رحلة إلى جمهورية جنوب أفريقيا

مصطفى محمد الطحان

رحلة إلى جمهورية جنوب أفريقيا

مصطفى محمد الطحان

تعتبر زيارة جنوب أفريقيا هدفاً للكثيرين وأنا منهم..

فقد سمعنا الكثير عن هذه الدولة.. عن التفرقة العنصرية التي مارسها البيض الذين لا يزيد عددهم عن أربعة ملايين نسمة جاءوا من إنكلترا وهولندا تحدوهم أطماعهم في الحصول على الماس والذهب والمعادن الثمينة.. ومن أجل الاستئثار بهذه الثروات.. فقد طبقوا سياسة عزل الأغلبية من سكان البلاد الأصليين في مناطق تتسم بالفقر والجدب، وفرضوا عليهم المعيشة داخل هذه المعازل لا يغادرونها إلا بإذن من السلطات.

وسمعنا كذلك عن رأس الرجاء الصالح الذي عُدّ اكتشافه على يد فاسكودي غاما فتحاً كبيراً في عالم الكشوف الجغرافية.

لهذه الأسباب وأسباب أخرى شددت الرحال مع الصديق د. طارق الطوخي.. لنقضي أياماً في هذه الربوع.. نستكشف الأوضاع، ونطلع عن كثب على أوضاع المسلمين الذين عانى أكثرهم من نظام الفصل العنصري البغيض.

الأرض والسكان

تقع جمهورية جنوب أفريقيا في أقصى الطرف الجنوبي من القارة الأفريقية. تحدها ناميبيا من الشمال الغربي، وبتسوانيا وزمبابوي من الشمال، وموزانبيق من الشمال الشرقي، وباقي حدودها على المحيطين الأطلسي والهندي، مساحتها 1.3 مليون كم2.

معظم أرض جنوب أفريقيا هضبة يزيد ارتفاعها على ألف متر، تشكل وسط البلاد، يحيط بها من الجنوب والشرق نطاق جبلي يفصل بين الهضبة في الداخل والسهول الساحلية.

أما الجبال فهي ترتفع شاهقة برؤوس مستديرة كأنها رأس أسد رابض يحرس البحر، وما بين القلة الشاهقة والأخرى بعدها تمتد سلسلة جبال أقل ارتفاعاً تتخللها بعض الوديان التي تلمع حبال الماء فيها نازلة نحو المحيط فتزيد المنظر إبداعاً وجمالاً.

المنظر يحتاج إلى يراع رسّام يلوّن بريشته هذا المنظر الذي لا أظنه يتكرر كثيراً.. أكثر مما يحتاج إلى كلمات كاتب قد تقصر كلماته عن إدراك العظمة والجمال.

أهم المحاصيل الزراعية الذرة والقمح والسكر ودوار الشمس والقطن والفواكه والخضار بشكل خاص؛ إذ تعد جنوب إفريقيا سابع مصدّر للإنتاج الزراعي في العالم، وكذلك أخشاب البناء والأخشاب المخصصة لصناعة الورق. فيها مناجم الذهب الذي اكتشف في عام 1871م في مقاطعة ترانسفال، والذهب في جنوب إفريقيا يمثل 40% من الاحتياطي العالمي.

وهناك أيضًا 66 منجمًا للألماس يشكل 24% من الاحتياطي العالمي، علاوةً على مناجم الفحم.

أما السكان فقرابة الخمسين مليون نسمة، نحو 75% منهم من السود الذين ينتمون إلى عدد من القبائل، وتعدّ قبائل الزولو أكبر قبائل السود، تليها قبيلة خوسا التي ينتمي إليها الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا.

وهناك الملونون، الذين هم خليط نتج عن تزاوج بين الأفارقة السود والآسيويين مع الأوروبيين الأوائل، وهناك الهنود الذين جاءوا مع قوات الاحتلال البريطانية.

ولجنوب أفريقيا ثلاث عواصم.. اقتصادية في جوهانسبرغ.. وتشريعية في كاب تاون.. وإدارية في بريتوريا..

