في بغداد عشية العدوان

في بغداد عشية العدوان:

وتكسرت النصال على النصال!

فاضل السباعي

عندما تنادى نفر من المثقفين بدمشق للذهاب إلى بغداد وطبول الحرب تقرع، وجدتني واحداً بين الكتاب والفنانين الذين يصعدون وهم في "ساحة العباسيين" إلى حافلة تنتظرهم على كتف الملعب الرياضي المشهور.

كنا أربعين عدداً. ولما كان بيننا كثير من الشبان، فقد كان من المتوقع أن يمرحوا- والحافلة تقطع بنا ليــلاً الفيافي، في بادية الشام وما يليها من بوادي العراق، وبيننا فنانون وفنانات- أن ينشدوا ولو ذلك النشيد الذي كان قد ألفه ولحنه الوطنيون ممن اعتقلتهم سلطات الانتداب الفرنسي عام 1924 في جزيرة "أرواد" فعم النشيد وانتشر، بكلماته الحزينة لكن غير اليائسة، وبلحنه الشجي:

يا ظلام السجن خَيِّمْ    إننا نهوى الظلامـا

ليس بعد السجن إلا    فجر مجـدٍ يتسامى

إلا أنّ ما خيم علينا، طوال الطريق، كان الصمت المطبق!

استغرقت رحلتنا إلى بغداد السلام، في الحافلة العراقية، ثلاث عشرة ساعة. كان ذلك مساء الأربعاء الثاني عشر من آذار (مارس). وفي ضحى اليوم التالي وصلنا "عاصمة العباسيين".

وما إن دخلت الغرفة التي خصوني بها في الفندق، حتى تناولت سماعة الهاتف أطلب الحديث مع دمشق. فقالت "مأمورة البدالة": "تتدلل!" (ومعناها: تكرم، حاضر!). ولدمشق قلت إن الرحلة كانت طيبة وأن كل شيء على ما يرام. وبعد انتهاء المكالمة اتصلت بي مأمورة البدالة لتقول لي ممازحة: "أنت سوري، وتكلمت دقيقتين؟ كنت أتوقع أن تتكلم ساعتين!". كان اسمها جديداً على معرفتي: "تفاؤل"... وتفاءلت.

كلمة نريد أن نقولها لهم:

لقد جئنا لنقول لإخوتنا، وطبول الحرب ما تزال تقرعها أمريكا القرن الحادي والعشرين، كلمة موجزة أشد الإيجاز: نحن معكم!

مدينة بغداد لمن لا يعرفها- وأنا واحد منهم- تندر فيها البنايات ذات الطوابق، والأكثر ندرة تلك العالية جداً التي نسميها "البرجيّة". إنها مدينة تمتد أفقياً، امتداد السهول على مدى النظر. وهكذا استغرق وصولنا من تخوم المدينة حتى قلبها "ساحة الفردوس"، وقتاً خلناه دهراً، نحن الذين كان معظمنا يزورها لأول مرة، بكل ما تكتنزه قلوبهم من الحب والشوق والغيرة القومية.

كان الترحيب بنا حاراً. أكابر القوم في استقبالنا. وقد سبقتنا إلى الفندق حافلة، وصحبتنا أخرى، ولحقت بنا حافلات. والفندق يعج بـ "العروبيين" الغيارى، يتخاطبون بلهجات تنتمي إلى أقطار شتى: تجمع دعانا إليه هذا الزمن الكريه... ولكم وددنا لو أننا جئنا للمشاركة في مؤتمر شعري، أدبي فني، علمي!

كانت أفكارنا، والحافلة تسري بنا ليلاً، تتركز حول الحرب التي يتوقع أن تشن على العراق، فنحس لذلك خوفاً وإشفاقاً على إخوتنا الذين سوف نلتقي بهم. ولكن ما رأيناه، بعد الترحيب الحار، أهبة واستعداد، ولم نلمس فيهم شيئاً من خوف أو فزع أو هلع. ذلك أن هذه المشاعر تنتاب المحبين للعراق المقيمين بعيداً عنه، المشفقين على شعبه من ضربة أخرى تنزل به... وأما هم، شعب العراق، فقد تكسرت النصال على النصال!

هنا تمضي الحياة عادية: حكايا وسوالف، ضحك وقهقهات، والناس في محالهم يمارسون البيع والأعمال اليومية، وكأن لا تهديد ولا وعيد.

وفي الفندق، مساء وصولنا (وكان ا لخميس يوم عاشوراء)، سمعنا زغاريد: عروسان في كامل الزينة والبهرج يدخلان، وبعد دقائق دخل عروسان آخران. لاحظت العروس بيضاء البشرة عسلية العينين، فتراءى لي أني أمازح صديقي العراقي: أتراها "شامية؟"، وما كان أسرع رده: »بل إنها "عراقية!". وضحكنا.

