الشيخ الداعية (ياسين عمر الإمام): رائد الحركة الإسلامية في السودان

clip_image002_80023.jpg

(1931- 2013م)

هو الشيخ الداعية (ياسين عمر الإمام) - رحمه الله تعالى - أحد أبرز قيادات الحركة الإسلامية السودانية الذي نشأ في بيئة إسلامية خالصة فريدة أذكت فيه إحساساً متعاظماً بالإنسانية، أورثته سعة في الخُلق، وسماحة في النفس، يقوم من تلقاء نفسه إلى إسناد ضعفائها وإيواء أيتامها، يرجو إغناء كل ذي عيلة وفاقة، شديد الرأفة، أسرع ما تستهل دموعه لشكوى موجّع، وإن كان غريباً نائياً، يعرف بلواه لأول مرة، لكنه يتكلّف رِفده مما قلّ منه أو كثر، طلاقة بالخير، وجوداً بالعطاء، حتى ضاقت داره (بأهل الصفة) من فقراء الناس يساكنونه، ويأوون أبداً إلى ركنه، ولا سيّما أن البيت عامر بحِلق القرآن يقصدها طلاب العلم، فكانت ساحة أخرى لنشاط ياسين الدعوي يبث فكرته بين أولئك وقرنائهم من أهل الدار، كذلك أهدت طبيعة الحياة في أم درمان ياسين عمر انفتاحاً على الآخرين، شديد الصلة بمجتمعهم المنفتح بطبعه على الآخر يشاركه، ويصله في كل أحوال فرحه وحزنه. وكان الشيخ من أول الناس الذين جددوا الدين في هذه البلاد، دخل السجون، وكان من أصبر الناس وأثبتهم، وكان في طليعة العلماء الذين أسسوا المصارف الإسلامية، وكان زاهداً في المال، وكان نمطاً غريباً في زهده وطهره، وكان كالشامة بين الناس، طاف بالسودان شرقاً وغرباً، وزار مناطق لا تتحدث العربية، حفظ تراث القرآن، وما كان غنياً، ويبكي لآم الفقراء، وما كان يطلب شيئاً لنفسه ولا لأحد أقربائه، استشهد أحد أبنائه، فكان غريباً في صبره وثباته وجهاده، لقد سبق زملاءه في الدعوة، والمجاهدات، جعله الله إماماً ومرشداً، ونرجو الله أن نلقاه يوم القيامة تحت ظلال رضوان الله .

النشأة، والميلاد:

ولد ياسين عمر أحمد مكي بمدينة أم درمان في مارس/آذار من عام 1931م نحو بداية العقد الرابع من استتباب الأمر للحكم الثنائي -الإنجليزي المصري- في السودان لأسرة ضاربة في التدين، كان جدُّه أحمد مكي (1850 - 1885) إمام مسجد أرباب العقائد بالخرطوم، جاءها نازحاً قادماً من بلدة المحمية شمالي السودان.

حفظ الوالد عمر الإمام القرآن على يدي أبيه، وتأهل من ثم ليكون إمام مسجد أم درمان التي استقر بها يعمل في صناعة المراكب، ويتقلّب بين مهن شتّى، لكنه لا يغفل أن يبني خلوةً يدرّس بها القرآن في ذلك الفضاء الذي استحال من بعد إلى أن أصبح المسجد الكبير بأم درمان، في ذات الوقت الذي تقلد فيه شقيقه (عبد الوهاب) إمامة مسجد أرباب العقائد بالخرطوم خلفاً لوالده الذي نفاه الحاكم الإنجليزي "غردون باشا" إلى خارج الخرطوم المحصورة يومئذٍ في نطاق ضيق، وظل منفياً هناك بالقرب من موقع حديقة القرشي الماثل اليوم بالخرطوم حتى وافته المنية، ولا يزال لقبره أثر ومعلم.

فور سقوط الدولة المهدية، واستتباب الأمر للاستعمار الثنائي خرج عمر الإمام يبحث عن أهله ونسائه اللاتي تفرقن سبايا بعد المقتلة التي أوقعها جهادية الخليفة عبد الله التعايشي بمدينة المتمة، وإذ تيسر للوالد أن يجتمع بالغائبات من أهله يعود بهن من تلقاء المديرية الشرقية ونواحي القلابات، فقد استقر بهم المقام جميعاً في مدينة أم درمان، كان لعمر الإمام يومئذ تسعة من الأولاد من الذكور وثلاث من البنات.

دراسته ومراحل تعليمه :

تنقل ياسين عمر من خلوة إلى أخرى يقرأ القرآن، ويتلقى العلم لأول مرة في أم درمان، والتحق بخلوة (ودّ القاضي) من أسرة الكتياب، ثم انتقل إلى خلوة الشيخ حسن قسم السيد من أهل شمبات، وكان أحفظ أهل زمانه وأكثرهم علماً بالقراءات والتجويد، وتقع خلوته بالقرب من المعهد العلمي أقرب إلى جامع السوق في أم درمان.

لكن الوالد ظل يمسك ياسين عن ارتياد المدارس الحكومية لا يثق في مناهج تعليمها التي صنفها المستعمر، لكن انتقال ياسين إلى كفالة شقيقه الأكبر الذي التحق بسلك القضاء هيّأ له أن ينتقل معه إلى مدينة النهود غربي السودان؛ حيث بدأ تعليمه النظامي من هناك طالباً في إحدى مدارسها الأولية التي التحق بها في يناير/كانون الثاني من عام (1940م) قضى فيها أربعة أعوام، واجتاز امتحانات النقل إلى المدارس الوسطى، وتقدم بطلب للقبول بمدرسة أم درمان الأميرية التي أرجأت قبوله إلى جولة القبول على النفقة الخاصة، وإذ تعذّر عليه تحصيل الرسوم الدراسية فقد تحول إلى المدرسة الأهلية الوسطى بأم درمان، طالباً بصفها الدراسي الأول في عام (1944م)، لكن لدى تقدمه للقبول بمدرسة أم درمان الأميرية كان ياسين عمر قد تخطى السن التي يقبل فيها الطلاب النظاميون بالمدرسة، فاقترحت عليه إدارة المدرسة أن يكون في صفوف الطلاب الذين يدرسون على نفقتهم الخاصة، وقد قررت قبوله بمبلغ (12) جنيهاً، وإذ تعذر عليه توفير ذلك المبلغ فقد انتقل إلى الدراسة بمدرسة أم درمان الأهلية برسوم أقل بلغت ستة جنيهات.

منذ المدرسة الوسطى بدا ياسين عمر ناشطاً سياسياً يوالي اتصالاته بالحركة السياسية في أم درمان، لا يتخلف عن شهود تظاهراتها التي تنزع إلى مناهضة السلوك الاستعماري يركن إلى تيار اليسار السياسي شيئاً قليلاً، تجذبه شعارات يرفعها تدعو إلى تحرير المجتمعات من الاستعمار، وأدبيات تنادي ببسط العدالة الاجتماعية، مساواة بين الناس، وتركز على تخفيف معاناة الفقراء والمقهورين صارخة بالعداء للنظم الرأسمالية التي يجسدها الاستعمار.

لكن ياسين عمر، وهو يكمل المرحلة الوسطى، ويترشح للقبول بمدرسة وادي سيدنا يعجز كذلك عن الوفاء برسوم الدراسة، إذ بلغت نحواً من ثلاثين جنيهاً، فيغادرها في العام (1951م) ملتحقاً بمدرسة (فاروق) يدرس الرياضيات حتى ينال في علومها درجة البكالوريا ويتأهل فيها لدراسة السنة الخامسة توجيهية قبل أن يتداركه الفصل السياسي بسبب من اشتراكه في إحدى المظاهرات.

clip_image004_03cf9.jpg

الانتماء للحركة الإسلامية :

نحو خواتيم الأربعينات من القرن الماضي كانت أول أوعية الدعوة تنظيماً يتخلّق تشكّلات بادئة أوساط الطلاب بجامعة الخرطوم، حركة تحرير إسلامي يستسرّون بكامل نشاطها لا يشهرونها محاذرة مما حاق بإخوان مصر من أذى واستضعاف واضطهاد اشتهر وقعه وذاع خبره يصل إليهم، فيمعنون في السريّة، لا يخرجون منشورات تحمل اسماً يميزهم، فيتركونها هكذا مبهمة غامضة.

لكن ياسين عمر الذي انسلك في صف مدرسة (فاروق) الثانوية كان لا ينقطع، يصل طلابها بالجامعة يزورهم في أحايين كثيرة بصحبة آخرين من إخوانه وزملاء دراسته، منذئذٍ التحق ياسين عمر بحركة التحرير الإسلامي.

