الشيخ جمال الدين قبلان

 (1345- 1415ه/ 1926- 1995م )

 هو الداعية الإسلامي التركي الذي أثار الجدل في تركيا حتى بعد وفاته . حتى راح بعض الكتاب يتساءل هل الشيخ جمال الدين قبلان ... خليفة أم خائن ؟

 "مات خميني تركيا" هكذا علقت إحدى الصحف التركية عند وفاة الشيخ جمال الدين قبلان في 15 أيار مايو 1995م في مدينة كولونيا في المانيا. وكانت وفاة قبلان مناسبة لإلقاء الضوء على أحد أبرز رموز الحركات الإسلامية في تركيا في السنوات الأخيرة، ومع أن شهرته تجاوزت حدود بلاده، فهي لم تصل بما فيه الكفاية إلى الرأي العام العربي.

من هو الشيخ قبلان؟

 تتسم سيرة هذا الرجل، حياة وأفكاراً، بكثير من التميز، والفرادة، والغرابة.

مولده ونشأته :

وُلد العام 1926 في قرية دينغيز، قضاء أسبير، في محافظة أرضروم.

دراسته ومراحل تعليمه :

 تلقى علوم الإسلام ، وتعلم اللغة العربية في طفولته من أبيه الذي كان عالماً.

 وتابع دراسته في كلية العلوم في أنقرة، وتخرج فيها العام 1386ه / 1966م .

أعماله ومسؤولياته :

 وعمل مفتشاً في "رئاسة الشؤون الدينية" التي تتولى شؤون المسلمين في تركيا، ثم عين مديراً للشؤون الخاصة فيها.

وما لبث أن أصبح نائباً لرئيسها.

 خلال هذه المدة عمل مفتياً لأضنة منذ العام 1966 إلى العام 1981، عندما تقدم باستقالته من كل هذه الوظائف ليتفرغ للتعاون مع زعيم حزب السلامة الوطني نجم الدين أرباكان، وتعزيز منظمة "النظرة الوطنية" التابعة للحزب في أوروبا، ولا سيما في ألمانيا، وبالفعل غادر قبلان، الذي ترشح للنيابة عن حزب السلام الوطني العام 1977 في أرضروم، لكنه فشل، إلى المانيا العام 1981 وعمل، لخبرته في مسائل الفقه، رئيساً للجنة الارشاد والفتاوى، في منظمة "النظرة الوطنية".

دولة وخليفة وسفارة :

 وكان العام 1983 محطة فاصلة في مسيرة قبلان، إذ قام بزيارة لإيران تلبية لدعوة من آية الله الخميني. وإثر الزيارة أعلن قبلان في آب أغسطس من العام نفسه انفصاله عن "النظرة الوطنية"، متصرفاً إلى الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية في تركيا، الأمر الذي عرضه لنزع جنسيته التركية في 11 تموز يوليو 1984. وكان ذلك بداية شهرته رمزاً من رموز الاسلام الراديكالي في تركيا. وما لبث أن غيّر اسم عائلته من "قبلان" أي النمر، إلى "خوجا أوغلو" لأن الانسان، حسبما قال قبلان، "ليس من نسل الحيوان ليتخذ من الحيوانات اسماء له".

 وفي العام 1985 نجح قبلن فيا نيل اللجوء السياسي من حكومة ولاية رين وستفاليا الشمالية في المانيا. وبدأ اثر ذلك شن حملة مكثفة على تركيا والاتاتوركية، الأمر الذي جعل كنعان ايفرين رئيس جمهورية تركيا السابق، والاعلام الرسمي التركي، يطلقون على قبلان اللقب الذي ما زال يُشتهر به داخل تركيا وهو "الصوت الأسود"، على غرار "السوق السوداء"، لأفعاله وأحاديثه المحظورة والمخالفة للقوانين التركية. وفي العام نفسه أسس قبلان "اتحاد الجمعيات والجماعات الاسلامية" وانظم إليه أكثر من 80 في المئة من أنصار أرباكان. ومضى الشيخ قبلان قدماً في معركته مع النظام التركي فأعلن في العام 1987 تأسيس "دولة الاناضول الإسلامية الفيديرالية" منصباً نفسه خليفة لها، وأعلن افتتاح أول "سفارة" لها في برلين. وكان يدعو قبلان اتباع "دولته" بـ "مواطني هذه الدولة". لكن نجاح نجم الدين أرباكان في إعادة بناء "النظرة الوطنية" في المانيا وأوروبا، وفي إعاقة نشاط اتباع قبلان في تركيا، كان عاملاً أساسياً في تقلص نفوذ قبلان، وانفضاض كثير من مريديه عنه. كذلك كانت علاقاته الجيدة مع إيران عاملاً آخر في بث الشك، بين أنصاره، حول حقيقة توجهاته.

