باكستان

د. عثمان قدري مكانسي

باكستان

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

صيف عام ستة وثمانين وتسع مئة وألف سافر بعض المدرسين من العاملين في الإمارات إلى الباكستان يؤدون امتحان دراسة الماجستير في كل الاختصاصات، سألني أحدهم : أتودّ أن أسجلك في عداد الدارسين السنة القادمة ؟ قلت أين ؟ قال في جامعة " البنجاب " في لاهور . وهي شهادة معترف بها. قلت : نعم ،على بركة الله . قال يكلفك التسجيل ألفًا وخمسَ مئة درهم. قلت : لا بأس، ثم إن الامتحان كما ذكرت في الصيف فلا نحتاج إجازة قد توافق عليها الوزارة ، وقد لا توافق، قال : إن شابا من لاهور يتابع الأمور لقاء ذلك المبلغ.....

 وحين عاد بعد عشرين يوما أعطاني رقم هاتف " وسيم " وقال : إنه وسيطك ، وسيرسل بعد أيام المقرر الذي ينبغي دراسته لتبدأ من الآن الدراسة ، فالمنهج ضخم.يحتاج إلى همة الرجال.

اتصلت به ، وأعطيته عنواني . فأرسل المنهاج ، وكان ضخما فعلاً ، تضمن الأدب على مر العصور، و" شذور الذهب" مع أبواب من "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام النحويّ ،" وتاريخ الأمم الإسلامية" للشيخ محمد الخضري بك ، وتفسير بعض طوال السور ، ومواضيع فقه اللغة،،ومقررات أخرى حتى كدت أتراجع عن الدراسة ،لكني رأيت بعض من رغب في الاستمرار يشجعني على ذلك، فاستعنت الله تعالى ، وبدأت القراءة والدراسة ، وانشرح صدري فانكببت على الكتب مسترجعا ما درست سابقا ، ومضيفا إليه الجديد، وبارك الله تعالى في الوقت والجهد ، ومن استعان الله أعانه، ومن قصده لبّاه ، ويسر أمره.

ولم تشأ أم حسان مشاركتي ، فلها اهتماماتها الخاصة، هكذا كان ردّها. وأمرتني أن أشتري لها " كمبيوترا" "وتلفزيونا" جديدا ملوّنا وجهاز "فاكس" فكان لها ما أرادت . وهل أملك إلا أن أكون كذلك ؟!

وقلت معارضا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :

دع  العصيان  فالعصيان داء
إذا  ما  كنـت منقادا iiمطيعا
وسلم في الأموربلا اعتراض
ولا  ترفـض لآمرة iiكلامـا
وخيرالناس من دارى iiبلطف
وأما  من  تكاسـل أو توانى






 
وطب  نفسا  إذا حكم iiالنساءُ
أتاك  الخير  وانجاب  البلاءُ
وإلا   فالمكـاره  iiوالشـقاءُ
تجد  شـرا  إذا جاء iiالمساءُ
وسارع  للرضا  وبه iiاحتفاءُ
فلا  أرض  تقيه،  ولا iiسماءُ

وجاء الصيف ، وكان من المتوقع أن أسافر إلى لاهور في" تموز" يوليو فأجل الموعدإلى " آب " اوجست، ثم إلى الأول من " أيلول" سبتمبر إلى العشرين منه ، فطلبت إجازة، دون راتب ، فنلتها ، ثم استقر الامتحان على سبتمبر كله ، 

فتحت المدارس أبوابها في الأول من أيلول، لكن التلاميذ يداومون في منتصف الشهر ، فووفق على الإجازة بسهولة ، فهذا من مصلحة الوزارة الماديّة ، لكن الإجازة للشهر كله يعني أن غيري من المدرسين سيعمل عملا إضافيا مدة أسبوعين ـ فترة غيابي ـ وقد لا توافق الوزارة على تمديد الإجازة ، فاستخرت الله تعالى،  والتمست تمديد الإجازة أو إلغاءها ، فجاءني التمديد ، فارتحت لما قدر الله لي ،وطرت إلى لاهورمنشرح الصدر مرتاح النفس ،على الخطوط الباكستانية، وأنصح كل مسافر أن يختار الخطوط التابعة للبلد التي يسافر إليها فيملك هناك خيارات عدّة.