في ذلك الوقت بدأ الإخوان في مصر يدرسون فكرة إنشاء فرع لهم بالسودان، فهم يبحثون عن قيادة يسندون إليها الأمر فتعددت خياراتهم بين علي عبدالرحمن وعوض عمر، شخصيات مشهورة بالتدين والالتزام، يعطونهم شارات الإخوان المسلمين المصرية، وإذ كانوا يبحثون عن علم مشهور بعينه فقد أخرجوا علي طالب الله من الاتحاديين يقلدونه أمر الإخوان.

وإذ ظلّ علي طالب الله الأنشط بين تلك الأسماء، فإنّ ياسين عمر مهما بدأ لأول صباه يجتمع إلى الشيوعيين الذين يزحمون مجتمع مدينته في أم درمان فقد درجوا على عادة التيارات السياسية السودانية، نحو خواتيم الأربعينات من القرن الماضي، على اختلاف توجهاتها تتبارى في اقتناص النوابغ، أصحاب المواهب، والنجوم أهل الإبداع ذوي التأثير في المجتمع والحياة تضمهم لصفوفها وتجمّل بهم مواكب عضويتها، وحيث كان الحزب الشيوعي السوداني وقتئذٍ في نهضة نشاطه وتأثيره، فقد كان يتشوّف الأفذاذ من العناصر، أصحاب الطاقات والعبقريات، فلم يكن غريباً سعيه لأن يكسب فتى من أم درمان، ثورياً، حامي الدماء فوّارها تمور نفسه بعاطفة حرّى تواقةً لنصرة المستضعفين والفقراء المسحوقين. مثّلت تلك الروح المدخل الذي ولج عبره ياسين عمر إلى الحزب الشيوعي لأول فورة الصبا وحمأة الشباب الغض، فانسلك من ثمَّ في صفوفه ماركسياً يتطلع لنصرة الطبقة الكادحة، لكنه لا يلبث أن يغادره بعد حين نافراً مستهجناً سلوكاً بدا لدى الشيوعيين إلحادياً إزاء الدين، منحرفاً كله خارجاً عن تضابط ولايات المجتمع الذي عهده محافظاً بعاداته وتقاليده لا سيما وهو يتحدّر بالأصل من أسرة دينية شديدة التدين تراثاً تالداً فيها منذ الآباء والأجداد، لكن أعمدتها اليوم من أشقائه الأكابر الشيخ حامد عمر الإمام والشيخ المقرئ عوض عمر الإمام إمام جامع أم درمان العتيق.

حينئذٍ بدأ يوالي صلته بطلاب الجامعة لا يعرف ولاءً لغير حركة التحرير الإسلامي منذ أول عقد الخمسينات، لكنه غير منتم لأسرها أو أي من تشكيلات تنظيماتها التي لا تتسع لغير طلاب الجامعة المحصورين في سكنهم الجامعي.

عمله في التدريس :

هيأت وظيفة المدرس التي التحق بها ياسين عمر فرصة سانحة له أن يتطوّف متنقلاً بين حواضر ومراكز عديدة في السودان، أهدته كذلك تجارب ومعارف جديدة وصلات بأناس في أصقاع بعيدة عن العاصمة التي قضى فيها شبابه الأول، لكنه يبدأ تجوالاً من منطقة لأخرى، فهو حيناً من الدهر عمل معلماً في مدرسة مدني الأهلية وسط السودان، لكن إن سنحت فرصة التوغل إلى الغرب منها نحو (المدينة عرب) فهو هناك يصل مزارعيها وعمالها بما يحمل من دعوة الإسلام، رجاء أن يقصر صولة المد الشيوعي بين المزارعين، لكن جولة أخرى بالتدريس حملت المدرس يومئذٍ ياسين عمر نحو الشمال الأقصى إلى مدينة كرمة، قبل أن يكمل حصة التدريب التي ينالها كل من يلتحق بمهنة التدريس في ذلك الوقت بمعهد التدريب ببخت الرضا.

نحو بداية عقد الخمسينات حمل بعض من طلاب جامعة الخرطوم الموصولين بتكوينات التنظيم الإسلامي نُذُراً لإخوانهم تنبه لفورة المد الشيوعي التي قامت طاغية تنتظم أوساط العمال في مدينة عطبرة، ذلك أنه في عام (1951م) أكمل طالبان من عناصر الإخوان المسلمين بجامعة الخرطوم ينتسبان لكلية الهندسة - قسم الميكانيكا، دورة تدريبية في ورش سكة الحديد بمدينة عطبرة وعادا بعد ستة أشهر يكتبان تقريراً نبها من خلاله لمخاطر المد الشيوعي الذي انتظم فاشياً أوساط العمال، الأمر الذي دعا قيادة الإخوان لأن تفكر في إرسال بعض من عناصرها إلى عطبرة في محاولة لمحاصرة الوجود الشيوعي بالمدينة.

وإذ أخذ التنظيم الإسلامي تلك التحذيرات مأخذ الجد فقد قررت القيادة لأول فور فراغها من مناقشة التقرير إرسال بعض من عناصرها الفاعلة إلى مدينة عطبرة من أجل التصدي لخطر انتشار الفكرة الشيوعية بين عمالها وسكانها، حيث مضت سيرة ياسين عمر في الحركة خالصة بالطاعة لأمر التنظيم، ما استنفر لمهمة في أمر الدعوة إلا نفر خفيفاً وثقيلاً، لا يثاقل إلى الأرض راضياً بالحياة الدنيا من الآخرة، فقد حزم أمره طائعاً متوجهاً صوب مدينة عطبرة مهما تكاثفت عليه ضغوط الأسرة ترجو إثناءه عن عزمه مغادرة العاصمة، إذ اجتهد بعضاً من أشقائه وأعمامه أن يوفروا له وظيفة براتب جيد في الخرطوم على نحو ما فعل أحد أقربائه (محمد عمر البشير) الذي أخبر عوض عمر أنه وجد وظيفة مدرس يمكن أن يشغلها ياسين عمر بمدرسة الشعب يبلغ راتبها ثلاثين جنيهاً، لكن ياسين عمر أصر على أن يسافر إلى عطبرة حين أقنعهم بأنه وجد وظيفة هناك يصل راتبها إلى ثلاثة وثلاثين جنيهاً، ومضى إلى التكليف مهما تقاصرت عنه عزائم بعض إخوان آخرين.

مدافعة مدّ الحزب الشيوعي في السودان :

تميزت مدينة عطبرة بخاصية فريدة أوجدتها بارزة بالنهضة والازدهار بين المدن السودانية التي بث فيها الحكم الاستعماري روحاً ونشاطاً، فمهما كانت عطبرة مدينة صغيرة ومحصورة المساحة لأول عهدها، لكن سكانها متجانسون، منسجمون رغم تعدد أعراقهم وقبائلهم يوحدهم ويؤلف بينهم مصدر رزق تهيّأ لهم يجنون كسبهم عمالاً وموظفين في هيئة سكة الحديد، لكن كثافة الوجود العمالي بالمدينة أهّلتها لدور آخر مستمد من الحركة العمالية.

إذ شهدت مدينة عطبرة نحو منتصف عام (1946) قيام أول تنظيم للعمال حمل اسم (هيئة شؤون العمال) مهما بدا لأول وهلة يحمل سمة جمعية خيرية تعاونية، لكنه في جانب آخر كان تنظيماً نقابياً يجسد حركة العمال المنظمة. التقط الشيوعيون السودانيون الذين كونوا يومئذٍ تنظيم (الحركة السودانية للتحرر) في عام (1944) زمام المبادرة ومضوا ينشطون في مدينة عطبرة من خلال (هيئة شؤون العمال) يبسطون شعارات براقة، يجعلون من حالة البؤس والفقر التي يعيشها العمال ميداناً لنضالهم.

دخل ياسين عمر إلى عطبرة بتوجيه من التنظيم الإسلامي، يرجو أن يتيح له عمله غطاءً للعمل الدعوي الإسلامي وسط العمال في المدينة التي يكاد الشيوعيون يبسطون فيها مناشطهم ومنظوماتهم، فدخلها ياسين عمر هكذا على حين غفلةٍ منهم لا يعرفونه إلا موظفاً عاملاً بهيئاتها ومؤسساتها، مهما نشط في ساعات فراغه يبث دعوته سراً بين عمالها وأهلها، شأن كل مناشط التنظيم الذي لم يجاهر بندوة أو منشور معلن، قبل أن يعود عاملاً هو الأول تفرغاً للعمل التنظيمي بين أعضاء التنظيم.

