل بالمثل ، فترعاهما " عندك " ما استطعت إلى ذلك سبيلا .... كان ذلك الأوربي يتعجب من العلاقة المتأصلة المتماسكة بين الأصل والفرع ، بين الوالدين وأبنائهما ...

  دعيت إلى المدينة الساحلية " بورموث" على بحر المانش في يوم الجمعة الثاني من وصولي ، فكنا في المحطة الكبيرة القريبة من الجامع السعودي المصري الكبير في التاسعة صباحا ، كان رفيقي صهري أبو الحسن – حفظه الله – فحملنا القطار إلى مبتغانا في أقل من ساعتين على ما أذكر ، كان القطار يتهادى كالعروس التائهة بين صويحباتها بسرعة الحبيب المشوق إلى حبيبه ، يمر على المدن الصغيرة والدساكر المتناثرة على كلا الجانبين  -ولعله توقف مرتين أو ثلاثا وقفات قصيرة - يمر فوق جسر أو تحت قنطرة أو على صفحة نهر أو بطن تل أو طرف بحيرة اصطناعية ، ما كنا نملك سوى الإعجاب بما نطل عليه من نافذة مقصورتنا،  نسبح الخالق مبدع الجمال ... النهار أكثره مشرق يتخلله قطرات تتناوب على زجاج النافذة ، فتستقر عليه هنيهة ثم تذوب بفعل الاحتكاك بالهواء الذي يصافح النافذة ... القطار يكاد يكون فارغا من الركاب في هذا الوقت من النهار ، أبو الحسن بين إعفاءة سريعة ومطالعة الجريدة اليومية ، وأنا أسبح في ملكوت الله في حلم اليقظة حينا ، وبما يحيط بنا حينا آخر .

   المدينة صغيرة على ما يبدو ، إلا أنها قائمة على تل منحدر إلى الغرب ، والمسجد الصغير قائم على مرتفع يطل على الانحدار ، يتألف من طابقين ، قسمه الأول للإدارة والاستقبال والمطعم ومطبخه – الذي ينقلب- المطعم بكل تأكيد - إلى قاعة للمحاضرة – والقسم الثاني للصلاة ، أما المنبر فطاولة بدرجتين رقيقتين .... استقبلنا الأخ الكريم " أبو أنس الحموي "رئيس إدارته بوجهه البشوش ، وبسمته الهادئة ، فغسل عنا التعب وجلا عن عيوننا النعاس ، فقد استيقظنا عند السحور ولما ننم .

    قبل الصلاة بساعتين تقريبا بدأت المحاضرة ، إذ كان بانتظارنا بعض المصلين  ثم بدأوا يتقاطرون .... بعد انتهاء المحاضرة بدقائق بدأت صلاة الجمعة  في الواحدة والنصف . وما إن انتهينا من صلاة الجمعة وظل الناس في أماكنهم يقرؤون القرآن ويذكرون الله تعالى دقائق قليلة حتى أُذِّن لصلاة العصر ، وبعد أدائها ذهب من ذهب وبقي جمهرة الناس لنبدأ محاضرة أخرى انتهت قبيل المغرب ... كان اليوم الشتوي البريطاني قصيرا في " بورموث " وكان – كذلك – مباركا .أما الإفطار الجماعي فكان شهيا لسببين ، الأول أنه مع مجموعة كبيرة متجانسة وأعرف كثيرا منهم ، والثاني أنه جاء بعد إرهاق وتعب وجوع .... صلينا العشاء فقط، دون التراويح . وأسرعنا بالعودة بعد أن كان وعد بالعودة إن يسر الله تعالى .

   في كل مكان تجد من يحاول أن يعكر عليك المزاج ، فيعيد طرح أسئلته المملة على كل زائر ومحاضر : لم لا نحافظ على لباسنا الإسلامي في غربتنا؟ هل تجوز الصلاة دون ستر الرأس؟ ألا تنصح المصلين بالخروج من دار الكفر  والعودة إلى دار الإسلام ؟ ... أسئلة لا يفتأ يكررها بعضهم دون كلال ، وهم يعرفون الجواب سلفا . وينبهنا القائمون على المساجد إلى أمثال هؤلاء فنقول لهم : جزاكم الله : لقد مر علينا في تطوافنا على المراكز الإسلامية الكثير من أمثال هؤلاء ، واعتدنا على مقولاتهم ، ولا بد من الصبر والحلم ، وسعة الصدر ، فهم إخواننا وأحبابنا ، ولعل الله يهدينا وإياهم إلى الخير والهدى .