أهم اللغات هي: الأفريكانية (ويتحدثها نحو 5.5 مليون نسمة)، والكوهسا (ويتحدثها نحو 6.5 مليون نسمة)، أما الإنجليزية فهي لغة السواد الأعظم من السكان، وهناك أيضًا لغة الزولو (ويتحدثها نحو8.25 مليون نسمة)، أما اللغات الرسمية في البلاد فهي 12 لغة مختلفة.

الديانة

68%  من السكان مسيحيون، ويتوزع الباقون على مسلمين وهندوس وبوذيين ووثنيين، أما اليهود فعددهم قليل لا يتجاوز الـ60 ألفاً.. ومع ذلك فمعظم مصالح البلاد مرتبطة بهم.

تبلغ نسبة المسلمين 5% من العدد الكلي للسكان، وتنقسم الجالية الإسلامية إلى ثلاث فئات عرقية, أكبرها عددًا وأقدمها وجودًا الفئة المنحدرة من أصول إندونيسية وماليزية، وتتركز هذه الفئة في مدينة الكاب.

والفئة الثانية: هي الفئة المنحدرة من أصول هندية؛ وتتركز أساسًا في مقاطعة الناتال، وخصوصًا حول عاصمتها. ويشكل المسلمون نحو ربع الجالية الهندية.

الفئة الثالثة: وهي الأقل عددًا، وتتألف من السود والملوَّنين؛ سواء الذين اعتنقوا الإسلام من سكان البلد الأصليين أو المسلمين الذين قدموا من إفريقيا الوسطى، وعمومًا فهم الطبقة الفقيرة من المسلمين.

وصول الإسلام إلى جنوب إفريقيا

في عام 1652م (1062هـ) بدأ المستعمرون الهولنديون يفرضون سيطرتهم على جزر اندونيسيا، وشبه جزيرة الملايو، وقاوم المسلمون في هذه المناطق الاحتلال الهولندي، وقبض الهولنديون على المسلمين الذين أعلنوا الثورة على الاحتلال، ورحلوهم إلى جنوب أفريقيا، وتلا ذلك قدوم مناضلين مسلمين جدد في الأعوام التالية كان من بينهم الشيخ يوسف شقيق ملك جاوا، وزعيم المقاومة ضد الاحتلال الهولندي لجزر الهند الشرقية، جاء به الهولنديون هو و49 من المهاجرين المسلمين كسجناء إلى جنوب أفريقيا (عام 1105هـ) فكان هؤلاء هم طليعة المسلمين في جنوب أفريقيا.

وفي القرن التاسع عشر حلّ الاحتلال البريطاني مكان الاحتلال الهولندي، فاستقدم البريطانيون العمال من شبه القارة الهندية، وكان بينهم عدد كبير من المسلمين. وأخذ المسلمون يتزايدون.. وبدأ الإسلام ينتشر بين المواطنين الأفارقة في المناطق التي خصصها البيض لعزل السود.. والمسلمون محترمون في جنوب أفريقيا.. فقد كانوا مع نلسون مانديلا يداً بيد في محاربة التمييز العنصري.

المساجد في جنوب أفريقيا

في جنوب أفريقيا أعداد كبيرة من المساجد وخاصة في مناطق المسلمين الهنود.. ولقد ألحقت في عدد كبير من هذه المساجد مدارس لتحفيظ القرآن.. وهناك عدد لا بأس به من الكليات الإسلامية تعطي درجة البكالوريوس في الشريعة ملحقة بالجمعيات الإسلامية أو مجلس القضاء الإسلامي.

وهناك جمعيات إسلامية كثيرة منتشرة في عرض البلاد وطولها وخاصة في منطقة دربان وكاب تاون وجوهانسبرغ منها حركة الشباب المسلم وجماعة التبليغ ومجلس القضاء الإسلامي..

التمييز العنصري

التميز العنصري على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الطبقة موجود من أقدم الأزمنة.. ولكن التمييز العنصري الذي مارسه المستعمر الأبيض في جنوب أفريقيا من أشد أنواع التمييز.. فللأفارقة معازلهم وللملونين معازلهم، وللآسيويين معازلهم، والأبيض وحده هو الإنسان الحر الطليق الذي يستمتع بخيرات البلد ويستعبد الآخرين.