المسافة بين دبي وكراتشي جوا ساعة ونصف الساعة ، أما إلى لاهور في الشرق قرب كشمير فثلاث ساعات . وكانت الرحلة مباشرة إلى لاهور دون توقف في كراتشي مما جعلها مقبولة ، فلم أتعب.

حطت الطائرة في المطار قبيل العشاء ، وكانت الإجراءات سهلة ، والتقيت" وسيما" لأول مرة ، فقد كان شابا لطيفا ، ذا لحية خفيفة ، ووجه متناسق ، وابتسامة دائمة هادئة، عرفني بسهولة من الصورة التي أرسلتها مع أوراق التسجيل، يعرف من العربية قليلا ، وأعرف من الإنجليزية القليل كذلك ، فكان التفاهم جيدا، كان  معتدل القامة أقرب إلى القصر, ومعه شاب لطيف كثير الابتسام، معتدل القامة أقرب إلى الطول ، " فرّوخ عثمان" يشبه الأخ الأستاذ "مروان زرزور" صديقي الدمشقي المدرس للغة العربية في الشارقة شبها كبيرا جدا في هيئته وصوته ولونه الأبيض وصغر عينيه  وحدّة أنفه، إلا أنه أصغر عمرا ، فتذكرت القول الشائع: يخلق من الشبه أربعين ،وكانت لغته العربية جيدة وكان التزامه الإسلامي أوضح من وسيم، لم يكن وسيم متزوجا مع أن حالته المادية جيدة ،أما فروخ فمتزوج وله ولدان، وكان الاثنان يعملان في بنك فروعه مزروعة في كل مكان  ,.... كان سلامهما حارا  بحرارة الجو في لاهور، واصطحباني إلى الفندق ،فوضعنا الأمتعة في الغرفة المحجوزة، ثم تغدينا في مطعم صيني ، وجبة لذيذة ، أطيب ما فيها أنها على جوع ، مما شجعني أن أزور هذا المطعم وأضرابه كثيرا في هذه المدينة مع جاريّ الجديدين في الفندق الثاني , ولا أنسى أنني قلت لزوجتي حين عدت إلى الشارقة : ما رأيك أن نتغدّى في مطعم صيني كما كنت أفعل في لاهور ؟ أجابت : ولم لا. هيا ، فالسوق أقرب ، وطعامه أطيب . والحقيقة أن ما قاله الحريري في مقامته تلك ينطبق على كثير من النساء غير زوجتي ، فهي ذوّاقة وطبخها مشهور في النساء ، ومن أمتع أوقاتها – كما تقول- بقاؤها في المطبخ ، وجلوسها أمام التلفاز في برنامج يقدم طبقا من الحلوى أو وجبة غداء فتتقن صنعه، وأنا أشهد لها بذلك عن قناعة ، لا عن ضغط خارجي أو داخلي،.. دخلنا المطعم الصيني ، وطلبنا أرزا ولحما ، ومقبلات ، فما أبتلعت لقيمات حتى قذفت ما في بطني منها، لسوء مذاقها ، ونتن رائحتها، أما زوجتي فلم تتناول منها شيئا ، ونظرنا حولنا فإذا بتمثال بوذا معلقا في صدر المطعم ، وإذا أصحابه بوذيون ، فاندفعنا إلى الخارج سريعا نستغفر الله على دخولنا إياه، ودفعنا ثمن ما لم نأكله ، وسألونا رأينا فيما قدّموه من طعام ، فقلنا دون خجل: إنه من أسوأ ما تذوقنا ، لقد كانت المطاعم الصينية في لاهور بأيدٍ مسلمة ، وأسلوبٍ باكستاني اعتدنا عليه في الإمارات ، ويكفي أنهم مسلمون ترتاح القلوب لما يقدمون من أكل حلال ،هم أحرص عليه ، فقد وجدت فيهم غَيرة على الإسلام وحرصاً عليه.