ثورة إسلامية

 دعا قبلان إلى تحقيق ثورة إسلامية في تركيا على غرار الثورة الإيرانية، تحت زعامة "الإمام" أي قبلان نفسه. واعتبر هدم النظام الكمالي نسبة إلى كمال أتاتورك في تركيا، واقامة نظام الشريعة في مقدم أولويات جهاده. وكان يرى أن السبيل إلى ذلك يكون عبر "التبليغ" أو الدعوة، مثلما كان يفعل الإمام الخميني من منفاه في العراق. لذا كان اعتماد قبلان على أشرطة التسجيل والفيديو كبيراً. وكان ارتباطه بإيران واضحاً عبر ترجمة المواعظ والخطب التي كان رجال الدين الإيرانيون يلقونها إلى اللغة التركية، وطبعها في أشرطة تسجيل وتوزيعها داخل المانيا وتركيا.

 وكان قبلان يعتبر رجل الدين حجر الزاوية في الثورة الإسلامية. لذلك بذل جهوداً كبيرة لدفع رجال الدين الأتراك إلى الانفصال عن "رئاسة الشؤون الدينية". وكان يقول: "إن ارتباط رجال الدين بدولة علمانية يقود إلى جهنم"، علماً أن قبلان نفسه كان موظفاً في رئاسة الشؤون الدينية حتى 1981. ويقول قبلان إن في تركيا 50 ألف مسجد، وبالتالي 50 ألف إمام، "وهؤلاء يجب أن ينهضوا أو يثوروا، وعندها ينهض الشعب للثورة"، وفي هذا الاطار يعارض قبلان الوسيلة الحزبية للوصول إلى السلطة، لأن الديموقراطية "نتاج ماسوني"، وكان يعتبر التصويت "جنحة، ومن يفعل ذلك لا يبقى عنده ايمان".

"حل" البرلمان

 وخاض قبلان معركة شرسة مع زعماء تركيا ولم ينجُ أحد من انتقاداته، وكان قد أعلن، أصلاً، حل البرلمان التركي، واعتبر زعماء تركيا "منافقين وكفاراً" من أجاويد واينونو إلى يلماز وديميريل، وحتى أرباكان. وعندما تولت طانسو تشيللر رئاسة الحكومة التركية في حزيران يونيو 1993 علّق قائلاً: "لا يفلح من كان حاكمه امرأة". واتهم قبلان رئيس الجمهورية سليمان ديميريل بأنه "ماسوني".

فتوى بقتل عزيز نيسين

 ومع أن قبلان يرى أنه لا قتل في الإسلام عموماً، إلا أنه يؤيد قتل المرتدين عبر الفتوى. ومن هذا المنطلق أصدر فتواه بجواز قتل الأديب التركي المشهور عزيز نيسين الذي ترجم رواية سلمان رشدي "الآيات الشيطانية" إلى اللغة التركية. كذلك فهو، إذ يتوسل "التبليغ" طريقاً للدعوة الإسلامية، لا يُسقط امتشاق السلاح في ما يسميه "المرحلة الأخيرة" من الثورة. فكل منتسب إلى "جيش الثورة الإسلامية" عليه المرور بثلاث مراحل: الأولى "مرحلة المدرسة" ليتعلم الدين والاصغاء للأئمة، ثم تأتي "مرحلة الكلية" أو تهذيب المسلم وتعويده على شظف الحياة. وأخيراً "مرحلة الثكنة" أي التدرب على استخدام السلاح. وإكمال هذه المراحل الثلاث "يؤدي إلى الجنة" حسبما كان يقول.