أجل، كان كل شيء في بغداد يسير على ما يرام. ولكن بدت لي بغداد أشبه بسيدة عزيزة قد جار عليها الزمان فسلبها قليلاً أو كثيراً مما يخصها من العز والسؤود، لكنها ظلت رافعة الرأس شامخة، تذكر الماضي المجيد وترفل في نعمائه.

... وجفت الدموع:

عندما زرنا أحد المستشفيات، التي بنيت ارتجالاً للحاجة الماسة كي تضم أطفالاً ولدوا مشوهين أو مسرطنين بسبب الإشعاعات المنبثة من القنابل المشبعة باليورانيوم المنضب التي نثرها الأمريكيون في أرجاء العراق في حرب سابقة، ورأينا كل أم في سرير تحتضن ولدها... هنا لم يستطع كثير منا أن يحبسوا دموعاً ترقرقت في العيون.

وصحبونا إلى ملجأ "العامرية"... وما أدراك ما ملجأ العامرية!

كانت الحكومة قد شيدت ملاجئ في بغداد وغيرها، وفق أفضل المواصفات المستحدثة، أشرفت على بنائها شركة غربية متخصصة في هذا النوع من البناء، الذي يتحمل الضربات الصاروخية والكيماوية والذرية، يبلغ سمك سقفه متراً ونصف المتر، قد صب من مادة "الكونكريت"، ويمكنه أن يستوعب في طابقيه الاثنين ألف لاجئ في ساعات القصف، تؤمن لهم الخدمات كلها.

تقول أدق الروايات أن الطائرات الأمريكية ظلت تحوم ثلاثة أيام فوق هذا الملجأ، وأحياناً بارتفاع منخفض، لتصويره. فهي تريد أن "تجرب" فيه مفعول صواريخ (من نوع جي بي يو/27) قد صممت لكي تخرق الأهداف الكونكريتية.

في الليلة الحزينة (12-13 شباط/ فبراير 1991) أطلقت طائرة صاروخاً نفذ من "فتحة التهوية" الوحيدة في سقف الملجأ، وألحق به صاروخ آخر، فاحترق المكان، وارتفعت فيه الحرارة إلى آلاف الدرجات المئوية، وانعجنت أجساد الملتجئين إليه، من أطفال ونساء وشيوخ، واختلطت بنِثار الإسمنت وبالحديد المنصهر، حتى أصبح من الصعب التعرف على أصحابها أو انتزاع البقية من أشلائهم في هذا الخليط العجيب!

قرأنا أسماء الضحايا في لوائح معلقة في جانب من الطابق الذي نحن فيه، العلوي: اسم رب الأسرة (ومعظم الرجال كانوا متغيبين تلك الليلة في مهام)، تندرج تحته أسماء الضحايا من أفراد الأسرة، الزوجة والأطفال، مع صورة لكل منهم. وقد بلغ عدد هؤلاء الضحايا (407) أربعمئة وسبعة شهداء. مررنا بقبورهم الطاهرة، التي انتظمت جانباً من فناء الملجأ.

ومع هذا المشهد، لم أر عيناً منا تدمع... كانت قد جفت الدموع!

لم ينته الحديث عن العامرية. فأمام الباب رأينا جماعة من شرفاء العالم، يتكلمون الإسبانية، وهم يهتفون ضد الحرب. كانوا نساءً ورجالاً من مختلف الأعمار، يرفعون اللافتات، بلغتهم بالإنكليزية والعربية، تندد بالحرب العدوانية المتوقعة. وبالعربية أمامنا هتفوا: "لا للحرب... لا للحرب"! لقد جاءوا من بلادهم كما جاء ويجيء غيرهم، لينتصروا لشعب، يعرفون أنه مبدع للحضارات، يريد غيلان اليوم أن يغتصبوا أرضه وينتهبوا خيراتها وكنوزها.

هل يقصفون "الحياة البغدادية"؟

قبل هذا أو بعده زرنا "المتحف البغدادي": بيت عتيق عريق، أقيمت فيه تماثيل، تروي حكاية الحياة البغدادية في الماضي القريب، من حفلة زفاف إلى ختان صبي، مروراً بغرف المعيشة والنوم وسهرات النساء واجتماعات الرجال... تماثيل تملأ الغرف في طابقين فسيحين، أبدعها فنانو بغداد المعاصرون، وهم ألبسوها الشعبي المزركش، وسجلوا في ذلك الأغنيات المناسبة يبثونها في كل غرفة، نسمعها ونحن في تجوالنا، حياة زاخرة "جمدوها" لنا في هذه الأشكال الفنية قبل أن يطويها الزمن ويغيبها النسيان.

