رحلة الحج

رحلة الحج

نعمة من الله.. وتعويق من البشر

بقلم: عبد الرؤوف حداد/ حلب

لا يملك المسلم وهو يؤدي مناسك الحج أن يضبط مشاعره، أو يحبس دموعه.. كما أنه لا يستطيع أن يصف المتعة الروحية التي تملأ عليه جنبات نفسه، إنها أمور تعجز اللغة عن وصفها.
 

فالطواف حول الكعبة المشرفة، والنظر إليها، والتمتع بجمالها وجلالها وهيبتها.. ومشاهدة الألوف المؤلفة التي تتدافع مهلّلة، ملبّية، ذاكرة، مستغفرة، تائبة، قانتة.. فيها الشاب القوي، والشيخ الفاني، والطفل الصغير.. وفيها الضرير الذي يقوده بصير، والكسيح الذي يزحف زحفاً.. وفيها المتعلم والأمّي، والعربي والأعجمي، والأبيض والأسود.. اختلفت الألوان والألسن، واتحدت القلوب.

وقل مثل ذلك عن السعي بين الصفا والمروة، وعن الوقوف بعرفة والمبيت بمنى ورمي الجمرات، والصلاة في بيت الله الحرام.

إنها مشاعر قدسية يتذوقها القلب، وينفعل بها الكيان البشري كله.. ويعجز اللسان عن وصفها..

وهي جميعاً من فيوضات الرحمن الرحيم الودود، الذي يكرم ضيفه بها، ثم يجعلهم يعودون إلى بلادهم وقد غسلوا قلوبهم، وخلصوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.

ويرافق رحلة الحج عادةً زيارة المدينة المنورة، والمسجد النبوي الشريف، وقبر السيد المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحرص على أداء الصلاة في المسجد النبوي لنيل الثواب المضاعف أضعافاً كثيرة، والله واسع عليم.

ولا عجب بعدئذ أن يحدّثك الحاج أحاديث مسهبة عن كل موقف وكل مشهد، يمتزج فيها الوصف الموضوعي بالعاطفة المشبوبة، لأن كل ذلك قد نقش في قلبه آثاراً طيبة رائعة لا يعروها النسيان.

*     *     *

وحيال ذلك كله يتألم الحاج أشد الألم وهو يجد تصرفات من البشر تعكّر عليه صفو حجّه، وتنغّص عليه متعته الروحية الصافية.

ويمكنني أن أذكر بعض معاناتي في حجتي هذا العام (1424هـ) وسيقول القارئ: إنها ليست معاناتك وحدك، إنها معاناة ملايين الحجاج.. ثم إنها ليست خاصة بهذا العام، بل إنها تتكرر في كل عام.. وأقول: وتلك هي المصيبة.

إنه نداء إلى كل من يغار على شعائر الله، لعل هذا النداء يحدث تغييراً، ويزيل كرباً.

*     *     *

كانت بداية الرحلة أن هبطت بنا الطائرة في مطار المدينة المنورة، ولم تكن إجراءات الدخول معقدة، لكن المأساة بدأت فور ختم الجواز.

مسؤولون في المطار يحجزون جوازات الحجاج وتذكرات سفرهم، ويُبقون للحاج ورقة واحدة ينزعونها من الجواز ويعطونه إياها مع بطاقة من الورق المقوّى عليها رقم الرحلة التي جاء بها.

وبهذا لم يعد بإمكان الحاج أن يتحرك يمنة أو يسرة إلا بإذن المشرفين على الرحلة وعلمهم، أي أنه يبقى تحت رحمتهم! ويبدو أن الله قد سلب من قلوبهم الرحمة!

