بلاد الكلاب .. والخضرة

يومياتي في أمريكا

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

  الحلقة (  20 )

عن اللغة العربية في وست هافن

هذه المحاضرة أعتز بها اعتزازا خاصا ؛ لأنها عن لغة القرآن . في الثانية عشرة إلا الربع من يوم السبت 6 من فبراير سنة 1982 انطلقت بصحبة الأخ إبراهيم المعتاز إلي مدينة وست هافن لإلقاء المحاضرة التي اتفقنا عليها من قبل وهي بعنوان ( اللغة العربية بين الصواب والخطأ ) ، وبعد صلاة الظهر على مدي ساعتين وأمام جمع طيب من الشباب كانت المحاضرة التي استغرقت قرابة ساعتين ، ودارت حول المحاورالآتية :

1- اللغة العربية وأهميتها بصفتها لغة دينية أولا ، وقومية ثانية .

2- بعض الاستعمالات في اللغة ومنها : ( قد )  واستعمالتها . ( السين وسوف ) والفرق بينهما في المدلول  . مادة ( بدل ) ودخول الباء علي المتروك " .... قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ .... " البقرة 61  .   استعمال الفعل المضارع نيابة عن الماضي للتعبير عن الديمومة واستحضار الصورة .(الفعل فشل) معناه لغويا ، وكيف يستعمل الآن خطأ . خطأ من يقول لايجب أن أفعل كذا ، والصحيح :  يجب ألا أفعل كذا .

3-         هل في اللغة ترادف بمعناه الدقيق ؟                                                                                                       

**********

وعرضت بعض مظاهر الاستهانة باللغة العربية في وسائل الإعلام بخاصة، وهي تعد خطيئة في حق اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، مما شرفها، وجعلها جديرة بالإجلال والتوقير، ومن ثم كان علينا أن نؤديها سليمة في المبنى والمعنى، والضبط والتصوير، ثم إن العربية تحمل من الخصائص ما تتفرد به، ويرفع قيمتها، ويضمن خلودها، مما تعرض بعضه فيما يأتي :

تعد اللغة العربية من أغنى لغات العالم بالمفردات والمترادفات . أما اللغات الأخرى فقد انقرضت كلها على وجه التقريب، ولم يعد منها إلا آثار تاريخية في النقوش والمخطوطات، وهي الكنعانية والفينيقية والعبرية، والآرامية، والنبطية، والبابلية، والكلدانية، والسريانية، والهيروغلوفية، والحبشية.

ولا يدل على مرونة اللغة العربية، واتساعها وشموليتها كثرة مفرداتها ـ التي تعد بمئات الألوف ـ فحسب، ولكن يدل على ذلك أيضًا كثرة الروافد، والطرائق التي تغذي اللغة العربية، وتسمح لها بالتوليد والإضافات. كالقياس، والاشتقاق، والنحت، والتعريب، وغيرها.

وهذا يعني أنها لغة مفتوحة للتواصل الدائم على مدى العصور، وأن باب الاجتهاد فيها لم يغلق، ولن يغلق. وقد تحدث اللغويون عن خصائص اللغة العربية وتفردها في جوانب كثيرة، وتفوقها على كثير من اللغات الأخرى في هذه الجوانب، وذلك في دراسات مقارنة متعددة، مما لا يتسع له مقالنا هذا. ولكننا نجد من اللازم أن نتحدث ـ في إيجاز ـ عن مظهرين من مظاهر القدرة الذاتية في اللغة العربية وهما:

ـ دقة الفروق بين كثير من كلمات العربية مما يعتقد كثيرون أنها مترادفة، أي متساوية تمامًا في المعنى.

ـ الدقة في الاستيعاب، وتعريف المسمى بكل أنواعه التعريف الجامع المانع، الذي لا يترك زيادة لمستزيد، وفيما يأتي نلقي الضوء على هذين المظهرين اللذين يمثلان سمتين أساسيتين من سمات اللغة العربية.

أولاً: دقة التفريق:

ومن أشهر الكتب التي تناولت هذه الظاهرة: كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري، ونقدم ـ فيما يأتي ـ قطوفًا منه ـ تبين عن هذه القدرة في اللغة العربية:

1 ـ الفرق بين الصفة والنعت: النعت: لما يتغير من الصفات. والصفة: لما يتغير، وما لا يتغير، فالصفة أعم من النعت.

