داعية البار

-1-

مضى جزء كبيرٌ من عمره وهو في ضياع وشده، لا يشعر بفرحٍ ولا تغمر قلبه سعادة، يتخبط في لججٍ صاخبة من اليأس والحرمان، وهو الذي نال كل شيء وحصل على ما ابتغته نفسه وطمح له، ولكنه مع ذلك يظلّ مكدرًا مشغول البال، لا يُرضي قلبه إنجازٌ ولا تُسكن فؤاده مرحلة من مراحل العمر، مضى عليه وهو على هذه الحالة عشر سنواتٍ كاملة، انتقل من الفتوة إلى الشباب، ومن الدراسة إلى العمل، وقلبه يبحث عن الاستقرار الذي لا يجده، وعن السعادة التي لا يعرف لها صورةً أو مكانًا...

لقد كانت حياته في المقاييس العامة سلسلة نجاحاتٍ لا تتوقف، فمن التفوق الدراسي، وانتقاله إلى واحدةٍ من أفضل الجامعات في الولايات المتحدة بل في العالم، وعاش شطرًا من شبابه كما يحلو له، ولكن نفسه الباحثة عن سر السعادة والراحة، دفعته للمسير بشكلٍ متواصل، وظنّ أن طريقه الذي يمضي به سيُشفي نهم روحه، ويملأ ذلك الخواء الكبير الذي يؤرقه ويقض مضجعه، واستطاع أن يحقق إنجازاتٍ مذهلة، حتى عمل في أبرز شركات النفط متنقلًا بين بلدان عدة، وأصبحت حياته سلسلة من السفر والعمل الدؤوب المضنٍ، وأيام متطاولة لا تنتهي، لقد كان المبرز بين صحبه وأقرانه، منصبٌ مرموق وراتبٌ ضخم، وحياة فارهة، يتنقل خلالها بين لبنان ودول عربية عدة، ولكنه ما زال في حيرته الأولى وفي ضياعه الدائم، يحتاج لإجابات كثيرة لم يجدها حتى اللحظة.

-2-

يقف جورج أمام زجاج مكتبه الشاهق في البحرين، يرتشف فنجان قهوته برويةٍ مبالغٍ بها، أجفانه متثاقلة تعبة، بعد قضاءه أكثر من أربعة عشر ساعة في العمل المتواصل، ذهنه قد هدّه التفكير والمتابعات المضنية، أراد بهذه الرشفات المتأنية التي يحتسيها على مهلٍ، أن يبدد بعض القلق والكدّ الذي يعتريه، لم يكن انغماسه في العمل خلال الفترة الأخيرة إلا محاولة متجددة منه ليهرب من تلك الأسئلة التي تزدحم في رأسه، أسئلة الوجود والرسالة، والدور الذي يمكن أن يسكن له قلبه، هل هي الأسرة واختيار شريك الحياة، أم الانغماس أكثر في العمل، أم العودة للوطن، والأوبة لحضن الأسرة مجددًا، لم يكن يدر هل هي علاجات مؤقتة، أم هي خطط واهية ستسقط من يده بعد الأسبوع الأول من تطبيقها، يتنهد بعمق، وينظر إلى الأفق، الشمس قد أشرقت منذ ساعتين، يقف مترنحًا ويمضي.

سيذهب بعيد قليل إلى منزله ليحزم بعض الأمتعة، ويذهب لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في بيروت، لقد اختار منذ سنوات منزلًا في شارع من أكثر شوارع المدينة صخبًا، فيه من نوادي السهر الكثير، يتسكع ما بينها في تلك السويعات التي يقضيها في لبنان، ومن ثم يعود للدائرة نفسها مرة أخرى، وجد بأنها فرصةٌ للهروب ولكنه هروب مؤقت لا يدوم إلا تلك السويعات أو أقل قليلًا.

يجلس في مقعده الوثير في طائرة الإياب ساهمًا متأملًا، لا تُشكل العودة للوطن حدثًا مهمًّا، فهو يتكرر كل أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، جلس طويلًا وهو يتفكر في ما يعيشه من رخاء ودعة، وذلك الخواء الكبير الذي لا يفتر يؤرقه، وروحه تبحث عن كنهٍ ما، لمـّا يجده بعد. لقد هدّه البحث، وهو يمضي في متاهاتٍ لا نهاية لها، يشعر بأنه يغرق في قيعان متناهية السواد، ما زال يبحث عن ذلك البصيص الذي يمكنه تبديد الديجور الذي يحيق به.