 كثيرون يعتبرون ان تشبيه قبلان بالخميني، أمر لا يخلو من مبالغة، إذ كان الخميني صاحب كتلة جماهيرية عريضة، بعكس قبلان الذي لا يتجاوز عدد مريديه بضعة آلاف.

 وفي السنوات الأخيرة، كان يعيش في شبه عزلة في كولونيا، بحيث كان أقرب إلى زعيم إحدى الطرق الدينية، منه إلى زعيم يدعو إلى ثورة إسلامية وشعبية في بلد إسلامي كبير مثل تركيا. والبعض يعتقد أن صورة قبلان ضخمها في تركيا الرئيس السابق الجنرال ايفرين، بهدف التأكيد على علمانية النظام في مواجهة المتطرفين، خصوصاً بعدما اتهم بعض العلمانيين الجنرال ايفرين بممالأة الحركات الإسلامية داخل تركيا، وهو الذي ادخل في دستور 1982 مادة تقول بإلزامية التعليم الديني في المدارس. ويقال ان ايفرين كان يحرص على تتبع نشاطات قبلان في المانيا، وتعميمها على الاعلام التركي لاظهار خطورة ما يقوم به "الصوت الأسود" ودرءً للشبهات حول علمانية ايفرين نفسه.

 ولم يقتصر تضخيم صورة قبلان أثناء حياته، فما أن ورد نبأ وفاته إلى تركيا حتى سارع بعض المسؤولين إلى محاولة الاستفادة من ذلك، فرئيسة الحكومة تشيللر أعلنت عن امكان الالتقاء بعائلته، ما فُسر بأنه لكسب بعض الأصوات الانتخابية. كما أن اعتبار قبلان بأنه خميني تركيا، نموذج آخر للمبالغة في التعاطي مع رجل تلتف حوله قلة من الاتباع.

وفاته :

 مات قبلان في المانيا، لكن جثمانه دُفن في أرضروم، في تركيا، في 19 أيار مايو 1995م، على الرغم من أنه فقد جنسيته التركية. وفي طرح سماح السلطات التركية بذلك من جديد على بساط البحث السجال حول إعادة رفاة الشاعر ناظم حكمت من موسكو إلى وطنه. وهناك احتمال كبير بحصول تطورات إيجابية قريباً جداً على هذا الصعيد. وكانت حجة السلطات التركية في عدم السماح بنقل رفاة ناظم حكمت إلى تركيا أن الجنسية التركية نزعت منه في مطلع الخمسينات.

 لم يترك قبلان وصية مكتوبة، لكنه عيّن قبل وفاته ابنه متين مفتي أوغلو "خليفة" له. وبعد وفاته وزع أنصاره بياناً بتوقيع "مجلس شورى دولة الخلافة" فيه أنه "من غير الجائز بقاء المسلمين دون خليفة ولو لساعة واحدة. لذا اخترنا متين مفتي أوغلو لمقام الخلافة" وأكد ابنه الذي أمّ الصلاة على جثمان والده في كولونيا أنه سيواصل المسيرة، و"سنقوم بما كان يقوم به وما كان يريد أن يقوم به، وسأبذل ما استطيع".

 أثناء تشييع قبلان ردّد أنصاره شعارات تدعو بفناء للنظام العلماني، مما حدا بوزير الداخلية التركي ناهد منقشية إلى اعتبار قبلان "خائناً للوطن".

 هكذا هي تركيا، بلد التناقضات الذي لم يعرف الاستقرار إلا بعد وصول حكومة العدالة والتنمية التي نرجو لها دوام التوفيق والازدهار .

المصادر :

1-             مجلة الوسط : ع 174 ( 29 / 12 / 1415ه ) – ص 30 ، 31 .

2-             الشرق الأوسط : ع 6015 ( 18 / 12 / 1415ه )

3-             تتمة الأعلام – محمد خير رمضان يوسف : 1 / 113 .

4-             مقالة الصحفي اللبناني (محمد نور الدين ) .

وسوم: العدد 789