والإسلام يمقت هذه العنصرية ويعتبرها من اكبر الإهانات التي تلحق بإنسانية الإنسان )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(.

الأمر الذي جعل المسلمين يقفون ضد هذا التمييز.. وكان المناضل نلسن منديلا يثق بهم ويتصل بهم.. ويقودان معاً معركة التحرير ضد التمييز العنصري.

رأس الرجاء الصالح

إذا قابلت المحيط الأطلسي في المسافة الممتدة من أعلى أفريقيا إلى أسفلها وجدته صاخباً ثائراً إلا في كيب تاون.. فهو هادئ وادع ممتد كأنه بحيرة هادئة.. ومثل ذلك المحيط الهندي.. لماذا هدأ المحيط وتكسرت الأمواج البيضاء الصغيرة تزين زرقة الماء الهادئ.. السكان يقولون لأن المياه الصاخبة تدخل في الخليج فتهدأ.. وبعضهم يقول: بل الصخب ينتهي ويرق وهو يسبح بحمد الخالق في لوحة الجمال التي لا نظير لها.. وكلا الرأيين مقبول.

أصر مضيفنا أن ينقلنا بسيارته المريحة الأنيقة على ساحل البحر الأطلسي على (كامبس بي).. وهي منطقة مزروعة بفلل البيض الذين جاءوا فاستعمروا الأرض.. واسترقوا الشعب.. وسرقوا هذه المناطق الجميلة من أصحابها.. مررنا بتمثال فاسكو دي غاما الذي نصبوه مرتفعاً عند مدخل رأس الرجاء الصالح ليذكروا الناس بهذا الاكتشاف الفريد الذي غيّر استراتيجيات الدول..

فما هي قصة هذا الاكتشاف؟

بعد تمكن البرتغاليين والأسبان من القضاء على دولة الأندلس.. فقتلوا الأحياء في ما سمي محاكم التفتيش.. ونبشوا القبور فأحرقوا العظام.. ثم انساحوا في البحر الأطلسي يطوقون العالم الإسلامي من أطرافه..

اعترضتهم منطقة الهدوء الاستوائي، حيث تهدأ الرياح في المنطقة الاستوائية ولا تتحرك السفن التي تسير على الشراع وهي المعروفة فقط آنذاك، ولا يمكن التنقل إلا في الربيع شمالاً مع حركة الشمس الظاهرة، وفي الخريف جنوباً مع تلك الحركة. كان البرتغاليون يستغربون من المسلمين، كيف يجوبون البحار فلا يعترضهم عارض.. فأرسلوا مجموعة من اليهود يتقنون اللغة العربية ويدّعون الإسلام إلى مصر.. فتقربوا من مواقع السلطة، وتعرفوا على أوضاع البلاد الداخلية، وسرقوا خرائط البحار، والمعلومات عن الملاحة، وكيفية التخلص من منطقة الهدوء الاستوائي التي بقيت لغزاً استعصى عليهم حله..

وبعد حصول البرتغاليين على هذه المعلومات.. أرسلوا بعثة بحرية برئاسة فاسكودي غاما فوصل إلى رأس الرجاء الصالح عام (903هـ - 1497م) والتف حول أفريقيا، وسارت سفنه مع تيار موزانبيق شمالاً، وطلع على المراكز الإسلامية في شرق القارة الأفريقية، فدخل زنجبار عام (907هـ - 1503م) واستولى على مدينة كيلوا عام (911هـ - 1505م)، والتقى في مالندي بالرحالة المسلم شهاب الدين احمد بن ماجد بن أبي الركائب النجدي الذي ينحدر نسبه من بدو شمال الجزيرة العربية (رأس الخيمة) الذي دله على طريق الهند.. لقد كانت الروح الصليبية واضحة في تصرفات البرتغاليين.. فقد ضرب فاسكودي غاما كالكوتا في الهند بالقنابل بعد أن علم أن فيها مسلمين، وأغرق سفينة في خليج عمان كانت تنقل حجاجاً من الهند، أعدمهم جميعاً بعد أن فعل بهم الأفاعيل، وأحرق مجموعة من المراكب الهندية كانت تحمل الأرز وقطع أيدي وآذان وأنوف بحارتها المسلمين.