-3-

تمضي أيام جورج وهي على النسق ذاته، يُشغل أسبوعه في عمله في إحدى دول الخليج سفرٌ وتنقل ومتابعات مع الفرق التي يُشرف عليها، وسويعات يسيرة يقضيها في لبنان بين زيارة والديه والانغماس في ملذات تذهبه عن عالمه بعض وقت، وتأخذه لعالمٍ متخيل غير موجود.

في منتصف أحد أسابيعه يتلقى جورج اتصالًا من أحد الأصدقاء، يُخبره عن مجموعة من الشبان من الأردن، عازمين على زيارة لبنان، ولم يجدوا أفضل منهم لتعريفهم بأجواء بيروت الصاخبة، خاصةً بأن منزله في شارع "الجميزة"، فوافق جورج على اصطحابهم على الفور، فهو يتلهف لأي رفقةٍ تؤنس وحشة وحدته.

استقبلهم جورج بحفاوة بالغة، لم يعر اهتمامًا بأن هذه المجموعة من الشبان مسلمين، فلم يكن يعرف عن الإسلام إلا النذر اليسير، على الرغم من اختلاطه ومعرفته للكثيرين منهم خلال سنوات عمله في عددٍ من الدول المسلمة، بالإضافة للعلامات العامة والمعلومات المشوّهة التي سمعها من قسيس القرية أو من أقاربه، فارتضى اتخاذ موقف محايدٍ من الدين على أقل تقدير.

رافق الشبان إلى أحد ملاهي المنطقة، كان الصخب سيد الأرجاء، أصوات الموسيقى لا تتوقف، أنغامٌ تعزف وأجساد تتلوى كأفاعٍ تبدّل جلدها وحيواتها، بدأت كؤوس الخمر تدور عليهم، يتجرعون بنهمٍ الواحد تلو الآخر، لم يكن الشبان مختلفين عنه كثيرًا، في نمط العيش وتفاصيله، فقد كان سفرهم إلى لبنان للمتعة فقط، وليتعرفوا على ليل بيروت الذي لا ينتهي ولا يشيخ، إنهم مسلمون بالهوية، ورثوا خانة الدين عن والديهم ليس إلّا، في مقابل حياة مليئة بالجنون والسهر والعيش بلا قيودٍ أو ضوابط.

-4-

يشعر جورج بدوارٍ خفيف في رأسه، وهو يحتسي كأسه الرابعة، ولم يدر كيف وصلوا في تلك الأحاديث التي يتبادلونها وسط هذه الضوضاء إلى الحديث عن الإيمان بالأنبياء، فبدأ أحد الشبان الأردنيين واسمه أحمد، يتحدث عن الإيمان بالأنبياء جميعًا، وأخذ يقصّ عليه قصة موسى عليه السلام، وتلك الأحداث المهولة التي مرّ بها نبي الله تعالى، هل يعقل أن يتحدث مخمور في هذا المكان عن مثل هذه القصة!!.

ذُهل جورج بما سمعه، فقد كانت القصة رائعة التفاصيل، جميلة البناء، واضحة المعاني، تتجلى فيها عظمة الباري جل وعلا، وتلك الرحلة التي مر بها سيدنا موسى من اللحد المسجى في النيل إلى مقارعة السحرة أمام فرعون، هي رحلته التي يريدها، يريد قلبه في ذلك اللحد الصغير، أن يكسر فرعون قلبه، أن يخرج من ظلال البحث عن الطمأنينة إلى النور الذي يبحث عنه منذ سنوات، شعر بإحساس غريب ينتابه، شك لبرهةٍ بأنه من أثر الكؤوس التي تجرعها، حتى أذهبت تفكيره وتركيزه.

سأل أحمد بسرعة، من أين جئت بهذه القصة، من راويها، وكيف هي بهذا الجمال؟.

أجابه أحمد بهدوء ووجه نصف ساهم وعيناه ساهمتان في أضواء السقف الكثيرة من أثر الخمر، بأنها وردت في "القرآن الكريم"، كتاب الله تعالى، كتاب المسلمين المقدس أعظم الكتب وأصحها...

وكانت هذه الجملة التي ذكرها أحمد كفيلةً لتُبعد جورج عن الطاولة بضع سنتيمترات، وأن تبُعده عن الحيّز الذي يجلس فيه، وبدأ يفكر بما سمعه عن كتاب المسلمين، هذا الكتاب الذي يقصّ سيرة الأنبياء بهذا الاحترام والتبجيل الكبيرين، وتلك التفاصيل المبهرة.

