طارق بن زياد: ماذا نعرف عنه؟

لنبدأ برسم إطار لشخصية هذا القائد العظيم.

وهو، على الصحيح، من البربر (الأمازيغ). وكان ذا قامة طويلة، جسيماً، أشقر.

تولى حكم طنجة عام 89هـ، ثم كان صاحب الحظ الأوفر في فتح الأندلس، لا سيما في معركة وادي لكّة في 28 من رمضان عام 92هـ التي هُزم فيها جيش القوط الغربيين الذي يقوده ملكهم لذريق (يسميه الغربيون رودريك Roderic).

وعندما نتكلم عن طارق يتبادر إلى الذهن الخطبة المنسوبة إليه، وفيها: "البحر من خلفكم، والعدو أمامكم". وهي خطبة مختلقة عليه، مزوّرة.

كما يتبادر إلى الذهن اسم موسى بن نصير، فقد كان القائد السياسي الذي يوجّه طارقاً ويُمدُّه بالمجاهدين عند الطلب، ويقود بعض المعارك مؤازراً له.

فلنتعرّف إلى موسى كذلك:

ونعود إلى القائد طارق بن زياد. إنه أول قائد غير عربي يتولى مسؤولية عظيمة في دولة الأمويين، ويعمل بإمرته قادة من العرب.

ولا شك أن طارقاً كان ذا كفاية عالية مكّنته من قيادة جيش من اثني عشر ألفاً وتحقيق انتصارات باهرة فتح بها معظم دولتي إسبانيا والبرتغال اليوم.

بعد أن تمكّن موسى بن نصير من إخماد نزعات البربر الانفصالية، أرسل ثلاث حملات لافتتاح المغرب، ثم زحف على طنجة ففتحها، وكانت قبائل البربر تعتنق الإسلام وتنضمّ إلى جيوشه، وصار طارق حاكماً على طنجة، وكان يستعين بمن معه من العرب المسلمين في نشر تعاليم الإسلام، وراحت الفوارق بين عربي وبربري تذوب، كما راح الولاء للإسلام يسمو في نفس طارق ونفوس قومه البربر.

وحين ولّى موسى طارقاً على مقدّمته لفتح طنجة، كان ذلك تقديراً منه لشجاعة طارق ومهارته وكفاءته... لأن المقدمة مسؤولة عن أمن الجيش واستطلاعه.

وكان طارق قدوة لجنوده، يتقدّمهم في كل مهمة، ويقول لهم: اتْبعوني. وكان يُتعِب نفسه أكثر مما يُتعب جنوده، فلا ينام ولا ينيم.

وحين أصبح مسؤولاً عن فتح الأندلس أعدّ خطة لذلك، وأرسل حملة استطلاعية من أربعمئة راجل ومئة فارس. وفي عملية عبور جيشه من مدينة سَبْتة إلى برّ الأندلس برزت ثلاث سمات من كفاءته القيادية: يتقدّم في مواطن الخطر قبل جنوده، ويحرص على أرواحهم وسلامتهم، ويبذل جهده للتأكد من سلامة العملية في العبور والإنزال.

وكان طارق على رأس الوجبة الأولى من الرجال الذين وصلوا إلى منطقة الجزيرة الخضراء، مقابل سبتة، ووجد جماعة من القوط حاولت منعه من الإنزال، فانتقل ليلاً برجاله إلى مكان وعر من الشاطئ، واستخدم المجاديف وبراذع الخيل التي ألقاها على الصخور لتلافي خطرها على جنوده. ثم عاد بالسفن الفارغة إلى سبتة ليأتي بوجبة ثانية، ثم ثالثة، من الجنود، حتى اكتمل عددهم سبعة آلاف. فأنجز العبور بنجاح.

وإن إقدام طارق على تحمّل هذه المسؤوليات العسكرية الهائلة لدليل على ثقته وشجاعته وتفانيه في نصرة هذا الدين... وهي سمات القادة الكبار.

وراح يحصّن المواقع التي يحتلها ليمنع العدو من استعادتها، وليجعلها نقاط انطلاق إلى مواقع جديدة، وهذا من مبادئ الأمن التي يتحلى بها القادة الناجحون. وكلما حقق نجاحاً ارتفعت معنويات جنوده، فكانوا أكثر استعداداً لتحقيق نجاح آخر.