كانت أجرة الليلة في الفندق –على الرغم من بساطته- مرتفعة ، فشاركني اليوم التالي فيها مصري يعمل في الشارقة أستاذا في كلية  العلوم البحرية التابعة للجامعة العربية، كنت في الأربعين من عمري ، وكان في الخامسة والخمسين ، يقدم الامتحان في الشريعة الإسلامية ، والحقيقة أنه كان طيب الأخلاق حسن المعشر ، واصلته في الشارقة حين عدنا ، لكنني نسيت اسمه الآن ،فذاكرتي كثيرة الثقوب، لا تحفظ الأسماء , كثيرا ما توقعني في مواقف مربكة أو محرجة، ولا حاجة للإنسان أن يفضح نفسه، فيذكر كل شيء، والله تعالى يحب الستر .

انتقلنا إلى فندق شعبي أعجبنا ، وانفرد كل منا بغرفة فيه، ودفع أجرتها أقل مما دفعنا معا في الغرفة التي اشتركنا فيها. وقد أعجبني المكان لأكثر من سبب، أما الاول فلأنه في منتصف المدينة، وأما الثاني فلأنه بسيط ، وأنا أحب البساطة في الأمور كلها ، وأكره  التكلف والمتكلفين ، وأما الثالث فالفندق يذكرني بمعاهد الطفولة والصبا ، فنحن نسكن في حلب ، في سوق الخيش قرب الجامع الأموي الكبير ، منتصف المدينة المسقوفة، التي تكثر فيها الخانات، وهذا الفندق خان، وقد كان أسلافنا حين يسافرون ينزلون الخانات . وهذا الخان-الفندق- صورة مصغرة لخان " القصّابية " الذي يطل عليه بيت الأسرة كما أن حانوت الوالد رحمه الله تعالى يبعد عنه خمسين مترا ، وله فيه مخزن واسع يتخذه معملا ،قضيت فيه السنوات الطوال.... إذن فأنا في حيي وبيتي ومعهدي التي ابتعدت عنها عشر سنين و سعدت بلقاء المثيل ـ الفندق الخان ـ بعد غياب عقد من العمر ، فماذا أقول اليوم ونحن في العام الرابع بعد الألفين ؟ وقد منعت قسرا عن الوطن الحبيب ستة وعشرين عاما بالتمام والكمال؟!!

كان الشباب ـ قبل أسبوعين من كتابة هذه المقالةـ في حفلة عرس ينشدون أبياتا من " طلع البدر علينا"  فقلت لهم قولوا :

غربتي طالت وطالت
فـرّج  اللهم iiكـربي


 
خمس  خمسات iiوعام
وامنح القلب iiالسـلام

ودمعت عيناي ، إن البعد عن الوطن ومرابع الصبا كرب ومحنة ، واللجوء إلى المولى تبارك وتعالى الحل، فليس لنا إلا الله تعالى يصبّرنا في الغربة ، ويأخذ بأيدينا ، ويثيبنا خير الجزاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، من قالها انقلب غمه سرورا ، وشوقه سكينة ، وهدأت نفسه وعاش في فضل عميم ،،، هكذا يعلمنا ديننا العظيم ، وهكذا نفهم من الآية الكريمة: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم " .

في أحد الممرات المطلة على باحة الخان أربع غرف صغيرة ، في كل واحدة سرير مريح وطاولة خشبية قديمة  من الزان القوي عليها إبريق الماء المعدني وكأسان زجاجيان، وكرسيان من الزمن الغابر لكنهما متماسكان، ومكيف صحراوي ، وخزانة حديدية نظيفة .  عرض الممر ثلاثة أمتار ، وطوله باتساع الغرف الأربع ، ،وقبل الدخول إلى الممر خزان كهربائي يبرد ماء الشرب، يجد فيه المرء بغيته دائما . وكان الجو لطيفا إلا عند الظهر فنلطفه بالمكيف،

شغلنا الغرف الثلاث الأخيرة أكثر من عشرين يوما ، طوال فترة الامتحان، أما الأولى فقليلا ما كانت تُشغل... أنا في الثانية ، وأخ فلسطيني يعمل مدرسا للغة العربية في الكويت  نسيت اسمه ، وكان لطيف المعشر  نظيف الفكر في الثالثة ، والأستاذ المصري في الرابعة . إذاً كان الممر لنا –أيها الثلاثة-، نجلس فيه صباحا بعد طلوع الشمس أو بعد العصر ، نتجاذب اطراف الحديث ،أو ندرس على لمسات النسيم العليل، وكانت مواعيد الامتحان صباح يومين من الأسبوع على ثلاثة أسابيع .