ومع نهاية سهرتهم الحافلة اتفق الشبان على الالتقاء مرةً ثانية في الأسبوع القادم، فقد كانت سهرة لم يحظوا بمثلها من قبل، وأجواء بيروت مغرية لأمثالهم من محبي السهر وطالبي اللذّة.

-5-

مضى أسبوع جورج كما لم يمضِ عليه زمنٌ قبل ذلك أو بعده، لقد انتظر لقاء أصدقاءه الجدد بفارغ الصبر، كان يعدّ اللحظات والدقائق والأيام، فصدره يجيش بعشرات الأسئلة، كانت القصة التي رواها عليه أحمد بوابةً لعالمٍ جديد، فتحت عليه آلاف التساؤلات، وأراد إجابتها منهم فقط، فهم على كل حال شبانٌ في مثل عمره، يشتركون معه باهتماماتٍ كثيرة، لم يكن لهم غرضٌ مسبق من الحديث معه حول هذه الأمور، وقبل كل شيء يمكنهم أن يشفوا نهمه أو بعض نهمه، على أقل تقدير.

اسقبلهم جورج بحرارة لقاءهم الأول، وعندما سألوه عن المكان الذي سيقصدوه هذه المرة في بيروت، أجابهم بأن سهرة اليوم ستكون في منزله، لم يكن هدفه السهر بكل تأكيد، بل أن يكونوا هذه الليلة في مكان هادئ، ليطرح عليهم ما يريد من الأسئلة، بعيدًا عن الأجواء الصاخبة لنوادي الليل.

طفق جورج يسألهم عن القرآن، وعما يتضمنه من تعابير وتعاليم، وعن الإسلام، وعن نبي هذا الدين، ومع استغراب أصدقاءه من هذه النقلة التي اعترت صاحبهم، لم يكونوا يبخلوا عليه بالإجابات، على قدر معرفتهم بها، يحدثونه عن الإيمان بالله، وبأن المسلم الحق يؤمن بأنبياء الله جميعًا، من إبراهيم وموسى وعيسى إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، لم يكن لديهم كثير علم، وربما لم يقرأ أحدهم في المصحف منذ سنوات عديدة، بل هي بقايا فطرة سمحة، وأشتات معلوماتٍ تلقوها في الصغر لا أكثر.

وفي لحظةٍ مفصلية، تصاعدت دقات قلب جورج، وأصبح يسمع نبضاته قويةً مجلجلة، التفت بكليته إلى صديقه أحمد ونظر إليه نظرة فيها من المعاني الكثير، وعيناه تبرقان من آثار دمعة حبيسة، وقال بصوتٍ متحشرج، ونبرةٍ خافتةٍ، ولكنها حاسمة حازمة، أحمد "أريد أن أصبح مسلمًا".

-6-

مضت عدة لحظاتٍ من الصمت المطبق، لقد كان تعارف هذه المجموعة ولقاؤهم لغرضٍ آخر تمامًا، كيف يمكن لسهرة في "بار" أن تتحول لإسلام شاب مسيحيّ من جبل لبنان. كيف لشباب يشربون الخمر ولا يصلون إلا في المناسبات، أن يكونوا سببًا في إسلام جورج، وأن تكون قصة رويت على ثمالة، مفتاح قلب هذا الشاب، وكيف لهم بأحاديثهم الشبابية وإيجاباتهم المجتزأة أن يكونوا سببًا في ترسيخ الإسلام في قلبه.

استيقظ أحمد من هذه الهلوسات التي تتخبط داخله، ووجد جورج ما زال ينظر إليه نظرته الأولى، ودمعة منفردة جرت على خده الأيمن، راسمة خطًا براقًا كاللؤلؤ، لم تمرّ سوى ثانية أو أقل، ولكن المشاعر التي حملتها هذه الهنيهة للشبان، كانت كفيلةً بتغيير كيانهم، وإحداث هزة عنيفة داخلهم، فبدأت الدموع تنهمل على وجنتي أحمد، وعلى وجوه صحبه معه، وقد تحولتا للون الأحمر البراق بشكلٍ تدريجي، أمسك بيدي جورج بحنو وأخوّة سابغة، وقال له ردّد معي يا أخي:

"أشهد أن لا إله إلا الله"

أشهد أن لا إله إلا الله

"أشهد أن محمدًا رسول الله"

أشهد أن محمدًا رسول الله

عانق الجميع جورج بفرحةٍ مباغتةٍ رائعة، واختلطت دموعهم بتلك الضحكات التي ترتسم على وجوههم، لقد أصبح مسلمًا، من كان من المفترض أن يأخذهم لأماكن اللهو والسهر والإثارة والمتعة، يُصبح مسلمًا، وهم الذين أتوا من الأردن للنهل من لذائذ بيروت يوفقون لإدخال شاب إلى الإسلام، موقف غرائبي مذهل، فيه من العظمة والتوفيق الكثير الكثير.