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أناخت بها ركائب ياسين عمر لدى مدينة عطبرة، إذ سبق أن حل بها خلال الزيارة التي قام بها محمد بديع صقر في وجوه من الإخوان المسلمين المصريين، وطافوا على مدن من السودان، وأقاموا ندوات ومحاضرات بمدينة عطبرة، تركت أثراً كبيراً بالمدينة، إذاً فقد جاء ياسين عمر إلى عطبرة هذه المرة يحمل تكاليف التصدي للفكرة الشيوعية، فاستطاع خلال ستة أشهر أن يحدث تحولاً رجح به ميزان التدافع السياسي لصالح الإخوان المسلمين، إذ استطاع مع إخوانه أن ينسج لحمة التحالف السياسي الأول بين حزبي الأمة والاتحادي داخل مدينة عطبرة.

ثم يوالي تدابيره إلى داخل ذات تشكيلات التنظيم الشيوعي يفرق جماعته ويحدث انقساماً حاداً داخله، قبل أن يتضافر جهده الأتم إلى إخراج الشيوعيين من دار الخريجين في عطبرة، ويستخلص قيادة النقابة العمالية الأشهر (هيئة شؤون العمال) من بين أيديهم فيسلم زمامها لرجل من خارج دائرة الولاء للحزب الشيوعي، إذ كان له دور كبير في اختيار "علي بشير" أحد وجوه العمل النقابي سكرتيراً لهيئة شؤون العمال.

لكن الفتح الأكبر الذي جرى على يدي ياسين عمر في عطبرة كان هو ذلك الوجود الذي أضحى ظاهراً لحركة الإسلام بين عمال سكة الحديد في المدينة نواة لجهود مباركة تتابعت متعاقبة جيلاً من بعد جيل.

استغلت إدارة سكة الحديد النشاط الأول لتُوقف ياسين عمر عن أداء وظيفته، حين ثبت لديها مشاركته في الإعداد لتظاهرة احتجاجية وسط موظفي سكة الحديد، بل امتد سلطان مدير سكة الحديد إلى إدارة شركة الإسمنت التي توجه ياسين عمر من بعد للعمل لديها، لولا أن خضعت لأمر يمنعها عن أن تستوعبه ضمن قواها العاملة، قبل أن يصدر أمر تنظيمي قضى بعودة ياسين عمر إلى الخرطوم، فعاد للعمل في التدريس بمدرسة الأحفاد في أم درمان في عام (1953م).

جولة أخرى من جولات منافحة الشيوعية ومغالبتهم على الأجهزة النقابية للعمال والمزارعين حملت ياسين عمر الإمام هذه المرة نحو وسط السودان، وقد خلت النُذُر من بين يديه تنبئ أن الشيوعيين قد تسللوا إلى اتحاد المزارعين بالجزيرة يحكمون سيطرتهم على قيادته، وإذ تلقى التكليف الرسمي من قيادة التنظيم أن يضطلع بمهمة مدافعة الشيوعيين في تلك الأصقاع من الجزيرة، فقد يمم ياسين عمر من فوره، لكنه هذه الجولة يدخل إلى الجزيرة مدرساً بمدرسة ود مدني الأهلية (1955م) قبل أن يتوغل داخلاً إلى قلب المشروع الزراعي نحو الغرب من مدني نحو (المدينة عرب)، حتى تتهيّأ له فرصة الالتحام الأشد بجموع المزارعين يبارز رؤوس الشيوعية وسطهم.

وقاد ياسين عمر صراعاً عنيفاً مع الشيوعيين وسط المزارعين في الجزيرة يناظر وجوهاً منهم (كامل محجوب، الأمين محمد الأمين، يوسف مصطفى) قبل أن تنجلي المعركة بذهابهم وقد خلفهم في قيادة اتحاد المزارعين شيخ الوالي وشيخ الإزيرق كل ذلك بتدبير وعمل كثيف أشرف عليه ياسين عمر الإمام.

تحدٍّ آخر لاح نحو بداية عام (1959م) عنوانه مدافعة الشيوعية التي بدأت بين الطرفين منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي تسم علاقة حركة الإسلام، الناشئة لأول عهدها، بالحزب الشيوعي بما حملت تلك العلاقة من صراع وتنافس على الاتحادات والنقابات في ميادين العمل وسوح العلم بين العمال والطلاب، لكن ميدان المدافعة انتقل في هذه المرة إلى ساحة المدارس الوسطى، نحو بلدة (كرمة) إلى الشمال الأقصى من السودان، وإذ مضت السُّنة أن تأتي التقارير من الأصقاع تخبر بتمدد الشيوعية وتغلغل عناصرها في بيئة العمال أو الطلاب، وتردف ذلك بطلب القيام نحو تمام كفّه وعدل ميل كفة ميزانه، فقد تقرر إرسال وجه من قيادة الإخوان المسلمين في الخرطوم؛ ليتولى إدارة شؤون مدرسة كرمة التي أرسل بعض أهلها يشكون تغلغل الشيوعيين في مجتمعها يمسكون أزمة إدارة مدارسها، إذ ذاك وجهّت قيادة الحركة "صادق عبدالله عبدالماجد" بالسفر إلى كرمة للعمل هناك، فاعتذر عن القيام بذلك التكليف فاستجاب ياسين عمر لداعي التوجيه بأن يمضي إلى بلدة كرمة نحو بداية عام (1959م) عاملاً في نشر الدعوة وقائماً في مواجهة المد الشيوعي هناك، يدعِّم قوائم حركة الإسلام حتى أضحت وجوداً ظاهراً في تلك الأنحاء من شمال السودان، لكن ياسين عمر الذي ظل مرابطاً عاملاً بالشمالية حتى هبّة الشعب الأولى في أكتوبر/تشرين الأول (1964م) رأت قيادة الحركة استدعاءه إلى الخرطوم فور اكتمال حراك الثورة الشعبية واشتراع العمل التنظيمي الأدق نحو تأسيس جبهة الميثاق الإسلامي، فعاد إلى الخرطوم ثمة ينشط في ساحة أخرى من ساحات عمل الدعوة التنظيم.

أحداث مهمة في ساعة تأسيس التنظيم الإسلامي في السودان :

اعتمد التنظيم الإسلامي في السودان لأول تأسيسه، وسيلة الاتصال الفردي بآحاد من الناس يستثمر ضمن عمليات التثقيف بالفكرة الإسلامية، مكتوبات الإخوان المسلمين مما يصل من مصر إلى السودان، وطائفة من رسائل الإمام حسن البنا، وكتب أبو الأعلى المودودي والغزالي بغير رابطة تنظيمية تجمعهم بأصل التنظيم في مصر إلا اسماً يدمغهم به عداء الشيوعية التي مضت لأول الأمر تستشعر خطر نشاط الحركة فأخذت تحاول أن توظف يومئذٍ وسائل الإعلام المصرية الطاغية بصوتها ودعايتها تغري بعداوة الإخوان المسلمين في مصر.

إذ بدأت الحملة على الإخوان المسلمين محدودة هينة لأول مرة، لكن سرعان ما استجدت بالمستعمر البريطاني نظرة شديدة الريب تستشعر خطورتهم حينما ولجوا داخلين إلى ساحة الجهاد في فلسطين نحو العام (1948) فاشتدت عليهم وطأة الاعتقال واستحرّ لأول فور عودتهم من ميدان الجهاد.

وإذ تأثرت ثقافة الشيوعيين السودانيين، ساعتئذ، بأدب الشيوعية في مصر وثقافتها التي يمدهم بها من خلفهم اليهود، فقد مثّلت الإذاعة المصرية رافداً مهماً في جميع أدبياتهم وهي تتعبأ دعاية مضادة يرجو شيوعيو السودان أن ينتقل شيئاً من سُعار تلك الحملة الإعلامية نحو التنظيم الإسلامي في جامعة الخرطوم الذي بدأت كذلك تشير إليه بوصفه (جمعية دينية) تحقيراً لشأنه وصداً عن سبيله بما سار من عرف استصغار مادة الدين في المجتمع ومناهج التعليم بالمدارس والمعاهد واستحقار المشهورين برعاية والفقه والقرآن.

وقد حفلت الساحة السودانية نحو بداية سنوات الخمسينات بحراك سياسي واسع تمخض عنه توقيع اتفاقية تقرير المصير، وجرت خلال ذلك انتخابات عامة تفوق فيها الحزب الاتحادي لأول مرة وسادت سعادته قبل أن يعود فينتكس كسبه الإعلامي بأثر من سيادة حكم العسكر وطاغوتهم على ساحة السياسة المصرية وما قابل ذلك من تظاهرات على صعيد الجبهة السودانية ابتدرها الإسلاميون تندد بمصر وتدعو إلى استقلال كامل عنها.