لم يتسنّ لنا أن نتجول خارج نطاق المنطقة التي سكناها عدا مكان الامتحانات الذي كنا نقصده بمركبة صغيرة على دراجات ثلاث تدعى " ركشا " ونسميها في بلادنا " طرطيرة " لصوتها المطرطر الهادر، تتسع لشخص واحد إلى جانب السائق ، ولاثنين بعملية ديكورية، والرخْصُ رائدنا والسهولة دافعنا، وهي وسيلة المواصلات الأولى في المدينة ، وأعدادها وافرة .

كان الغداء المعتاد أكلة " البرياني" المشهورة في الخليج ، من أرز ولحم، وهي باكستانية المنشأ،  كثيرة التوابل ، لذيذة الطعم ، بالإضافة إلى أنها تبيض الوجوه!! فكيف ذلك؟؟! وهنا أدرك شهريار الصباح فبدأ الكلام المباح، بألسنة فصاح ، فَأعلن وباح ، واعتذر منكم واستماح :

حين جئنا الإمارات حملنا معنا عاداتنا – معشر الحلبيين – فإذا دعونا ضيوفا للغداء أو العشاء فلا بد من أنواع الكبب-جمع كبة –ومحشي اليبرق" ورق العنب " والمقلوبة والرز مع المرق ، وأقصد بالمرق الشاكرية باللبن ، أو السماق أو السفرجل أو... وهذا يعني العمل المتواصل لأهل البيت ، والتعب المرهق يومين متتاليين . لينتهي كل ما يصنع في وجبة واحدة ، يؤرق سيدة البيت إن طُلِب إليها أن تحضِّر لضيوف آخرين في الأسبوع التالي ، فما بالك إن كان الزوار كثيرين ؟!! وقد يأتونك مرتين في الأسبوع؟!.. كنا في الشارقة ، وهي إمارة متوسطة بين أخواتها،

كادت الزوجة تبكي حين قلت لها : سيزورنا بعد غد أصدقاء من الفجيرة ،فهذا يعني تجهيز الطعام ، والبقاء ساعات في المطبخ ، فقلت لها : لا بد مما ليس منه بد.

 قالت ولكنني مدرسة أتعب مثلك في عملي !! وأنا وحيدة ليس لي أولاد يساعدونني .

 قلت : " البرياني " يا ابنة الحلال يفي بالغرض .

 قالت ولكنه ليس مما اعتدنا عليه ، وسيعيبوننا .

 قلت : ما الحل ؟ سكتت ...ثم قالت : سيأكلون وجوهنا .

 قلت : أتطبخين ما اعتدتِ عليه؟ سكتت.

 قلت : ارحميني يا امرأة .

 قالت : افعل ما بدا لك.

صليت العشاء في المسجد، واشتريت اللحم من " سوبرماركت " قريب منا ، وقصدت مطبخا للبرياني معروفا بجودة الطبخ والزكاء ، وقلت له أريده غدا في الثانية ظهرا ،

وفي طريقي إليه اليوم التالي اشتريت صحونا كرتونية وملاعق بلاستيكية ولفافات السفرة النايلون، وصواني ستانليستيل، ودزّينات من علب اللبن ـ والدزينة اثنتا عشرة قطعةـ وشيئا من الفاكهة وعجت على المطبخ فحملت القدر الكبيرة ، وانطلقت إلى البيت.

جاء الأصحاب ، وكانت الزوجة خجلى مما فعلنا ، فلم تشأ أن تقدم الأكل للنساء إلا في صحون الزجاج  والملاعق البيتية، وسمعنا الاستحسان من الجميع ، حتى إن أحدهم دعا الحاضرين إلى الغداء بعد يومين  و كلفني أن  أتولى أمرتجهيزه ـ وهل يحتاج تجهيزا؟!ـ وقال أرحتنا أراحك الله من كل مكروه ، وقلدني الآخرون فيما سنَنْتُ، فكان هذا أدعى إلى الإكثار من الولائم .