أراد جورج من صحبه أن يعلموه الصلاة، لقد بكى أحمد وصحبه كثيرًا، ليس فرحًا بأخيهم الجديد فقط، بل على أنفسهم والحال التي استيقظوا ووجدوا نفسهم عليها...

-7-

اتصل الشبان بذويهم، فلم يكونوا يعرفون كيف يعلمون جورج الوضوء، أو الصلاة بشكلٍ صحيح، وهنا دخل الجميع في موجة بكاء متجددة، والدة أحمد تبكي عبر الهاتف وتهلل لما جرى مع ولدها، وكيف انقلب حاله في لحظة ما، وعن ذلك الشاب الذي غيّر لهم حياتهم عندما غيّر دينه.

توضأ الجميع وصلوا لله تعالى، لم يعرفوا ما هي الصلاة التي أدوها، أكانت العشاء أم الفجر، لم يحسبوا ركعاتها جيدًا، ولكنها كانت لكلٍ منهم، افتتاح عهدٍ جديد، كانت هذه الصلاة ختام سنواتٍ من الضياع والبحث المضن عن الذات، قضاها جورج في البحث عن ذاته، سنوات حصل على كل شيء ولكن لم يحصل على ما يمنح قلبه الدفء.

وكانت لأصدقاءه خاتمة مرحلةٍ من الضياع والانكباب على اللذات، كان إسلام جورج صفعةً مدوية لهم، وبأن استمرارهم في نمط العيش هذا تضييعٌ وعبث، وبأن أوبتهم ولو كانت متأخرة في مكانٍ كهذا، عودة مقبولة ممكنة.

سجد جورج للمرة الأولى، لقد كانت كل جوارحه تسجد وتبتهل، ابتهالًا صامتًا، وكان للمرة الأولى قريبًا من الله تعالى حتى هذه الدرجة، قريبًا دون واسطة أو مرسال، قريبًا بجوارحه وفؤاده وقلبه، قربٌ لا يمكن له أن يعرف الغربة أبدًا.

-8-

مضت سنة منذ إسلام جورج أو "طه"، كما أراد لنفسه اسمًا قرءانيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدث هذا العام تغييراتٍ كبيرة في نفسه، فقد ترك منزله في "الجميزة"، وانتقل إلى عملٍ آخر في دولةٍ أخرى، برفقة أحباءه الذين أسلم على أيديهم، أخذ يتعلم عن الإسلام وأحكامه ما أمكنه ذلك، انخرط في دعوة غير المسلمين بما لديه ويكتسبه كل يوم، ذهبوا إلى العمرة سويًا وهناك ذاق من الحبّ والوجد واللذة الإيمانيّة ما لم يذقه في حياته.

لقد كان قلبه يبحث عن هذا الواقع منذ خمسة عشر عامًا، لقد اهتدى أخيرًا، ليس من المهم كيف ومتى، ولكنه اليوم، يشعر بالانتماء الحقيقي، يعرف ما يريده، يجد تلك الطمأنينة التي لا تربتط بمالٍ ووظفية فقط، بل بتلك الصلة الربانية، بذلك الابتهال اليومي خمس مرات، بذلك الإسباغ اللدنيّ، لقد تغيّر كثيرًا منذ ذلك اليوم.

شابٌ مسيحيّ لبناني يسلم في بار، يترك حياة مليئة بالصخب واللذة، ليكون في المكان الذي شعر فيه قلبه بالاطمئنان.

شابٌ مسيحيّ لبنانيّ يتحول من دليل شبان أردنيين إلى ملاهي بيروت، إلى سببٍ لهدايتهم، وعودتهم إلى الطريق القويم، تاركين وراء ظهورهم كل ما سبق، في استقبال حياةٍ أخرى مختلفة.

شابٌ مسلم يدرس الشريعة، ويدعو إلى الله تعالى.

ولكن السؤال الأصعب، ما هو موقف أسرته؟ وما هي ردة فعلهم؟

هي قصةٌ أخرى....

ملاحظة: أحداث القصة مبنية على أحداث حقيقيّة.

وسوم: العدد 781