   في زيارتنا لمدينة " هيستنكس " على بحر المانش أيضا ولكن إلى الغرب من بورموث استقبلنا بعض الإخوة من ليبيا والمغرب ومصر وسورية ، وكانت الترجمة لخطبتي من إبداع الأخ السوري " الخبازة حسن " الذي كان يعمل مدرسا للكمبيوتر في مدرسة للجيش الإماراتي ، كانت سجنا كبيرا لأشقياء المدينة ، فاشتراه الشيخ محمد بن زايد رئيس أركان جيش الإمارات ليكون مدرسة لصف ضباطه يتعلمون فيه أفانين القتال على أيد المدربين الإنجليز في دورات منتظمة . وبقيت هناك بعد أن لحقت بي زوجتي أسبوعا نزلت فيه ضيفا على أحد الدارسين الإماراتيين الذي كان يسكن لحسن ظني في بيت ملاصق للمسجد ، وكان يقضي إجازته في دبي إذ ذاك ... مدينة عادية فيها مرافق المدن الكبيرة ، وهذا دأب كل مدن الغرب تقريبا ، فيشعر أهل المدن الصغيرة أنهم يتمتعون بحياتهم كما يتمتع غيرهم .وفي هذا المسجد حلقات منتظمة في التجويد والفقه والسيرة ، وكان لي شرف ترتيب بعضها ، والمشاركة في بعضها الآخر .

   بعض معوقات العمل الإسلامي تجدها في كل مكان يلتقي فيه المسلمون ، ولا أدري لم يحمل العرب خاصة والمسلمون عامة أمراضهم معهم إلى بلاد الغربة ، وظني أن عليهم أن يطرحوها وراءهم ويلموا شملهم ، ويكونوا يدا واحدة وفكرا واحدا بين غرباء عنهم في الدين والهدف والعادات ، فيثبتوا أنهم أصحاب مبدإ سام ، وإرادة قوية ، وغاية واحدة ، فيكونوا قدوة في النظام والأخوة والتربية وأنهم أهل لريادة البشرية يتألفون القلوب ويقودون القطعان الضالة إلى رحاب الإسلام الواسع ونوره المضيئ الهادي .

   قد يتصدر أحدهم العمل الإسلامي حين يحل في بلدة فيها عدد قليل من المسلمين ويراهم متفرقين ليس فيهم من يقوم بخدمتهم وتوجيههم ، ويرى في نفسه القدرة على جمعهم فيبدأ مشكورا بحملة تجمعهم في مصلى أسبوعي أو شبه يومي ، فيؤمهم أو يستزير بعض طلبة العلم على فترات ، وينشئ مع بعض المتنورين هيئة أوجمعية ، فإذا كبرت الجمعية وبدأت تقف على قدميها – وكانت إمكاناته محدودة – ورأى ثمار العمل يحتاج الجهد المضاعف ـ وتكونت إدارة فيها شباب ذوو كفاءة عالية تفوق إمكاناته وبدأت – على حد زعمه – تفلت من يديه جعل يضيق على هؤلاء ويحاربهم  دون أن يدري أنه بدأ يهدم ما قد بدأ ببنائه ، ويصبح حجر عثرة في طريق تقدم هذه الهيئة ، ولعله يناصبهم العداء ويخذل عنهم !!... وقد ينزوي ويصاب بالكآبة حين يرى النمو والازدهار بعيدا عن وصايته!!ولعل أمثال ما ذكرته ظاهرة تستحق الدراسة والعناية ... ذكرني بهذه الفكرة ما رأيته في " هيستنكس"  عام خمسة وتسعين وتسع مئة وألف من أخ مصري كان من مؤسسي المسجد هناك فلما قدم داعية باكستاني فخطف الأبصار منه عن جدارة – فقد كان الباكستاني ملتزما فكرا وسلوكا-وكان لولبا بين افراد الجالية المسلمة يقطر نشاطا وغيرة ، أما الأخ الأول فالتزامه ونشاطه ضعيفان .

   دعتني لجنة إحدى مساجد " ليدز " في الشمال حين عرف الأخ الأفندي أنني أقرض الشعر إلى أمسية شعرية هناك ، فاشترينا بطاقتين ، وانتظرنا الباص الذي يحملنا إليها ، فلما جاءنا محملا بالركاب الذين استقلوه من محطة متقدمة ، ولم نجد كرسيين متجاورين ، ولم يرض أحد أن يتخلى عن مكانه ورأيت أن زوجتي ستركب إلى جانب ثقيل الظل سخيف التصرف فضّلنا النزول من الحافلة والعودة إلى البيت وخسارة البطاقتين على خسارة الراحة النفسية والدين ، ولو قيل عنا ما قيل . وليت القيل والقال كان من الإنجليز فقط لهان الأمر ، ولكنه بدر عمن تحسب فيهم الخير ، وتظن أنهم من بني جلدتك ويحملون من المبادئ والعادات ما تحمل .