ولا بد من الاستطراد حين يكون الحديث متعلقا بما سلف ، فقد كنا مجموعة من السوريين نتدارس كل أسبوع بعض آيات القرآن الكريم ، ومواقف من السيرة النبوية الشريفة ، ومختارات من الأحاديث الشريفة من رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله . وأذكر أننا كنا نجتمع بعد المغرب كل يوم اثنين، فقررنا أن نصوم هذا اليوم ونلتقي في بيت أحدنا قبل المغرب بساعتين ، فإذا أذن للمغرب صلينا وأفطرناعند الرجل... واقترحت عليهم أن يكون الإفطار شوربة العدس فقط مع الخبز الجاف نفتته لقيمات ، ونلقيه فيها فيتشرب الحمض والماء ، ويكون الإفطار بسيطا لا يثقل على الزوجة ولا على الجيب ، ونعوِّد أنفسنا على التقشف !. وقلت نبدأ التجربة في بيتي... وأخبرت حكومتي المتفهمة لهذه الأهداف المغزى الذي نسعى له ، وكلي أمل ورجاء أن تكون عونا لي ... وجاء ذلك اليوم وسارت الأمور على ما يُرام، وأُذِّن للمغرب ، فأفطرنا على التمر، وصلينا المكتوبة ، وانتقلنا لغرفة الطعام ، ففوجئت أن مع الشوربة "جاطا" صحنا كبيرا من المعكرونة " سباغيتي.،نظر الحاضرون إليّ نظرة استغراب مشوبة بالابتسام ، وكأنهم يقولون أول الغيث قطرات، وصاحب الاقتراح أول من نأى عنه. فأكدت لهم أنني مثلهم فوجئت بذلك ، ولا علم لي بما بيتته الزوجة ، ولما سألتها معترضا بررت ذلك بأن بعضهم قد لا يستسيغ الشوربة " الحساء " ، فيجد البديل ، ولا بأس أن يأكل الحاضرون من نوع واحد، فيلتزموا ما اتفقوا عليه! لماذا لم تستشيريني؟ قالت لن توافق ، ولن أكون مضغة في أفواه المدعوين . قلت: ولم حشرت نفسك في هكذا أمر ؟ قالت : كيف لا وأنا المسؤولة عن إكرام الضيوف ؟ ! وأسقط في يدي، فمصارعة الماء والهواء لا تجدي .

وفي الأسبوع التالي عند أخ ثان كان الطعام ثلاثة أنواع ، طبعا مع اعتذار غير مقبول ، وحين اجتمعنا في الأسبوع الذي يليه في  بيت آخر كان هناك أربعة أنواع ... وفي بيت الرجل الثامن كانت الأنواع تسعة. وفهمت أن أحدنا حين يعود إلى بيته تسأله الحرم المصون عن الأكلات الموضوعة والوجبات المصنوعة ، وهي ليست أقل من صاحبتها شأنا ، فستفعل مثلها وتزيد نوعا آخر ... كان لقاؤنا غذاء روحيا فكريا  ، فانقلب لقاء بطنيا كُرَشيا . ..

 ونعود إلى لاهور ، فإذا جاء المساءخرجنا من الفندق إلى الزاوية أمامه حيث ترى مطعما يقدم الكِلى وبَيْضَ الغنم وقلوبها  بطريقة تدل على الذوق الرفيع ، فتراه يفرم البصل ناعما ثم يقليه،  ثم يطرح البيض أو غيره أو ما تريده أنت بعد أن يفرمه بسرعة ودقةٍ ناعما كذلك ، ثم يقشر البندورة " الطماطم" ويثرمها ، ويطرحها فوقها ، ويضيف التوابل اللاذعة ـ إن شئتً ـ ويقلبها حتى تبدو مرهما ،فيقدمها مع عصير مناسب .

وترى أمام الفندق من ينادي على قصب السكر  فتشتري كأسا صغيرة ب" روبية " واحدة أو كبيرة باثنتين، ويعصر عليها قليلا من الليمون ، وقد تشرب كأسا كبيرة من عصير المانجو الطازج  بالحليب ،وتسير في الشوارع القريبة من الفندق ليلا أو نهارا بأمان .

أستطيع أن أقول إن المكان الذي نزلنا فيه أشبه بمنطقة باب الفرج  وباب الجنائن في حلب ، ومنطقة الحميدية وما حولها في دمشق ، ومنطقة السبدة زينب والأزهر في القاهرة. فالشوارع واسعة ، وهي مزدحمة في النهار ، عادية في الليل، أما بناء الجامعة القديم ففي منتصف المدينة، المتوسط الرقي، ولعلها كانت راقية في الخمسينات من القرن الماضي . وردهاته وقاعاته تشبه قاعات المحاكم في علو سقوفها واتساعها وعظم أحجارها، أما البناء الجديد فعلى طراز الكليات الحديثة في بلاد الغرب.