سبق جميع ذلك تطور مهم على ساحة التنظيم الإسلامي الداخلية، وإذ مضى الحزب الشيوعي يشهر نفسه حزباً سياسياً في ميدان السياسة السودانية، فقد أثار ذلك حماساً يدعو الإسلاميين إلى مكافأة بالخطوة، لكن مهما يكن التنظيم الإسلامي قد أكمل عدته نحو تمام ساعة الجهر والإعلان عن ميلاده، فقد وافى ذلك التطور الانقسام الأول بين صفوفه، إذ وقع الانقسام الأول الذي خرج بموجبه بابكر كرار بين يدي المؤتمر التأسيسي الذي خرج من بعده التنظيم يحمل اسم الإخوان المسلمين فى الجامعة والبينونة التي حازت الحركة الأخرى المتفرعة من الإخوان المسلمين بمصر، وذلك دعا إلى مؤتمره التأسيسي الذي بدأت أعماله (1954) وإذ تباينت الاقتراحات فيه في شأن تسمية التنظيم بين جماعة ترجو أن يحمل اسم (الجماعة الإسلامية) وأخرى ترجو نصرة وتضامناً مع إخوان مصر الذين اشتدت بهم المحنة وعظم بلاء الاضطهاد..

فقد أمضت الأغلبية اسم "الإخوان المسلمين" وسماً للتنظيم السوداني لكن دون التزام يلحقه تابعاً للجماعة في مصر التي لما تكن خرجت من وصفها "جمعية الإخوان المسلمين" فلم يجد التنظيم السوداني الجديد ما يأخذه عنها ساعة كتابة نظامه السياسي فمضى قادته يكتبونه هم لا يستلهمون في نصوصه كثيراً من تراث الإخوان في مصر مهما حملت الصحيفة الناطقة باسمهم -كذلك- اسم الإخوان المسلمين فقد حملت الصحيفة التي أصدرها تنظيم الإخوان المسلمين في السودان لأول مرة اسم "الإخوان المسلمين" ورأس تحريرها محمد خير عبدالقادر وكان قد التحق بمصر للدراسة كما كان يحمل توجهات أدبية أهلته لإدارة الصحيفة.

من بعد خروج السودان من الاستعمار البريطاني وتخرّج قادة الحركة الإسلامية الأُول وانفتاح التنظيم إلى خارج أطر الجامعة، فقد مضى بناؤه يستوعب الأعضاء من غير الطلاب في تشكيلات تنظيمية عرفت بالشعب الخارجية لكن المنظمة من بعد أخذت تضم عضوية من مدن السودان تتبع جميعها لرئاسة الحركة في السودان من داخل جامعة الخرطوم.

وكان يس عمر آنئذٍ يفد إلى الجامعة بعضاً من أولئك الخارجيين، لكنه الأول متفرغاً للعمل التنظيمي بعد قدومه من التدريس لأول خروج الحركة للعلن تنظيماً مشهوراً باسمه ومكاتبه.

جبهة الدستور الإسلامي :

وافت الانتخابات الأولى من بعد تمام اكتمال استقلال السودان بالسيادة الوطنية، وافت تطوراً مهماً ضمن سياق العمل الإسلامي الذي كانت قد خلصت مسؤولية إدارة تنظيمه إلى الرشيد الطاهر بكر، لكن تنظيم الإخوان مهما يكن معتزلاً وقائع الانتخابات، يتعذر عليه أن يخوض منافساتها بمرشحيه وقوائمه فقد أحرز نجاحاً في تأليف جبهة عريضة مضت تضاغط الأحزاب السياسية تحمل إليها أمل التواضع على دستور إسلامي يحكم البلاد.

إذن فقد قامت (جبهة الدستور الإسلامي) تحالفاً عريضاً يضم الإخوان المسلمين إلى أعلام من الاتحاديين ووجوهاً من الشخصيات السودانية الأبرز في المجتمع وشيوخ الطرق الصوفية، تقوم كلها جهوداً متباركة يتوحد دفعها كله قصداً نحو الدستور الإسلامي لكنها أيضاً توالي اتصالاتها إلى زعماء الأحزاب التقليدية وقادة العمل العام تجاهد أن تزكي فيهم حماسةً لإمضاء دستور إسلامي، مرجعاً إلى الأصول الدينية للطوائف التى قامت على قواعدها تلك الأحزاب التقليدية وقد كان يس عمر شاهداً حاضراً يسهم عبر مجموعة الضغط تلك بجهد وافر في قيادة الدعوة إلى الدستور الإسلامي عبر الخطابة والمحاضرات والندوات العامة حيثما سارت وتهيأ المسرح للقاء بالجماهير.

خلال ذلك ظل التنظيم داخل جامعة الخرطوم يحتفظ بخصوصيته مبايناً باسمه لا يحمل ذات اسم التنظيم الذي اشتهرت به الحركة الإسلامية إذ خرجت نحو ساحة العمل السياسي وقد مضى التنظيم داخل الجامعة يوالي سيطرته على إدارة كامل العضوية من طلاب الثانويات في مختلف بقاعهم، فقد استقر ذلك التنظيم الطلابي أزماناً متطاولة يعرف بـ(الاتجاه الإسلامي) حتى إذا حاول بعض الإسلاميين من طلاب الجامعة في وقت متأخر إنشاء جسم يطابق (جبهة الميثاق الإسلامي) كانت التوجيهات من أمانة الجبهة أن يحتفظ الطلاب بتنظيمهم متفرداً لا يطابق شيئاً من اسم تنظيم الخارج.

إذ شهدت ساعة إنشاء جبهة الميثاق الإسلامي سعي مجموعة من طلاب جامعة الخرطوم أن تشكل تنظيماً يماثل الجبهة ويحمل ذات اسمها قبل أن تتدخل قيادة الحركة وتقوم بحل ذلك التنظيم وتصدر توجيهاتها للطلاب أن يحتفظوا على الدوام باسم خاص وتنظيم خالص، فلا يصل إليهم شيء مما يقع في معترك السياسة مما يحمل تكاليفه تنظيم الإخوان المسلمين.

انقلاب الفريق عبود :

فور وقوع الانقلاب الأول (نوفمبر 1958) الذي قوّض الديمقراطية الناشئة لأول عهدها عُقيب الاستقلال، خبت أيما فاعلية لتنظيم الإخوان المسلمين في ساحة الجهاد العام، إذ لم تر قيادته من تجربة الانقلاب العسكري إلا مثالاً يكافئ خطة الخسف والاضطهاد التي سامها النظام العسكري في مصر لجماعة الإخوان المسلمين، وإذ انصرف ساعتئذٍ غالب القمع والاعتقال إلى الحزب الشيوعي، الذي كان فعله أشد وقعاً وتأثيراً في الساحة فإن عساكر نوفمبر لم يأبهوا لتنظيم الإخوان المسلمين، الذى لمّا يحمل قيمة أو تأثيراً يسوّغ استهداف قيادته أو أعضائه بالملاحقات والاعتقال، فلم يقع شيء من ذلك بين صفوف عضوية التنظيم الذي مضى يمعن في السرية والخفاء لا يظهر شيئاً من نشاطه إلى العلن.

لكن نقاشاتٍ داخلية ظلت محتدمة بين العضوية التي انقسمت بين من جاءوا من مصر، مشربين بأدبيات التنظيم المصري الموغل في السرية، يحاولون أن يحفظوا للتشكيلات التنظيمية من مكاتب وأُسر ذلك التراث من الخصوصية، وبين آخرين بدوا غير منفعلين بتلك التدابير لا سيما من برزوا في عضوية التنظيم العائدة من رحلات العلم في الغرب الذين مضوا ينادون بضرورة فتح المناشط الدعوية والتربوية للأسرة على ملأ الجمهور وأمام العامة في المساجد والساحات.

ذلك النقاش تطور من بعد يأخذ منحىً جدياً يرجو تمام موالاة الانفتاح على ساحة الوطن الكبري وانتقال التنظيم إلى حزب سياسي على غرار الأحزاب الموجودة في الساحة السياسية السودانية، إذ شهد المؤتمر الذي عرف بمؤتمر العيلفون نقاشات جادة حول ضرورات تطوير التنظيم والانفتاح به لمدى أوسع يمكّنه في مقبل الأوقات من التحول إلى حزب سياسي كامل الأشراط. لكن نشأة يس عمر الإمام الأم درمانية، المنفتحة، المتفاعلة مع الآخر أسعفته خلال ذلك النقاش المحتدم أن ينحاز إلى المجموعة التي تدفع نحو تمام انفتاح التنظيم وتحوله.