وتساءلنا: ترى هل تطالها غدا الصواريخ التي سموها "ذكية"؟ قلنا: إن من يقصف "العامرية" مجرباً سلاحاً فتاكاً في نساء وأطفال ورضع، لا يظن أحد أنه يستثني هذا الفن الشعبي البديع!

ووقفت، منتصف ليل، وراء زجاج النافذة في الغرفة (902)، أتملى النظر من جامع "14 رمضان"، ومن حي الكرادة الذي يليه، ومن عمائر بغداد الممتدة شرقاً، متلألئة بالأنوار وبالفخار... وتساءلت، ثانية وعاشرة، عما إذا كانت قنابلهم "الغبية" لن تخدش هذا الوجه الجميل الذي يرفل بالمجد التليد؟

جدّتنا "شهرزاد"!

سجل الإعلاميون معنا، ونحن في الفندق، الأحاديث للصحافة والإذاعة والتلفزيون بقنواته: "حمدان" و"عز الدين" و"فارس" و"ميشيل" و"عبد العزيز" و"خيري" و"محمد علي"... "ما رأيكم.....؟"، "رأينا"...

وفي استديو الفضائية التمست منهم أن يديروا الحديث معي حول الأدب خاصة. سألتني الإعلامية "أطوار" (اسم أسمعه أيضا لأول مرة) عما إذا كانت الرواية في تراجع أمام الدرامة التلفزيونية؟ فأجبت:

إذا كان قد قيل منذ القديم، إن الشعر "ديوان العرب"، فإن الرواية هي "ديوان العرب" اليوم. ولتذكري، يا أطوار، أن حب الحكي هو من أحلى ملاذّ الإنسان الفنية، فالطفل منذ يعي يلتصق بجدته مستمعاً ومستمتعاً بحكاياتها الخرافية الجميلة. وأعتقد أننا، نحن أمة العرب، أفضل من حكى وقص وروى، وعنواننا جدتنا "شهرزاد"، هذه التي كان الحكي عندها يساوي الحياة، لأنها لم تحك، إن لم تبدع في حكيها وقصها، فإنه ينتظرها سيف "شهريار" في الصباح (أو كلاما قلته من هذا القبيل).

"أنا وابن عمي..."!

لم نجد عند من التقينا بهم في بغداد، إلا الروح المعنوية العالية، وإلا الاستعداد للحرب والتصدي للعدوان المتوقع. وربما كان هذا لا يبنى عن الحقيقة كاملة، فالذين قابلناهم كانوا غالباً من ذوي السلطان، والذين التقيناهم في تجوالنا كانوا يلحظون أننا جئنا إلى بلدهم نصرة لهم، فقد يظنون أننا من ذوي السلطان!

ولكني أحب أن أروي هذه السالفة، فأتحدث عما كان بين أحد المواطنين في بغداد، في شارع المتنبي (حيث تباع على أرصفته الكتب التي يخرجها أصحابها من مكتباتهم تحت وطأة الحاجة!)، وبين ثلاثة من زملاء الرحلة. لقد تصدى لهم هذا "البغدادي" ليحدثهم عن معاناته وأسرته وأبناء شعبه: رواتب وأجور لا تسد الرمق! ويوم تعين عليه أن يجري عملية جراحية في القلب، تعاون أهله في جمع تكاليفها!

سأله الثلاثة إن كان من مؤيدي النظام، فأجاب بالنفي. ثم سألوه إن كان يؤيد تغيير النظام في بلده بقوة من أمريكا، فانتفض يقول: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". هنا ود أحدهم أن "يهدي" هذا الشجاع هدية ما، فوضع ذراعه على كتفه وانتحى به وقال: "أنا مثل أخيك، إذا سمحت لنا أن نقدم لك...". فقاطعه "صاحب القلب المفتوح" قائلاً: "السلام عليكم"! ومضى.

لقد كان هذا البغدادي، الذي لم يدع الحاجة تنال من عزته مثقال ذرة، يحمل "رسالة"، أراد أن يبلغها لبعض أشقائه العرب. وقد وصلت الرسالة. ومع وصولها كانت دموع تترقرق في أعين السوريين الثلاثة، وفي عيني كاتب السطور الآن، وفي أعين أشقائه العرب الذين يقرؤون هذه الكلمات!

السؤال الآن: هل يقهر شعب فيه أمثال هذا الرجل؟ الجواب: روح معنوية عالية... ولكن أليست صواريخ "بوش" أعلى؟

إلا أنه مع هذه الروح العالية، لا يظن كثير من الناس أن إقامة الأمريكان في العراق ستكون نزهة عسكرية!

