بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم 42

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

الحلقة (42)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في وست هافن والطابع الأخلاقي في التشريع 

السبت  8 من ذي الحجة 1402  (25  سبتمبر   1982)

مع عدد كبير من الإخوة تناولنا عشاء جماعيا ، وبعد صلاة العشاء بدأت محاضرتي وعنوانها :  ( الطوابع الأخلاقية في التشريع الإسلامي ) وقد دارت المحاضرة حول المحاور الآتية :

1-  أخلاقية التشريع الإسلامي بصفة عامة ( عبادات ــ معاملات ــ حدود ).

2-  الأعمال بالنيات : مقام النية في العمل هو مقام الروح من الجسد .

3-  الرجل يقاتل شجاعة ، والرجل يقاتل حمية ، والرجل يقاتل رياء : أيها في سبيل الله ؟.

4-  متى يكون العمل صالحا في ظاهره ، ولكنه عكس ذلك بالنية ...أ يعاقب صاحبه عليه ؟.

5-  حكم الشرع فيمن صلحت نيته ، وأدى عمله إلى نتيجة غالطة .

6-  النية المصاحبة لعمل المؤمن :

ــ طمعا في الجنة وخوفا من النار . .

    توسيع الرزق . .

ــ حبا في الله ... رجاء وجهه ، لا خوفا من النار ، ولا طمعا في الجنة ،  

7-  قياس العمل بميزان النية .

8-  تطبيقات عملية ( البصمات الأخلاقية في التشريعات الإسلامية ) :

أولا : هادفية العبادات :

ــ أركان الإسلام م

فالصلاة مثلا عبرعنها بالإقامة لا بالأداء : أقيموا الصلاة ... لا أدوا الصلاة .

وربطها الإسلام بالصبر كما نرى في قوله تعالى ى " وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ " ( البقرة 45 ) .

 كما قرنها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما نرى في قوله تعالى " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " ( العنكبوت 45)

وقرنها بطمأنينة النفس ، كما نرى في قوله تعالى " الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ " (الرعد 28 )" . وقوله تعالى "  إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) المعارج19ـ23

***********

والصوم في الإسلام جُـنة ( أي وقاية وحماية للإنسان من الشرور) ، كما أنه يحرر الإنسان من أسر العادة . وعلى المسلم أن يتخلق بأخلاق الصائم : عف اللسان ، محسنا إلى غيره .

وفي المعاملات : لا غبن ، ولا ظلم ، ولا كسب من حرام : يقول تعالى : "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة 275) البقرة " . ويقول تعالى " وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (النساء 2)  النساء .

***********

والحدود محكومة بالعدل والتسوية بين الناس بصرف النظر عن القرابة والمراكز الاجتماعية ، حتى يطمئن الناس إلى الدستور الذي يحكمهم ، وقد

غضب النبي صلى الله عليه وسلم  على أسامة بن زيد حينما جاء ليشفع في امرأة شريفة سرقت ، واسمها فاطمة المخزومية ، وقال : ما هذا يا أسامة ؟!! أجئت تشفع في حد من حدود الله ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها .

ومن القواعد الإسلامية في هذا المجال قاعدة درء الحدود بالشبهات ، وقاعدة لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة .

**********

أما العلاقات الدولية فتقوم على الإنسانية والرحمة والعدل . فنقرأ قوله تعالى "    وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ  (التوبة6 )" . وقوله تعالى " .... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ "(المائدة2). وقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة8)

**********

وفي نهاية المحاضرة تلقيت أسئلة الإخوة ، وكانت تدل على وعي حقيقي

وتطلع إلى المعرفة ، ودعوتهم جميعا إلى تصفية النفوس ، والمحبة والإخاء ، والتعاون استجابة لقوله تعالى " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الحجرات10) . وقوله تعالى " ....  وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"  (المائدة2) .

وأدعو الله أن يوثق رابطتنا ، وأن يديم ودنا، وأن يهدينا سبلنا ، وأن يملأنا بنوره الذي لايخبو، ويشرح صدورنا بفيض الإيمان به ، وجميل التوكل عليه .