2 ـ الفرق بين الحقيقة والحق: الحقيقة ما وضع من القول موضعه في أصل اللغة، حسنًا كان أو قبيحًا. والحق: ما وضع موضعه من الحكمة، فلا يكون إلا حسنًا.

3 ـ الفرق بين الإعادة والتكرار: التكرار: يقع على إعادة الشيء مرة، وعلى إعادته مرات. أما الإعادة: فهي للمرة الواحدة.

4 ـ الفرق بين الهجو والذم: الذم: نقيض الحمد، وهما يدلان على الفعل. والهجو: نقيض المدح، وهما يدلان على الفعل والصفة كهجوك الإنسان بالبخل، وقبح الوجه.

وفرق آخر: أن الذم يستعمل في الفعل والفاعل، فتقول: ذممته بفعله، وذممت فعله. والهجو يتناول الفاعل والموصوف دون الفعل والصفة، فتقول: هجوته بالبخل وقبح الوجه، ولا تقول هجوت قبحه وبخله.

5 ـ الفرق بين العلم والمعرفة: المعرفة أخص من العلم؛ لأنها علم بعين الشيء مفصلاً عما سواه. والعلم: يكون مجملاً ومفصلاً.

6 ـ الفرق بين القريحة والطبيعة: الطبيعة: ما طبع عليه الإنسان أي خلق. والقريحة ـ فيما قال المبرد ـ ما خرج من الطبيعة من غير تكلف.

7 ـ الفرق بين الإهلاك والإعدام: الإهلاك: أعم من الإعدام؛ لأنه قد يكون بنقض البنية، وإبطال الحاسة، وما يجوز أن يصل معه اللذة والمنفعة. والإعدام: نقيض الإيجاد، فهو أخص، فكل إعدام إهلاك، وليس كل إهلاك إعدامًا.

8 ـ الفرق بين الجَعل والعمل: العمل: هو إيجاد الأثر في الشيء. والجعل: تغيير صورته بإيجاد الأثر فيه.

9 ـ الفرق بين البعض والجزء: البعض ينقسم، والجزء لا ينقسم. والجزء يقتضي جمعا، والبعض يقتضي كلا.

10 ـ الفرق بين النصيب والحظ. النصيب يكون في المحبوب والمكروه. والحظ ما يكون في الخير.

11 ـ الفرق بين الوَلاية (بفتح الواو) والنصرة (بضم النون): الولاية: النصرة لمحبة المنصور، لا للرياء والسمعة؛ لأنها تضاد العداوة. والنصرة: تكون على الوجهين:

12 ـ الفرق بين الإيجاب والإلزام: الإلزام: يكون في الحق والباطل، يقال: ألزمته الحق، وألزمته الباطل. والإيجاب لا يستعمل إلا فيما هو حق. فإن استعمل في غيره فهو مجاز، والمراد به الإلزام.

13 ـ الفرق بين الأبناء والذرية: الأبناء: يختص به أولاد الرجل، وأولاد بناته. والذرية تنتظم الأولاد، والذكور والإناث.

ويرى بعض الباحثين أن أبا هلال العسكري قد أسرف في إبراز هذه الفروق، وحتى لو صحّ ذلك، فإن ما قدمه يبقى صحيحًا في غالبيته.

ثانيًا: الدقة في الاستيعاب:

فاللغة العربية قد وضعت للمسمى الحسي ـ بصفة خاصة ـ التسمية الجامعة المانعة، بحيث لا يدخل معها غيرها. ونسوق هنا سطورًا من كتاب "الفرق" لابن فارس اللغوي، وأغلبه في تحديد أسماء أعضاء الإنسان والحيوان، وما يتعلق بها:

1 ـ باب الشفة: الشفة من الإنسان، وهو من الإبل المشفر، ومن ذوات الحافر: الجحفلة، ومن ذوات الظلف: المقمة، ومن الطائر غير الجارح: المنقار، ومن الجارح: المنسر. ومن الذباب: النقط.

2 ـ باب الأصوات: صاح الإنسان، وصوت. وعزف الجني. ونبَّ التيس عند السفاد (نزوه على الأنثى). وخارت البقرة، وتاج الثور. وبغم الظبي بغاما، وصهل الفرس. وحمحم عند الشعير. والخضيعة صوت يسمع من جوفه، ولا يدري من أين هو، ونهق الحمار... إلخ.