إذا ما وقع عدوان أو احتلال، فإن العراقيين، بمن فيهم ذوو القلوب المفتوحة، لن يجعلوا أيام المحتلين مريحة. ولعل لهم القدوة فيما نراه اليوم من مقاومة الفلسطينيين لجند إسرائيل.

أسئلة ملتبسة:

- أتراها أمريكا، التي تتجبر وتطغى، تريد حقاً الديموقراطية لشعب يحكمه حاكم مستبد، أم أنها تريد شيئاً آخر مختلفاً جداً؟ وأي موقف كان لها من الحاكم قبل عشرين سنة أو ثلاثين؟ وما التفسير لصمتها على الأنظمة العربية وغير العربية التي تشاكل النظام العراقي على نحو أو آخر؟

- أهي صادقة في أهدافها الديمقراطية المعلنة؟ أو هل تمتلك أهدافها أي قدر من الصدقية والإنسانية، وهي التي حرصت على تجويع شعب وحرمانه من ضرورات الحياة على مدى سنوات وسنوات؟

- أيضاً... إنها هي التي سببت لجيل في العراق، أو لجيلين والمقدر لعشرة أجيال أو مئة، أن يولد كثير من الأطفال فيها مشوهين أو مسرطنين.

- وأيضاً وأيضاً... أمريكا هي التي استهدفت ملجأ "العامرية" في بغداد. وما كان ضربها الملجأ إلا تجريباً لصاروخ أرادوه أن يخترق السقف المصبوب من مادة "الكونكريت" القوية المقاومة... وحقق تجريبهم النجاح... فمرحى لهم!

لقد جرب الأمريكي القتل في هؤلاء لأنهم في رأيه ليسوا من بني البشر... فكيف تزعم أمريكا أنها تريد الديمقراطية لمن ليسوا بشراً؟

إن التغيير الذي تنشده الشعوب العربية، أولى بها أن تلتمسه بوسائلها الخاصة، ولعل من هذه الوسائل مراجعة الأنظمة لنفسها وتراجعها من ثم عما هي فيه رحمة بالعباد، لا أن تأتينا دولة أجنبية متغطرسة تدمر البلد وبنيته التحتية والفوقية، زاعمة أنها تريد تحقيق الديمقراطية لشعبه، وإنما هي تريد في الحقيقة أن تضع يدها على البلد، في سابقة دولية خطيرة في مطلع القرن الحادي والعشرين، وأن تدمر القوة الضاربة الباقية في الساحة العربية بعد التحييد الذي نرى، حتى تبقى ربيبتها إسرائيل هي القوة الضاربة الوحيدة في هذه البقعة من العالم.

إنّ بغداد، إنّ العراق، إنّ وقعت الواقعة، فإن العقلاء لن يظنوا أنه سيكون في موقف المدافع عن نفسه، بل عن العرب وعن المسلمين، وعن حرية العالم الثالث... وهل أقول: وعن أوروبة نفسها أمام طغيان المادية الأمريكية؟

وماذا بعد؟

قضينا في بغداد ليلتين وثلاثة نُهُرٍ. كان منا من يرغب في المغادرة مساء السبت، وآخرون في الصباح التالي. فأخذنا بالتصويت (فنحن ديمقراطيون من دون أن يعلمنا ذاك الغريب)... وانطلقت بنا الحافلة قبيل منتصف الليل.

الأصوات، في الحافلة، ترتفع، معبرة عن بهجة من نوع ما. أترانا نغادر بغداد ونحن أكثر اطمئناناً عليها؟

وتحولت البهجة، بعد الإقلاع، إلى فرح ولَّد غناءً وغناء جماعياً. هم لم ينشدوا "يا ظلام السجن خيم..."، بل غنوا "وطني حبيبي وطني الأكبر..."، اشترك الجميع في الغناء والأصوات النسائية خاصة. ثم ما لبث الطرب أن سيطر، فـ "تسلطنوا"، وارتفع صوت إحداهن يؤدي أغنية عاطفية، كانت ترددها على مسامعنا قبل خمسين عاماً مطربة غاربة اسمها "نهوند": "الفجر لما يطلّ...".

وشيئاً فشيئاً خفت الغناء، وتهالكت الأصوات. كان النعاس قد غلب. والسائق من ناحيته أطفأ الأنوار، فنشر العتمة والنوم. والحافلة تسري برشاقة في عمق البادية المترامية الأطراف، على طريق قديم قديم، عبدته الحضارة الحديثة، فجعلت الانسياب فوقه أشبه بالانزلاق على سطح ماء.

ووجدنا أنفسنا في ساحة العباسيين.

ومع ارتفاع شمس النهار كان قد ارتفع في صدورنا خوف من صواريخ تهب على العراق من جنوب وشمال، يوجّهها حاكم غريب في الغرب، يريد أن يعيد تشكيل مهد الحضارات وفق هواه المجنون.