والباكستاني محب للضيف ، طيب السريرة ، خدوم ، حسن المعشر ، والبنجابي أقرب إلى الوسامة والجمال من البلوشي،  وبلوشستان إقليم الباكستان الغربي ، على حدود إيران ، ويتكلمون إحدى اللهجات الإيرانية ، إلا أن بلادهم غزيرة المياه كثيرة الينابيع ،  لم أزرها لكنني مررت فوقها بالطائرة ، فأوحت لي بهذا الانطباع.وسأحدثكم في الباكسنان ـ 2 ـ إن شاء الله تعالى ـ عن مشاهداتنا فلست وحدي ، لقد كان الشطر الناعم في المقدمة!ورحم الله امرءا عرف واجبه ، وأراح جانبه.

من حسن حظي أنني كنت أول العائدين إلى الإمارت ، فأنا لا أحب أن أودع أحدا ، إن الوداع يعني الفراغ والفقدان ، وهذا باب من أبواب التعاسة لا أود أن ألجه . كان آخر امتحان صباح يوم الخميس التاسع والعشرين من أيلول ، والسفر عصر اليوم نفسه، ووصلت الشارقة وقت المغرب .

ذهبت السبت إلى ثانوية دبي مكان عملي، وكانت المفاجأة رائعة ، ان يكون شريكي في المكان أخاً حبيبا إلى نفسي، فوجئت به جالساً علىكرسي إلى طاولتي قلت : السلام عليكم . رد الجميع السلام ،وتبينت صوته أقبلت على الأساتذة الآخرين أولا، ثم عدت إليه أضمه بين ذراعيّ وقلبي ، وهو في قلبي دائما ، عرفته في إعدادية السعيدية في دبي ، وكانت السنة التي قضيتها معه تجلو شمائله الرفيعة أطال الله عمره ، وأحسن عمله, أخي وصديقي أبو أيمن " جاسم الدوري"  العراقي , قلت فيه شعرا كثيرا أبثه فيه حبي وودي ، ومما قلت فيه:

بعض الرجال حباهـم iiالربُّ
روضُ المجالس همْ iiوبهجتها
فكلامهـم  وردٌ  لـه iiعبَـقٌ
حـتى إذا سـكتـوا iiفإنهـمُ
 




 
خُلُقـا يهيـم بحسنه iiالقلـبُ
وعليهـمُ الانظـار تنصـبُّ
وسلامهم – إن تلقهم – iiعذبُ
قطب يدور حياله iiالصحـبُ
 

وكنت معه عام 1997نراقب التلاميذ في الامتحان النصفي في السادس عشر من كانون الثاني، فأغفى الشيخ أبو أيمن إغفاءة ، فقلت له: أراك غفوت ، فهل تشعر بالتعب؟ نظر إلي مبتسما وقال: بعض التلاميذ نائمون ، وبعضهم مستيقظ. تراقب أنت اليقظين، وأرقب أنا النائمين!!

يا  مغمض العينين كنتَ iiحالما
أرقـبُهـم  بلا تـوان يا iiأخي
أجابني  الحبيب : مهـلاً iiإنني
تتابعُ  الطلاب في iiصحوتهـم




 
وكنـتُ معْ طلابنـا iiملازمـا
ففيم كنـتَ يا صديقي iiساهما؟
رأيت في الإغفـاء أمراً iiلازما
وكان دَوري أن أجاري النائما!

ولعلي أكتب في واحة الإخاء في هذا الموقع الرائد بعض ما ينبض به قلبي نحو الأحباب ـ وما أكثرهم ـ وأدعو الإخوة الأدباء والشعراء أن يثبتوا للماديين في هذا الزمن المادي الكئيب الرديء أن المسلم قدوة في ضوع نشر الأُخُوّة الصادقة والحب في الله تعالى ، وأن الصلة الحقيقية الثابتة في دنيا الناس ينبغي أن تكون في حب صادق لا يزول ولا يحول.. إنه الله  .