وكانت في مدينة كيلوا في شرق أفريقيا ثلاثمائة مسجد، دُمّر معظمها على أيدي البرتغاليين. وأعلن البرتغاليون بعد انتصارهم على المماليك في معركة ديو البحرية أنهم سيهدون الاماكن المقدسة الإسلامية في مكة والمدينة، وأنهم سيزيلون معها آخر آثار الإسلام.

وبعد فاسكودي غاما خلفه البوكرك والذي كان يحلم:

·بتحويل مياه نهر النيل إلى البحر الأحمر ليحرم مصر من ري أرضها.

·وأن يهدم المدينة المنورة، وينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي هجومه على مدينة مالاقا في شبه جزيرة الملايو (917هـ - 1511م) قال: إن الخدمة الكبرى التي سنقدمها للرب هي طرد المسلمين من هذه البلاد.

ولقد هزّ أوروبا الطرب وأقاموا قداس شكر عندما استولى البرتغاليون على مالاقا.

كيف يتقابل البحران

ما زلنا في الطريق المثير إلى رأس القمة التي تشرف على لقاء البحرين الكبيرين المحيط الأطلسي أو بحر الظلمات كما كان يسميه المسلمون يوم كانت بلادهم مضاءة بنور العلم والمعرفة.. وكان الظلام يلفّ الآخرين.. والمحيط الهندي الذي كان وما زال الطريق الذي يبحث عنه الاستعمار الغربي ابتداءً من الإسبان والبرتغاليين وبريطانيا بعدهم وأمريكا اليوم.

جميع الأفكار تقف أمامك، وتسألك. إلى أين أيها المسلم الذي ما زال يأمل باستعادة مجد الإسلام؟

وصلنا إلى المنطقة التي تطل على رأس الرجاء الصالح.

الاسم من أسمائنا.. والهيمنة اليوم لهم..

الصخرة البيضاء التي تفصل بين البحرين..

الجبل المتقدم الذي كانت تتحطم عليه السفن، قبل المعلومات التي زود بها ابن ماجد البحار المسلم، الأسطول البرتغالي.

وأخيراً نقطة اللقاء..

وعندما تلتقي البحار وتتصالح.. يعيش كل شيء بأمان وسلام.. الغزلان تتحرك بارتياح، والقرود لا يعكر صفوها أحد حتى وهي تمتطي ظهر سيارتك، والطيور التي تتنافر مع الإنسان.. تجدها أليفة كأنها تريد مصافحته فقد حلّ الوئام بين الجميع.. من هذا الموقع المرتفع تركب التلفريك ليحملك إلى أعلى.. إلى النقطة التي تشرف على هذا المشهد البديع عندما يلتقي فيه التاريخ والجغرافيا.

اتحاد الطلبة المسلمين

كان المخيم الذي أقامه اتحاد طلبة المسلمين في كاب تاون في بيوت متواضعة على سفح أحد هذه الجبال.. الصلاة في العراء.. والرياضة في الغابة.. والمحاضرات والدورات التدريبية في قاعة متواضعة.. النهار مشمش جميل.. والليل تعصف فيه الريح فتشكل مع أشجار الغابة موسيقى صاخبة مفزعة..

قراءة القرآن والصلوات في الأسحار.. والحب الندي المتصاعد من القلوب، والأرض المرتفعة القريبة من السماء.. كل ذلك همسات ربانية يقبلها الرحمن الذي تعهد بأن يغفر الذنوب جميعاً.

هذه هي رحلتنا إلى جنوب أفريقيا..

تذكرك بالتاريخ الذي ينبغي أن يعيد نفسه..

وعن المجد العظيم الذي لا يمكن أن يستقيم إلا في ظلال عظمة الإسلام..

وعن إنسانية الإنسان التي امتهنت.. ولن ترفع رأسها إلا بالإسلام..

ذهبنا إلى جنوب أفريقيا.. نتعرف على البلاد.. وعدنا منها ونحن نحمل طموحات تنوء بها كواهل العاملين.