لكن سؤالاً آخر ثار، في تلك المرحلة، حول مصير عضوية التنظيم ممن يلتحقون بالجيش، وإذ كان التنظيم بعيداً عن أيما فكرة لاختراق القوات المسلحة السودانية بأفراد من عضويته الملتزمة تبث ضمن تشكيلات قواتها لساعةٍ يمكن أن توظف فيها للتغيير، فإن النقاش أنصب بالأساس حول الطرق التي يمكن من خلالها متابعة العضوية التي تلتحق بالجيش، فلا تنقطع عن التنظيم وتنعزل وتتساقط مفقودة الولاء، فإن عزّ انخراطها ضمن تشكيلات التنظيم ومناشطه فثمة يتيسر وصلها اجتماعياً، سبيلاً أوفق لحفظها رصيداً في صف الولاء للفكرة.

إلا أنه مهما شهد حكم الفريق عبود أعمالاً عدائية من بعض ضباط عرف عنهم الولاء لجماعة الإخوان المسلمين، فإن ذلك لم يعد كونه عملاً فردياً بعيداً عن توجيهات قيادة التنظيم التي لم تتورط في شيء من تلك الأعمال، بل إن ذات المسؤول الأول للتنظيم، الرشيد الطاهر بكر، الذي تورط ضمن تدابير محاولة انقلابية على حكم الفريق إبراهيم عبود، وكان يتحرك بصفة شخصية بعيداً عن علم المكتب القائد للتنظيم مهما يكن قد استغل صلاته ونفوذه في الاتصال ببعض عضوية التنظيم من أجل توفير الدعم اللازم للعملية والتبشير بالانقلاب فإن جميع ذلك كان يدور بالتمام من خلف ظهر المكتب التنفيذي.

كذلك خلال فترة حكم انقلاب عبود كانت هنالك مجموعات ممن انتظموا في أوقات مختلفة ضمن تنظيم الإخوان المسلمين قبيل التحاقهم بالجيش، وقد عمل بعض أولئك من داخل الجيش وشارك بعضهم بصفاتهم الخاصة في تحركات ضد حكم الرئيس عبود إلا أنهم اعتُقلوا وتم إعدامهم بموجب القوانين العسكرية وكان بين أولئك: الملازم عبدالحميد عبد الماجد الذي كان يعمل في سلاح الخدمة والصادق محمد الحسن وعبد البديع وكلهم تم إعدامه.

ثم يتابع الكاتب عبد الحميد محمد أحمد، فيقول :

من بعد هدأته كامناً لأول بدعة الانقلابات العسكرية في السودان، بدأ التنظيم الإسلامي يرتب صفوفه، وتنتظم حركته فاعلة متصاعدة على صعيد الساحة السياسية مهما كانت مناشطه ومنشوراته سرية مبهمة لا تشهرها تواقيع معلومة أو سمة مائزة تحمّل التنظيم تكاليف الملاحقات الأمنية، لكن عودة أحد أبرز القادة الإسلاميين من بعثته العلمية في فرنسا دفعت روحاً جديداً تحي جذوة الجهاد في أوصال الجماعة فتشترع لها نهجاً أكثر سعة وانفتاحاً نحو ساحة الوطن الأكبر.

لكن ظهور د. حسن الترابي القادم لفوره من أُروبا يحمل شهادة دكتوراه الدولة من جامعة السوربون، أرقى جامعات فرنسا عام 1964 هيّأ له سانحة المشاركة في ندوة سياسية بجامعة الخرطوم أثارت مداولاتها أزمة جنوب السودان، وإذ جاء حديث الترابي في سياق الخط العام لخطاب التنظيم لا يقصد منه تعبئة شعبية تهب نحو إسقاط النظام فقد التقط اتحاد الطلاب في جامعة الخرطوم بقيادة ربيع حسن أحمد، من بعد تجميد نشاط الاتحاد واعتقال حافظ الشيخ ومجموعته، ألتقط حديث الترابي في الندوة ومضى يصعّد الاحتجاجات الطلابية استجابة لدعوة الترابي بالعمل من أجل تمام تغيير الحكم العسكري الشمولي المركزي، مدخلاً لحل أزمة إقليم جنوب السودان مما صعّد في الجامعة وتيرة العمل السياسي المناهض للحكم العسكري، وإذ تعبّأت السلطة بعنف مضاد تحاول قمع ثورة الطلاب، وكبت حراكهم فقد تداعت تلك الوقائع جميعاً حتى أدت إلى أول ثورة شعبية في العصر الحديث (21 أكتوبر 1964) تقتلع أول نظام حكم عسكري شمولي في السودان.

جبهة الميثاق :

فور نجاح ثورة الشعب في أكتوبر (1964) بدأت نشاطات كثيفة تنتظم ساحة تنظيم الإخوان المسلمين وهو يتهيأ لمرحلة تنفسح فيها الحريات ويتسع المدى لنشاط الأحزاب السياسية، فما كاد الشهر يكتمل على سقوط النظام العسكري حتى تأسست (جبهة الميثاق الإسلامي) التي ضمت أطيافاً من فعاليات في المجتمع السوداني توحد تصوراتهم ورؤاهم الإسلامية في السياسة والحكم وتؤلفهم في جبهة واحدة، هكذا نشأت جبهة الميثاق التي بادر الإخوان المسلمين فدعوا وجمعوا إليها أفذاذاً من شيوخ الطرق الصوفية وقيادات أنصار السنة المحمدية ووجوه المجتمع لكن غالب أمرها يبرم بليل داخل كواليس التنظيم الإخواني المستسر يومئذٍ بكامل أمره داخل سراديب شديدة الحذر والكتمان بينما تعمل الجبهة بوجوه قيادتها ونظمها ومناشطها في العلن.

اضطلع يس عمر الإمام بدور فاعل في مشروع تأسيس جبهة الميثاق الإسلامي ودعمها، إذ كان ضمن المكتب القائد للجبهة في وجوه من الإخوان المسلمين في السودان من أمثال، حسن الترابي، محمد محمد صادق الكاروري، محمد صالح عمر، جعفر شيخ إدريس.

ومضى يس عمر مع الإخوان يوالي اتصالاته بشيوخ الطرق الصوفية وقيادات المجتمع السوداني، هذا سوى حركته الدائبة في الطواف المتصل إلى غالب أقاليم السودان يصل إلى نجعه وصقعه ويطوف بمدنه وقراه الأبعد نحو الأرياف والأطراف يخاطب جماهيرها من خلال الندوات العامة والمحاضرات يبشر ببرامج جبهة الميثاق ورؤاها في السياسة وأكثر ما يذكر الشيخ الترابي أنهم خلال تحركاتهم لتأسيس وتدعيم جبهة الميثاق الإسلامي كانا هو والشيخ يس عمر الإمام يطوفان غالب أقاليم السودان يصلان إلى المناطق الأبعد وربما ذهبا بسيارة واحدة يتبادلان قيادتها على طول الطريق.

أتاحت تجربة جبهة الميثاق لقادة الإخوان المسلمين سانحة طيبة مكنتهم من خوض غمار الانتخابات التي أعقبت ثورة أكتوبر في السودان ليختبروا من ثم وقع حركتهم وتأثيرها متحالفة مع اخوتهم في دعوة الاسلام العامة.

لكن اختبار الحركة لمدى تمثيلها في تلك العملية كان يتقاصر فيما سوى دوائر الخريجين فأعداد الذين خاضوا منافسات النيابة لم تصل إلا إلى عشرة من أعضاء التنظيم، تساقط جميعهم في عاقبة كسب تلك الجولة سوى الأمين العام الذي أشتهر اسمه نجماً لامعاً لما قام به من دور في إشعال ثورة الشعب التي أسقطت النظام العسكري في اكتوبر ولم يرافقه نائباً إلى البرلمان إلا واحداً من الخريجين واثنين من قائمة الإخوان في الدوائر الشعبية فقد أكلمت جبهة الميثاق قائمة مرشحيها بيس عمر وشقيقه عوض عمر ولكن سقط كلاهما ضمن أعضاء المجموعة على حين فاز من تلك القائمة الشيخ الترابي فوزاً باهراً يرافقه آخر إلى أول تجربة برلمانية للإخوان.

لكن مهما كانت كسوب الحركة ضئيلة في تلك الانتخابات لا تتجاوز بضع مقاعد في برلمان الشعب أربعةً منها منافسة وفوزاً واثنان انضماماً إليهم إلا أن بسطة الحريات العامة التي جاءت من ثمرات أكتوبر والنظام الديمقراطي الخالف لها أتاحت مجالاً للنشاط الأوسع للحركة عبر الندوات العامة بل طرقت مجالاً آخر في الإعلام فأصدرت صحيفتها (الميثاق) ليبرز يس عمر الإمام في ميدان جديد رائداً للإسلاميين في العمل الصحفي والإعلامي نشطاً في أعمال تحرير صحيفة الميثاق وكاتباً راتباً على صفحاتها.