ويرى الأستاذ العقاد ـ رحمه الله ـ في كتابه: "اللغة الشاعرة" أن اللغة العربية فاقت غيرها من اللغات، بما اشتملت عليه من تحديد دقيق لكل ساعة من ساعات الليل، والنهار، والشهور، والفصول، والمواسم وغيرها.

ولا مبالغة فيما ذكره العقاد؛ ففي "فقه اللغة" للثعالبي ـ وهو يتحدث عن "أوائل الأشياء".

الصبح أول النهار: الغسق: أول الليل. الوسمى: أول المطر. البارض: أول النبت. اللعاع: أول الزرع. اللباء: أول اللبن.

السلاف: أول العصير. الباكورة: أول الفاكهة. البكر: أول الولد. الطليعة: أول الجيش. النهل: أول الشرب. النشوة: أول السُّكر. الوخْط: أول الشيب. النعاس: أول النوم. الزُّلف: أول ساعات الليل. الزفير: أول صوت الحمار.

وفي ساعات النهار: الشروق، ثم البكور، ثم الغدوة، ثم الضحى، ثم الهاجرة، ثم الظهيرة، ثم الرواح، ثم العصر، ثم القصْر، ثم الأصيل، ثم العشى، ثم الغروب.

وساعات الليل: الشفق، ثم الغَسَق، ثم العَتَمة، ثم السُّدْفة، ثم الجهمة، ثم الزُّلة، ثم الزلفة، ثم البُهْرة، ثم السَّحَر، ثم الفجر، ثم الصبح، ثم الصباح.

وأغلب هذه الكلمات لا تدور حاليًا على أقلام الكتاب، وألسنة المتكلمين من الخطباء والمحاضرين، ولكن هذا لا يقلل من قيمتها، ولا ينال من دلالتها على مرونة اللغة العربية واتساعها وشموليتها، وقدرتها الذاتية؛ فقلة توظيف الكلمة لا يقلل من قيمتها، كما أن كثرة دورانها على الألسنة والأقلام لا يكسبها من القيمة ما لا تستحقه.

وما ذكرناه من سمات تكاد العربية تنفرد بها ـ وغيرها كثير ـ تقطع بأن العربية لغة غنية خالدة؛ لأنها ـ مهما تكالب عليها من محن ـ يبقى لها هذا الرصيد الضخم من القوة الذاتية التي تجعلها لغة قادرة في كل الظروف والأزمنة والأحوال.

***********

وأحمد الله ... لقد كانت المحاضرة ـ بفضل الله ـ  ناجحة إلى أقصى حدود النجاح ، وشعرت بعدها بالسعادة ، و الانشراح و القوة ، وسعدت أكثر وأنا أصحب في عودتي الأخ المسلم الورع إبراهيم المعتاز، وكان في صحبتي كذلك أخ كويتي طيار جاء لزيارة المجموعة المسلمة . وهو مبعوث من قبل حكومة الكويت في أمريكا للتدريب .

   قطرات نفس :  

عمر والملك جبلة بن الأيهم

لما  أسلم الملك الغساني جبلة بن الأيهم ، وكان من ملوك أل جفنة كتب  إلي عمر- رضي الله عنه – يستأذنه فى القدوم عليه فأذن له عمر ، وأحسن عمر استقباله فى المدينة ، ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة ، فبينما هو يطوف  بالبيت – وكان مشهورا بالموسم – إذ وطيء  إزاره رجل من بني فزارة فانحل .. فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري ، فاستعدى عليه عمر- رضي الله عنه – ودار بينهما الحوار الآتي:

   - أهشمت أنف الرجل ؟           

-      نعم يأ أمير المؤمنين ، إنه تعمد حل إزاري ، ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف .

-      قد أقررت ، فإما أن ترضي  الرجل ، وإما أن أقيده منك .

-      وماذا تصنع بي؟

-      آمر بهشم أنفك كما فعلت .

-      وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سوقه وأنا ملك ؟

-      إن الإسلام جمعك وإياه ، فلست تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية .

-      قد ظننت يا أمير المؤمنين أني أكون فى الإسلام أعز مني فى الجاهلية .

-      دع عنك هذا ، فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك .

-      إذن أتنصر .

-      إن تنصرت ضربت عنقك ، لأنك أسلمت ، فإن ارتددت قتلتك .

-      أنا نظر في هذا ليلتي هذه .

 وفى سكون الليل وغفلة الناس هرب جبلة ومن معه إلى الشام وعاد إلى النصرانية فكان سرور هرقل بذلك عظيما .