 إنه نعم المولى ونعم النصير.

السبت  8 من ذي الحجة 1402  (25  سبتمبر   1982)

قطرات نفس

من ملامح الهيمنة التشريعية

وأقصد بهذه السمة أن كل قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية لها طابعها الأخلاقي، ووراءها الدافع الإنساني سواء أكانت قاعدة من قواعد المعاملات أو من قواعد العبادات، أو من قواعد الحدود، وقبل أن نفصل القول في هذه السمة علينا أن نذكر ونتذكر أن الإسلام لا ينظر إلى الشكل والمظهر، ولكن ينظر إلى الجوهر والمخبر، ومن ثم كان للنية الاعتبار الأول في تكييف الأعمال والحكم عليها:

عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

يقول الدهلوي: اعلم أن النية روح والعبادة جسد، ولا حياة للجسد بدون الروح، والروح لها حياة بعد مفارقة البدن، ولذلك قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: 37).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وشبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كثير من المواضع ـ من صدقت نيته ـ ولم يتمكن من العمل لمانع ـ بمن عمل ذلك العمل كالمسافر والمريض لا يستطيعان وردًّا واظبًا عليه فيكتب لهما، وكصادق العزم في الإنفاق وهو مملق يكتب كأنه أنفق".

فقيمة العمل إذن والحكم عليه.. يكون بالنية المصاحبة له، أي بالدافع أو الباعث الذي دفع صاحبه إليه: وقد سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء: أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

ومن ناحية أخرى، قد يكون العمل في ظاهره طيبًا نافعًا للفرد والجماعة، وأمة المسلمين، ومع ذلك لا يسقط ثوابه فحسب، بل أكثر من ذلك يعتبره الإسلام على الرغم من ظاهره ونفعه رذيلة يأثم صاحبها، ويعاقب عليها، وليس أدل على ذلك من الحديث الجامع، والذي روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهد., قال كذبت. ولكنك قاتلت؛ لأن يقال جرئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم  وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل يجب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه. ثم ألقي في النار".

وقد تصدق النية، ومع ذلك يتأدى العمل بصاحبه إلى نتيجة غالطة، ولكن يؤجر العامل على عمله هذا، فقد روي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".

والمسلم يتجنب الشر، ويأتي من الخير ما يستطيع طمعًا في الجنة، وخوفًا من النار، وهذه النية في ذاتها، أو هذا الدافع في ذاته لا غبار عليه، فالمقابل الأخروي، قد وعد الله به الخيرين من المؤمنين في عشرات من الآيات:

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة:111).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف: 107).

(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (البقرة: 24).

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) (الكهف: 29).

وقد يكون للمؤمن من وراء العمل الصالح ـ غير الهدف الأخروي ـ هدف دنيوي عاجل، وهو توفيق الله له في الدنيا، وتوسيع باب الرزق وما شابه ذلك، وقد قال الله تعالى في حكم كتابه (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف: 86).

وإذا كان هذا هو "مقام العامة" فهناك "مقام الخاصة" الذين يعبدون الله ـ لا طمعًا في جنته، ولا خوفًا من ناره ـ فهذه هي عبادة التجار ـ كما قالت السيدة رابعة العدوية ـ ولكنهم يعبدون الله حبًّا له، ورغبة في رضاه بغض النظر عن الثواب والعقاب.. عن الجنة والنار، وهم الصفوة التي يقول قائلها: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162ـ 163).

وقد صور الإمام الغزالي المقامين وحدد مكان كل منهما في قوله "الحقيقة ألا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى، وهو إشأرة إلى إخلاص الصديقين، وهو الإخلاص المطلق، فأما من يعمل لرجاء الجنة، وخوف النار، فهو مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة، وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج، وإنما المطلوب الحق ـ لذوي الألباب ـ وجه الله تعالى فقط.

 السبت  8 من ذي الحجة 1402  (25  سبتمبر   1982)