كذلك استثمرت الحركة المساحة الواسعة من حرية العمل السياسي في بناء قواعدها الجماهيرية حتى تقلّص الفارق القائم بتقدم الحزب الشيوعي الذي كان يسبقها بكسبه في قواعد العمال والطلاب، لكن واقعة حل الحزب الشيوعي في العام (1969) أهدت الحركة تفوقاً جعلها في موقع متميز لم تكن تنتظره، إذ ما لبث ان اتخذ المكتب القائد للحركة قراراً يؤيد المضي نحو دعم قرار عاجل بحل الحزب الشيوعي بينما نشط فاعلون من عضوية الحركة اشتهروا بإتقان أعمال التعبئة والتحشيد الجماهيري في تأجيج الاحتجاجات المناوئة للحزب الشيوعي بدواعي الخطيئة التي قارفها أحد منسوبيه ذكر بيت النبي الشريف، ونجحوا في إخراج الجماعات السلفية والطرق الصوفية يصفُّون مواكبها أمام مقر رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري الذي لم يجد بُداً من تأييد مطالبهم بحل الحزب الشيوعي وإخراجه من برلمان الشعب الذى احاطت به تلك الجماهير وتداعى النواب للاستجابة بتعديل للدستور يحظر الحزب الشيوعي الذي لا يؤمن بالديمقراطية النيابية وحل تنظيمه القائم واخراج النواب باسمه من البرلمان.

مؤتمر بحري :

شهد مفتتح العام (1969) صراعاً آخر على جبهة الحركة الداخلية قاده أحد وجوه التنظيم السابقين بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين جاء قادماً من أوروبا يرجو قطع الطريق على الترابي أن يصل إلى موقع الأمين العام في التنظيم وجبهة الميثاق *وخاض "جعفر شيخ إدريس" الذي قطع دراسته في بريطانيا عائداً ليشهد ذلك المؤتمر صراعاً شديداً حتى يحول دون تقديم الترابي للقيادة وقد ناصره في معركته تلك مكتب الطلاب في جامعة الخرطوم الذي كان ينشط خلاله، حاج نور، جعفر ميرغني، علي عثمان محمد طه، الزبير بشير. وقد     كان مرشح هذه المجموعة هو الصادق عبد الله عبد الماجد لولا أنه وقع تحت ضغط عنيف مارسه عليه محمد صادق الكاروري اضطر من بعده لسحب ترشحه مما أضطر المجموعة لأن ترشح جعفر شيخ إدريس ذاته ليحصل فقط على ثلاثة أصوات مقابل الترابي الذي حصد كامل أصوات المؤتمرين المتبقية لتحسم مداولات ذلك المؤتمر الصاخب بضاحية بحري المعركة لصالح تقديم الترابي أميناً عاماً للتنظيم.

انقلاب مايو العسكري :

استقبل غالب أعضاء المكتب القائد لجبهة الميثاق اليوم الثاني لانقلاب (25 مايو/1969) في سجن كوبر على الشاطئ الشمالي للنيل الأزرق المقابل للعاصمة الخرطوم، كما استقبلوا اليوم الأخير لحكم النميري في (6 أبريل 1985م) في السجن ولكن هذه المرة بمدينة الأُبيِّض التي تتوسط السودان، وإذ تطاول الاعتقال الأول يربو على ثلاثة الاعوام الأولى لحكم العقيد جعفر نميري فقد تكررت الاعتقالات من بعد "ثورة شعبان" التي أثارتها عضوية الحركة في أغسطس من العام (1973) ثم حميت من بعد ردة المصالحة مرة ثالثة وفي كل تلك النكبات كان يس عمر الإمام من أوائل من يذهبون في قيادة الحركة إلى السجون والمعتقلات المايوية، وإذ كان الأمين العام للحركة الإسلامية الشيخ حسن الترابي قد استقر رأيه من بعد ثورة أكتوبر 1964 أن الجيش السوداني قد ازدهد السياسة، فإن وجود يس عمر برفقته داخل معتقل كوبر لأول العهد المايوي كان عاملاً مهماً في إعادة ترتيب أفكار الأمين العام لا سيما تحت إلحاح يس عمر الإمام على ضرورة تأسيس خلايا للحركة الإسلامية داخل التشكيلات والوحدات العسكرية للجيش والتهيؤ للتغيير عبر تلك الوسائل مستشهداً ومعضداً رؤيته بحوادث الانقلابات العسكرية التي لم تكن تهدأ في العالم الثالث.

كذلك ظل يس عمر يحمل أثراً من سابق صلته القديمة بالحزب الشيوعي السوداني لم يحرره التزامه في صف الحركة الإسلامية من رؤى وأفكار عميقة متعلقة بالمؤسسة العسكرية أثراً يلازمه منذئذٍ، فكان دائم الدفع من داخل الأطر القائدة للتنظيم الإسلامي باتجاه إنشاء مكاتب خاصة داخل الجيش يستقطب إليها من ضباطه وجنوده عناصر متوالية مع صف الحركة الإسلامية يعدون لساعة يدفعون عنها استهدافاً طارئاً أو ريباً طائشاً، أو أداة ضبط وردع تنفذ خيارات الحركة في التغيير العسكري وإذ ظلت الفكرة مرفوضة من قبل الغالبية القائدة في التنظيم فقد مضى يس عمر يسخر من مثاليتهم البالغة، لا يجد فيهم إلا مجموعة من الأكاديميين لم تصقلهم بعد تجربة سياسية عاصفة وتعضهم بأنياب أغوال العسكر.

إذن فقد نقل يس عمر معركته تلك من داخل الأطر التنظيمية إلى ساحة الإعلام المفتوح والرأي العام فمضى نحو خواتيم الستينيات ينشر مقالاً صحافياً من خلال صحيفة "الميثاق الإسلامي" التي يشغل رئاسة تحريرها ينبّه من خلاله للحركة المحتدمة النشاط داخل صفوف القوات المسلحة من أجل صف وتنظيم قوى العسكريين والضباط من الشيوعيين واليساريين القوميين يتهيؤون للانقضاض على السلطة والاستيلاء على الحكم في السودان، وبلغ يس عمر في مقاله ذلك مبلغاً بعيداً من الصراحة وهو يفصل تلك التدابير ويسند قيادة جهدها وتنسيقها إلى ضابط بعينه يفضح اسمه ورتبته (العقيد جعفر محمد نميري) فلم يكن أمام العقيد النميري ساعتئذٍ إلا أن يتوجه إلى مقاضاة صحيفة "الميثاق الإسلامي" ورئيس تحريرها، إذن فقد صدقت من بعد تحذيرات يس عمر وأنقض النميري ضمن ضباط الحزب الشيوعي والقوميين العرب يستولون على السلطة ليحمل يس عمر مباشرة من ثم معتقلاً إلى سجون مايو في رفقة الشيخ الترابي من قبل أن يعتقل رئيس الحكومة والمسؤول السياسي الأول في البلاد.

يس عمر الإمام .. مؤذن الإسلاميين .. مهندس البناء، و(إمبراطور) الإعلام :

كتب (النذير السر ): في 3 نوفمبر  2016 م يقول :

أم درمان المدينة الوطن .. الوطن المدينة تفردت بكونها المدينة التي أسس بنيانها على الافتراع السوداني المحض كمقابل لخرطوم غردون باشا فاتسعت مناخاتها لتستوعب السودان المتنوع فكانت الشخصية الأم درمانية المرتكزة على الوضوح والشفافية والطلاقة .. وذلك كنتاج مباشر لصدقية التعارف بين مجموعاتها السكانية ذات المدينة التي انفتقت منها الإرادة الوطنية وانطلقت أهازيج الفرح بانتصار الثورة المهدية بالعبور للخرطوم ونحتت على جدران وذاكرة التاريخ الوطنى أن أحد فرسانها من قضى على غردون واطلق اسمه على أحد أحيائها (ودنوباوى) ذاتها من تحملت دون غيرها ثمن قدح زناد الالتحام الوطني في مواجهة الاستعمار فبمثلما كانت (أبو سعد) ثنية استقبال للمهدي في طريق قدومه الميمون كانت (كررى) على موعد لمواجهة قوات كتشنر في غزوه المشؤوم فأضحت بحق هي بوتقة انصهار ليست للأجناس والثقافات وإنما للمشاعر نفسها إنها مدينة الفرح والانتصار ومدينة الحزن المسقى بدماء الأنصار وبرغم هذا لم تعلن هذه المدينة الفتية الحداد وتلف نفسها بالسواد فسرعان ما استجمعت طاقتها وكيفت ثوريتها ومدت مبادراتها للتوعية والتزكية والتعليم عبر مبادرات خالدة لنشر التعليم انطلاقاً من منصة تقع في الوسط تماماً بين (أبو سعد) و( كرري) فكان نادي الخريجين، وكأنها بذلك تختط طريقاً جديداً للنظر للمستقبل بعيون عدة شملت الشعر والغناء والعمل السياسي الحديث

الأمدرمانى الشفيف:

فهذه المدينة التي لا تعرف التثاؤب والانهزام كانت تمارس عادتها في العطاء عبر إعلانها الذى لاشك إنه كان في أحد نهاراتها الموارة بالحياة أو لياليها الموشحة بالإبداع تعلن ميلاد يس عمر أحمد مكي في العام1931م..