نُقلنا إلى فندق قريب من المسجد النبوي، ورحنا نسأل عن مسؤول الرحلة حتى يؤمّن لنا السفر بالطائرة إلى جدة، فقد دفعنا مقدّماً ثمن ذلك، ولكن تذاكر السفر والجواز لم تعد معنا، بل صارت بيد ذلك المسؤول، فأين نجد هذا المسؤول؟! مرة يقولون: لقد كان هنا قبل قليل، ولا ندري متى يعود، ومرة يعطوننا رقم هاتفه فنتصل به فيكون الهاتف مغلقاً، ومرة نحظى برؤية طلعته البهيّة فيتنصّل منّا أو يعطينا موعداً ثم يُخلف موعده..

وبعد مرور أربعة أيام على هذه المحاولات كان جوابه:

- لم يعد هناك مجال للسفر بالطائرة، سوف ننقلكم بالباصات.

قلنا: أعطنا جوازاتنا وبطاقاتنا حتى نؤمّن السفر بأنفسنا، سواء بالطائرة أو بالسيارات.

فقال: ممنوع!.

وإذاً فنحن تحت رحمة مسؤول الرحلة.

وبعد خمسة أيام –وكان ذلك صباح يوم السابع من ذي الحجة- جاءنا من يخبرنا أن الباص سينطلق بنا في الساعة الحادية عشرة من باب الفندق إلى مكة المكرمة.

تنفّسنا الصعداء، لقد بدأ الفرج.

في الحادية عشرة كان الباص ممتلئاً، وكان شكله مناسباً، لكن مقاعده متقاربة جداً بحيث تلتصق رُكبة الحاج التصاقاً قوياً بالمقعد الذي أمامه.

وطالت بنا الرحلة إلى مكة عشرين ساعة!! فلمَ طالت عشرين ساعة؟ وكيف؟!

بقي الباص واقفاً أمام الفندق ساعتين ونصفاً بالكمال والتمام، ولا ندري لذلك سبباً، حتى إننا حين سمعنا أذان الظهر (في الثانية عشرة والنصف) وأردنا النزول إلى الفندق لنصلي، اعترض السائق اعتراضاً قوياً بحجة أنه يريد أن ينطلق ولا يريد أن نؤخره. لم نعبأ باعتراضه. نزلنا خلال دقائق، وصلينا سريعاً وعدنا، لكن الباص لم ينطلق حتى الواحدة والنصف. وبعد انطلاقه في شوارع المدينة بنحو عشر دقائق توقف أمام أحد المباني ليختم الأوراق من مكتب الشركة السياحية.. واستغرق هذا الوقوف نحو 25 دقيقة!

ثم انطلق الباص حتى وصل إلى حدود المدينة فدخل ساحة كبيرة إلى جوار باصات أخرى، أمام أحد المباني، وقال السائق:

- هنا يجب ختم الجوازات (أي جوازاتنا التي هي بحوزته).

قلنا: ولماذا ختم الجوازات؟ هل الانتقال من المدينة إلى مكة هو انتقال إلى دولة أخرى!؟

لم يردّ السائق علينا.

نزل الحجاج إلى المبنى الذي يحوي صالة كبيرة ومرافق صحية، واستغرق ختم الجوازات قرابة ساعة كاملة.

ثم انطلق حتى وصل إلى "أبيار علي" حيث "الميقات" وكان قد بقي إلى الغروب أربعون دقيقة.

أنهى الحجاج إحرامهم وعادوا إلى الباص، فقال السائق:

- لم يبق إلى المغرب سوى عشر دقائق، سننتظر حتى تصلّوا المغرب، وتجمعوا إليها العشاء، ثم نمضي بإذن الله.

كان المسجد الذي أقيم هناك رائعاً، يجمع بين روح التراث، وأناقة الجِدّة، وتوفير المرافق والاحتياجات التي يريدها الحاج..