ولقد قضى على قوات بنج Banj التي لم يكد يسلم منها إلا جندي واحد اسمه بلياس، وهو الذي أسرع إلى معسكر لذريق في أقصى الشمال ليخبره بما حصل. وهنا بدأت قوات لذريق بالتقدم، واحتاج طارق إلى المزيد من القوات ليصُدّ قوات لذريق، وليتمكّن من مزيد التوغّل في الأرض الجديدة، فاستنجد بموسى بن نصير، فأنجده بخمسة آلاف جندي من السودان، بقيادة طريف بن مالك، فقويت بذلك معنويات طارق ومَن معه، وهو ما جعلهم مؤهلين لخوض معركة لكّة الحاسمة.

ولما كانت المعركة خطب في جنوده: "ألا وإني عامد إلى طاغيتهم بنفسي، لا أقصّر حتى أخالطه أو أهلِكَ دونه... وما فعلتُ من شيء فافعلوا مثله".

وهذا الموقف يذكّرنا بمواقف خالد بن الوليد الذي كان يترصّد قائد العدو، فإذا استمكنه هاجمه هجوماً مباشراً حتى يقتله أو يأسره، فتنهار معنويات رجاله.

وقد بدأت المعركة في 28 من رمضان عام 92هـ، واستمرت ثمانية أيام، واستشهد فيها ثلاثة آلاف من جنود طارق، أي ربع جيشه البالغ آنئذ اثني عشر ألفاً، وكان جيش لذريق يقدّر بثمانين ألفاً إلى مئة ألف. ثم إنه تابع الفتح من بلدة إلى أخرى بالتسعة آلاف الذين بقُوا من جنده.

ولدى حصاره مدينة استَجّة الذي امتدّ أياماً، خرج إلى النهر وحده لقضاء حاجته، فصادف علجاً هناك كان قد خرج لمثل ذلك، فوثب عليه طارق وأخذه أخذاً وقاده إلى معسكر المسلمين، فاعترف العلج أنه أمير المدينة، فصالحه طارق على ما أحبّ، وفرض عليه الجزية وخلّى سبيله. واستسلمت المدينة.

وهكذا تتجلى مواهب طارق وسجاياه، شجاعةٌ وتفانٍ في نصرة الدين، وحضور بديهة تمكنه من اتخاذ القرار السريع واغتنام الفرص المتاحة، بل سبقُ النظر وهو اكتشاف نيات العدو المقبلة واتخاذ الإجراءات الكفيلة بإحباط النشاط المعادي في الزمان والمكان المناسبين، ومعرفة بنفسيات جنوده من البربر أو من العرب، وثقة متبادلة بينه وبين قادته وجنوده.

ولقد ذكروا أن سليمان بن عبد الملك حين أراد أن يولي طارقاً على الأندلس استشار مغيثاً الرومي: كيف أمْرُه بالأندلس؟ فقال: لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لاتبعوه، ولم يروا أنهم كفروا، لشدة ثقتهم به وحبهم إياه.

وكان يُحسن في اتخاذ الإجراءات المناسبة لتحقيق الهدف (وهو فتح الأندلس) والمحافظة على ما يفتح منها، والقيام بما يسمى "التعرّض"، وهو المبادأة بالهجوم، فلم يدخل مرة واحدة في معركة دفاعية، ولم يُهزم في معركة قط! بل كان يباغت العدو. ولئن كانت القوات التي يحشدها ضئيلة العدد أمام قوات العدو فإن المعنويات العالية المرتكزة على العقيدة التي تشربتها النفوس كانت تعوّض ذلك النقص وتزيد!.

وكان يستعين بالقائد البربري يليان الغماري، سواء في الاستطلاع أو في المدد بالمركبات وغيرها. بل استعان بيهود الأندلس الذين عانَوا من قبل من اضطهاد القوط لهم، فصاروا عيوناً ينقلون إلى طارق أخبار لذريق ومَن معه.

وفي أخبار طارق دروس كثيرة، وللواء الركن محمود شيت خطاب بحث ضافٍ عن طارق في نحو خمسين صفحة، منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي/ الجزء الرابع: 1988م، وقد كان هو المرجع الأساس لهذا المقال.

وسوم: العدد 815