كحفيد لآل الإمام الأسرة التي عرفت بإهتمامها بالعلوم الدينية وإمامة الصلاة بأم درمان قضى يس نحو تسع سنوات بأمدرمان لاشك في أن حيشانها ونفاجاتها لونت داخله بالقدرة على التواصل ووسمته أزقتها التي تفوح بعطر التواريخ القديمة بكاسات الحميمة التي لا تفتر هذا قبل أن يغادرها إلى مديرية كردفان التي ينبسط فيها النظر الى أقصى مداه .. انبساط الرمال هناك ويثبت فيها القلب ثبات الجبال ويمتزج فيها اللين والشدة فبمثل اعتياد أرضها وأهلها على خريف يكسي بالخضرة الرمال والتلال وصيف يضيع الحليب والماء فلا سبيل غير الترحال عبر مسارات تعكس هي الأخرى مقدرة على الاصطبار والانتصار إلى هناك يمم يسين بصحبة شقيقه إلى مدينة النهود في العام1944م ليدرس المرحلة الأولية بها لتتاح له سانحة أن يبصر مدينة أخرى ومجتمع آخر وكأنما الأقدار أرادت أن تهيئ الرجل لدور ينتظره في قادم مواعيد لوطن مازال وقتها يبحث عن أصحاب العزائم المقدامين غير الهيابين أربعة أعوام بكردفان بعيداً عن أم درمان التي عاد لها في العام 1949م ليدرس بمدرسة أم درمان الأهلية الوسطى.

كان التحاق يس عمر الإمام بمدرسة أم درمان الأهلية ميعاد أول لتفجير طاقاته والانفتاح على الأفكار الداعية والمساندة للحرية الرافضة للاستعمار ولما كان الفكر اليساري بنظرياته وشعاراته ونماذجه الباهرة وقتها انعطف الشاب المتوثب للعمل في صالح الوطن مناصراً لبرامج وشعارات الجبهة المناهضة للاستعمار إلا أن نفحات أمدرمان بإرثها الوطني المتكيء على التاريخ المهداوي وكسب أسرته المعتق فى خدمة القرآن وعلومه جعلت الرجل الهمام يتطلع لكيان ينهض بالدعوة للدين والحرية معاً.

مؤذن الإسلاميين:

فكان إضمامه الموفور بالخير والعزيمة للاتجاه الإسلامي في بواكير الخمسينات من القرن الماضي كان ود الإمام أحد أهم قادة الإسلاميين الاعلام وصاحب دور كبير في كل النقلات التي أحدثها الإسلاميون على مستوى التنظيم والعلاقات السياسية والقواعد الشعبية المساندة لصفهم ويجمع كثير من المراقبين على مسار الإسلاميين وتطورهم أن أحد أهم العوامل التي اسهمت في حمايتهم والدعاية لهم ومناجزة منافسيهم من الأحزاب السياسية الأخرى كان هو إعلامهم، وكان يسين عمر الإمام هو مؤذن الإسلاميين ليأتي لحركتهم المناصرين من كل فج وجهة رجالاً ونساء شيباً وشباباً حيث كانت الصحف المتحكم الأول والأكثر تأثيراً في توجيه الرأي العام ومراقبة الأداء الحكومي وكان يس الإمام هو فارس هذه البوابة التي أدارها في أوقات تأرجحت العلاقة بين الحكومات والإسلاميين ما بين مصالحة ومخالفة ومباينة إلا أن حكمة ود الإمام استطاعت أن تعبر بإعلام الإسلاميين لنقلات كبرى وإمتلاكه لهذه القوة في صناعة الرأي العام جعلته عرضة لقوائم الاعتقال فهو الدينمو المحرك ذو الخبرات المتراكمة في مجال الإعلام فقد تحمل هذا العبء بدءاً من الرسائل والمنشورات والمطبوعات حتى تطورت لإصدار الصحف .

فقد شغل منصب سكرتير صحيفة الإخوان المسلمون ورئيس تحرير صحيفة (الميثاق) الناطقة باسم الحركة الإسلامية في الستينات، وكما تنقل رئيساً لمجلس إدارة صحيفة الأيام في فترة المصالحة مع نميري وترأس أكثر صحف الإسلاميين تأثيراً صحيفة (الراية) المملوكة للاتجاه الإسلامي في الديمقراطية الثالثة وكان يدير هذا العمل بحذاقة تامة فقد كانت كل الأنظمة الديمقراطية والعسكرية تتهيب الإسلاميين، كما امتدت مسيرته بعد الإنقاذ عبر إدارة السودان الحديث والإنقاذ الوطني وصحيفة الأنباء ثم بعد المفاصلة رئيس مجلس إدارة صحيفة رأي الشعب.

* الود المعطر بالوئام:

زاوج ود الامام بين صفاته الأمدرمانية المنفتحة على الآخر وبين صرامة وانضباط العمل التنظيمي فكان يعلي من شأن علاقاته الاجتماعية وصداقاته ويرعاها بود شفيف واستطاع عبر انتهاجه للوضوح أن يبسط للود في كل اتجاه فكري وسياسي صلة واحترام لا يمنعه منافسة عابرة ومشاحنات موسمية في أيام الحصاد الانتخابي هذا على مستوى الداخل السوداني وساهمت هذه الروح المتسامية على الخلافات بأن يصبح أحد أشهر قيادات الإسلاميين اتصالاً ومقبولية لدى قادة الأحزاب العربية الإسلامية فكان مكان ارتياح للأحزاب الناصرية والبعثية لعمله الدؤوب لخلق أرضية مشتركة بينه والأحزاب الإسلامية لمواجهة المشروع الصهيوني والهجمة الإمبرالية العالمية فإن كان هذا وميض من رحيق الهمام في إنجاز جسام المهام بالخارج والداخل فإنه و بذات الاسلوب وطن لنفسه حب صادق لا نفاق ولا رياء بين أخوانه في الصف الإسلامي الكبير فهو الناصح الذي لا يجامل في الباطل والناصر الذي لا يدهن في الحق.

* كان لنا أباً وأخاً:

بالرغم من انشغاله في العمل العام إلا أن ذلك لم يشغله عن تربية أبنائه على النهج القويم بهذه الكلمات افتتح مصعب يسن الحديث عن والده ويمضى أن علاقته بأبنائه كانت قوية جداً وكان يعاملهم وكأنهم أخوة وكان يحرص على تناول وجبة الغداء معهم يتفقد أحوالهم الدراسية والأسرية ويوجه فيها توجيهاً ضمنياً ، وكان يحضهم على زيارة الأهل والجيران كان يغرس فيهم مبدأ الاعتماد على النفس وعدم استغلال اسمه، ولم يلزم أحد بانتماء سياسي معين ومن أقواله لنا (أنا عاوز الواحد منكم يكون راجل وما في زول بيبقى راجل من غير دين) كان يعامل الجميع بمستوى واحد فترى من مجلسه ومائدته الوزير والمدير والخفير والسائق والعامل وترى أبناءه على ذلك كان عليه رحمة الله يؤمن بأن الخلاف لا يفسد للود قضية وكان يطبق ذلك بحذافيره، وهذا يعرفه الجميع وخاصة أسرتنا، ومن يتردد على منزلنا تجد كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي بمختلف قاماتهم وعلمهم وأخلاقهم وكان تشيع جثمانه شاهداً على ذلك.

* مهندس البناء:

ويضيف القيادي بالمؤتمر الشعبي أبوبكر عبد الرازق أن يسين يعد أول شخص متفرع للعمل التنظيمي في تاريخ الحركة الإسلامية وهو الشخص الذى قام بالبناء التنظيمي كما إنه السجل الذي يحفظ العضوية على مستوى السودان ويعتبر أكثر متجول في تاريخ الحركة أيضاً هو الشريك مع د. الترابي في البناء فإن قام الأخير بالبناء الفكري فإن يسين هو صاحب البناء التنظيمي وعم يسين هو الشخصية المركزية المؤثرة في الصف الحركي ونموذج للمؤاخاة مع الترابي ومع سائر العضوية كما إنه من أعرق صحافيي الحركة الاسلامية بالإضافة لتمتعه بالعلاقات الواسعة بالداخل والخارج مع كافة الأطياف السياسية من أقصى اليسار لأقصى اليمين وهو ابن مقرىء السودان عمر عوض الإمام كما إنه يتصف بالتجرد والإخلاص، ويحتفظ بمساحة واحدة مع الجميع فى الساحة السياسية وعلاقات مباشرة فهو أم درماني حتى النخاع وسوداني كامل الدسم فقد ظل ديوانه مفتوحاً للكوتشينة والأحباب والإخوان قاطبة.