وكانت تلاوة الإمام الذي صلّى بنا المغرب تلاوة رخيمة قويمة نديّة، لكن المؤسف أنه بعد الفراغ من صلاة المغرب أغلق جهاز مكبّر الصوت، فحين تقدّم إمامٌ آخر لصلاة العشاء، حصلت الفوضى، لأن هذا المسجد الواسع لا يمكن أن يبلغه صوت الإمام، ولم يكن هناك –بطبيعة الحال- تنظيم لأصوات المبلّغين (الذين يمكن أن يردّدوا التكبيرات بصوت عال لإسماع من هم في أطراف المسجد) ولا أدري السبب وراء إغلاق مكبّر الصوت إلا أن يكون اعتقاد إمام المسجد أن الحجاج الذين سيجمعون العشاء إلى المغرب ليسوا من أهل التوحيد! أو أنهم –في أقل تقدير- أهل بدعة! فالأصل في الحجاج أن يكونوا مشركين أو مبتدعة!!

المهم أن مدة التوقف في أبيار علي استمرت حوالي ساعة ونصف الساعة، ثم انطلق بنا السائق باتجاه مكة المكرمة، توقف خلالها مرتين أخريين لاعتبارات تنظيم الحج، وكان التوقف الأول لمدة عشر دقائق، والثاني لمدة أربعين دقيقة.

وحين اقتربنا من مكة المكرمة بدأ الزحام الشديد والاختناق المروري، وعلمنا أن الجهة المسؤولة عن "الحملة" قد قسمت الركاب إلى ثلاث مجموعات: كل مجموعة تنزل في فندق، وكان الوصول إلى كل فندق –في هذا الزحام الشديد- ثم الوقوف عنده من أجل إنزال الأمتعة، والقيام بمراسيم الاستلام والتسليم مع إدارة الفندق.. كان يستغرق نحو ساعة كاملة. وكان حظنا أننا من حصة الفندق الأخير في منطقة "وقف بخش" وحين وصلنا إلى ذلكم الفندق لم يكن قد بقي إلى شروق الشمس أكثر من نصف ساعة! لذلك سارعنا، ونحن في بهو الفندق إلى الوضوء وأداء الصلاة قبل أن يفوت وقتها.

وهكذا استمرت رحلتنا الميمونة من الحادية عشرة قبل الظهر إلى الساعة السادسة والنصف من صباح اليوم التالي!!

وبعد شروق الشمس بدأت مشكلتنا مع إدارة الفندق التي أهملتنا في قاعة الانتظار، وكلما سألنا موظفاً من موظفي "الاستقبال" أو غيرهم حاول التنصل والتهرب، وبعد أن ظهر علينا الغضب، ونفد الصبر، وهددنا بالاتصال بهاتف شكاوى الحجاج تبرع أحد مسؤولي الفندق فنقلنا إلى مبنى مجاور. ولم يكن هذا المبنى مهيأ لنزول الحجاج أو المسافرين.

لقد كان المبنى بشكل الأول يعادل فندقاً من الدرجة الثالثة، أما في وضعه الراهن فلا يعادل خاناً من خانات الدواب من مستوى نجمة ونصف!.

الأسرّة معدنية، وعلى كل سرير فراش من غير وسادة ولا بطانية ولا شرشف. وليس للغرفة مفتاح حتى نطمئن على أمتعتنا إذا خرجنا منها، والمرافق الصحية قذرة ومهملة، وأراضيها غارقة بالماء الملوث!.

وبعد حوار وتوسل وجدال... وجدوا لنا غرفة صغيرة، هي الوحيدة في هذا الفندق التي لها مفتاح، فاتخذناها مستودعاً لأمتعتنا، نقفلها يوم التروية الذي يسبق يوم عرفة، وستليه أيام النحر والتشريق حيث نكون في منى.

ولقد كان يوم عرفة من أمتع الأيام. فيوضات روحية، ومجالس للذكر والتذكير، ورعاية كريمة من بعض أهل الخير من أصدقائنا وأحبابنا (لم نشاهد أحداً من المطوفين أو إدارة "الحملة" منذ أن رمونا في ذلك الفندق العظيم!).

وعند المساء اجتهد بعض أصدقائنا بأن نتأخر في عرفات حتى يخف زحام السيارات المتوجهة إلى المزدلفة ثم منى. وهكذا انتظرنا إلى ما بعد الساعة التاسعة ثم انطلقنا.

كانت الكيلو مترات الخمسة الأولى من الطريق قليلة الزحام، ثم بدأ الزحام ثم الاختناق. كانت السيارات تملأ الطريق بكامل عرضه، ولا تجد لها مسرباً، نمشي أمتاراً قليلة ثم نقف وقفات طويلة قد تصل إلى نصف الساعة! وهكذا لم نتمكن من الوصول إلى منى إلا بعد حوالي عشر ساعات، نعم عشر ساعات!!.

وكنت، والركاب معي في الباص، نتساءل:

- ألم يسمع أولو الأمر هنا بوجود شيء اسمه (المترو)؟!

- ألم يسبق لهم أن زاروا لندن وغيرها لقضاء إجازاتهم الصيفية ليروا كيف تحل مشكلة المواصلات، أم الذي يلفت انتباههم في عواصم أوربا أشياء أخرى؟! الأموال الهائلة التي تتدفق على المملكة من جيوب ملايين الحجاج... تصب في جيوب عشرات أو مئات من المطوفين والمنتفعين؟!

أليس من حق الحجاج أن يجدوا تيسيرات لأداء مناسكهم؟!

ألم يسأل أولو الأمر كيف تحل الدول الأوربية مثل هذه المشكلات، وعندهم مواسم قد لا تقل – من حيث عدد السياح والزوار- عن حجم موسم الحج؟!

بل قال أحد زملائي الحجاج: والله عيب عليهم! إذا لم يكونوا قادرين على حل هذه المشكلة فليوكلوها إلى شركة أوربية!!

كان من عناء هذا السفر الشاق بين عرفات ومنى أن وصلنا قبيل الشمس، فأدركنا صلاة الفجر في آخر وقته، ثم تنفسنا الصعداء حين حللنا مرة أخرى ضيوفاً على بعض أهل الخير في خيمة مرمية في منى، حيث المجتمع الإيماني الرائع الذي يضم مسلمين جاؤوا من كل فج عميق، يفرق بينهم اللون  واللسان، ويجمع بينهم الإيمان الذي ملأ القلب وفاض على اللسان والجوارح، وظهر في عروة وثقى تجعل من هؤلاء جميعاً أمة واحدة.

في تلك الخيام تحقق لنا القرب من مكان رمي الجمار، والماء الكثير للشرب والنظافة، والفراش الوثير.

ثم كانت المأساة التي سمع بها العالم، مأساة المئتين والخمسين حاجاً الذين ماتوا خنقاً ودهساً في أثناء رمي جمرة العقبة الكبرى. نعم هكذا ترخص النفس المؤمنة عند أولي الأمر، وهي غالية نفيسة عند بارئها.

وإذا كنا نسأل الله تعالى أن يتقبل هؤلاء الحجاج، الذين لقوا ربهم وهم في طاعته، شهداء... نطلق أسئلة أمام أصحاب الدين والضمير في كل أنحاء العالم:

- ألم يأن لأولي الأمر أن يتخذوا الإجراءات التنظيمية المناسبة لصيانة أرواح الحجاج وتوفير أسباب السلامة لهم؟ أم أنهم لا يعرفون سوى الإجراءات التي تمنع "المسلم الأجنبي!" من المكوث عندهم بما يخالف قوانينهم؟! أهو قدر هذه الأمة مع أولي الأمر هؤلاء أن يتسببوا كل سنة بقتل مئات الحجاج، مرة خنقاً في الأنفاق، ومرة حرقاً في خيام منى، ومرة دهساً بالأقدام عند الجمرات؟! ألا يرون من الجائز أن يتخذوا أسباب الوقاية قبل وقوع الكارثة، أم لعل اتخاذ تلك الأسباب هو من البدع الضّالة؟!.

يا مسلمون. أليس من حقكم أن تنعموا بأداء شعائركم من غير ابتزاز يمارسه عليكم أولو الأمر، ومن غير زهق لأرواحكم، ونهب لأموالكم، وسلب لراحتكم؟!!