* الصعب المسماح:

وقال الأستاذ موسى يعقوب تعرفت على يسين بالمدرسة الأهلية الوسطى بود مدنى ونحن طلاباً يومئذ وكان أستاذاً يدرس مادة الرياضيات وكان له سلوك وأسلوب تربوي كبير ومن بعد ذلك التقينا في مجالات عديدة في الحياة حيث التقينا في مجال العمل الإسلامي وكان يسين مقرباً من الشيخ الترابي كان موجوداً وفاعلاً في كل قطاعات الحركة الاسلامية وكانت داره بأم درمان عامرة بالإخوان وكانت له إلى جانب ذلك علاقات خارجية إسلامية كبيرة جداً وقد تعرفنا على كثير من القادة الإسلاميين من الخارج في منزل يسين عمر الأمام ويس الإسلامي والسياسي أيضاً عندما تفرغ من عمل التعليم حيث كانت الولاية الشمالية آخر محطاتة عاد ليعمل في مجال الصحافة وفي هذا المجال عاصرته في صحيفة الميثاق والراية والأيام في مايو وهو رجل إداري محنك وكان بطبعه صعباً في مجال الإدارة كما كان صعباً في مجال التعليم فالعمل عنده لا يقبل المجاملة ولكنه كان مسماح وقد كتبت عنه في كتابي (الراحلون) لأن يسين كان رجلاً مهماً جداً في الحركة الإسلامية وكذلك في أسرة الإمام المعروفة بأم درمان ذات الاهتمام الكبير فى مجال القرآن والعلوم الشرعية ويسين ظل مواصلاً الجميع لم يكن متحزباً في الحركة الإسلامية لجهة معينة وذلك رغم علاقته ومودته مع الشيخ الترابي كان رجلاً محترماً وقد بدأ حياته مع الحزب الشيوعي ولكنه ومنذ وقت مبكر جداً انضم للحركة الإسلامية وهذا طبيعي لأن بيته الكبير ذو توجه وانتماء إسلامي، وكان ذو علاقات واسعة ومنفتح اجتماعياً على كل الناس وأم درماني المزاج.

* شريك غير باغ :

عرف شيخ يس بصحبته الدائمة لرفيق دربه الترابي وبينهما كثير من المشتركات التي ساهمت في نجاح عملهم الإسلامي وإن كان الشيخ الترابي طاف السودان برفقة مع والده القاضي الشرعي، فإن يسن عمر كذلك أتاح له عمله بالتعليم أن يطوف أيضاً بأنحاء السودان فعرفوا أهل السودان معاً وعرف عنه مناصحته للترابي إلا أنه كان دوماً يناصره .. ويعتبر يس من القيادات التي رعت وسقت الحركة من عمرها بصبر دؤوب واحتساب حتى استوت الحركة على سوقها لتصبح ثالث كتلة في برلمان الديمقراطية الثالثة وقد مرت البلاد بأحداث مفصلية الأمر الذي استدعى الجبهة الإسلامية التفكير في خطوات غير مسبوقة في سبيل تعزيز بقاؤها بعد الصراعات الحزبية وتحرك مذكرة الجيش الشهيرة.

عندما قرر الدكتور الترابي ترشيح الأستاذ علي عثمان محمد طه نائباً له في مؤتمر1986م كان يرمي لنقل التجربة للجيل التالي وتهيئته لقادم السنوات فكان أن قوبل الأمر باعتراض من قيادات الصف الأول فما كان من ود الإمام إلا أن يقود حملة تأييد علي عثمان ليخلفه في الموقع نائباً للأمين العام وعندما حدثت المفاصلة بين الإسلاميين اختار صف الترابي إلا أنه لم يقطع صلته بالرئيس البشير، وكان يوجه النقد والإصلاح لأخوته بالوطني متى استدعى الأمر ذلك وبرغم الاعتقالات أيام توتر العلاقات بين الشعبي والوطني إلا أن شيخ يس لم يكن في قوائم المطلوبين للاعتقال بعد المفاصلة إلا أن اعتقال رفيق دربه وقع عليه وقعاً مؤلماً ولعل أبلغ من يعبر عن حالة العرفان بينه ورفيق دربه الترابي الرسالة التي بعث بها الشيخ من معتقله هادياً له مؤلفة (السياسة والحكم ) والتي يقول الشيخ في جزء منها : أهدي عطاء كله مني إليك ، فإنما لك سهم في الرؤى الفكرية التي بعثتها متفجرة حركتنا معاً في الإسلام، ولك شرك في بعض ثنايا الواقع العامر الذي عشناه وعهدناه معاً، ومن قبل لك في إمامة الحركة لك يا بن الإمام تراث في إمامة القرآن الأصل المتين لما في الكتاب كل، فهناك شيئاً منك إليك وشيئاً مني إليك وإلى إخوانك عبر الأرض راجياً أن يبلغهم جميعاً، لأن صحوة الدين السياسي وحركته الحية فمن اليوم أعظم من خطة مسير مرسومة على هدى بين منافقة السلطان في حياة المجتمعات المسلمة الغائبة عن كسبها الناقص نحو تمام دين الأمة الواحدة فهل ضاعفت لي ولك دعوات طيبة للمغفرة والرحمة والتوفيق المبارك في الله. أخوك أكثر من نصف قرن من الزمان وفي سبيل خلود الأزل في الجنة والرضوان..

* العبقرى العادى:

بهذه العبارة المعطرة بالمعرفة اللصيقة بود الإمام ابتدر القيادي بالمؤتمر الشعبي المحبوب عبدالسلام حديثه لـ(ألوان ) قائلاً: ساعة حملت الوسائط الحديثة نبأ انتقال عم ياسين إلى الملأ الأعلى انتابني على الفور إحساس انحسار الظل الوارف في رابعة النهار أشبه ما يكون بتبدد شجرة بازخة كانت تملأ الأفق ويحتمي الناس تحتها أو بالأحرى يطمئنون حيثما وقفت موقفاً مهماً يكن عسراً ورأيت ياسين عمر إلى جانبك ينتابك الشعور بالأمان ياسين عمر يمكن أن يصنف ضمن أوساط الناس الوسط المثالي الذي أشار إليه القرآن (حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى) ولم يفهم الجاحظ بكل ضخامته معنى الآية حتى سمع البدوي يطلب من بائع الفاكهة أن يعطه من وسطهن أي أفضلهن وأحسنهن أو كما يقول الروائي الذي كمنت عبقريته في بساطته واعتياديته ..كانت الموضة في السبعينيات أن يحتفل الناس بالغامض والغريب ويبحثوا عن المؤامرة وينقبوا عبر الحاسة السادسة ثم بعد شغف متطرف بالغريب والغرائبي والغامض والمجهول حتى انتهى بي المطاف بمستشفى الأمراض النفسية اكتشفت أن العبقري والصواب هو العادي ورغم اختلاف الأعمار بين جيلنا وجيل (عم يس) فقد كان عادياً معنا فاتخذناه صديقاً وأباً لا نكاد نتذكر فارق السنين إلا عندما تشتد المواقف، وتطلب الآراء عندئذ تدرك تماماً أن الأستاذ ياسين عمر الإمام ينتمي إلى نوع الكبار، وإذ ربطتني به روابط خاصة كثيرة مما يجمع الناس من جيرة الحي والأسرة فقد أتاحت لي الظروف أن أعمل معه قريباً في شؤون الأفكار والكتابة والتحرير خاصة عندما استأنف عمله الذي انقطع عنه سنوات .أي عم يس، وهو الصحفي وقد اختاره النميري رئيساً لتحرير صحيفة الأيام وهي يومئذ ثانية اثنتين لا تشاركها في الصحافة السياسية إلا الصحافة كنت أعجب كيف لا يتعب عم يسين وهو يملي علينا الفكرة تلو الفكرة والتحليل أثر التحليل ثم يخلص إلى الخلاصات وهو بين قائم وقاعد وقبل أن نكمل التدوين ينصرف عنك إلى موضوع آخر مع شخص آخر أو يخرج جملة إلى مكان آخر أو لا تستفيق إلا على صوت محرك سيارته وهى تغدو سريعاً بعيداً ،لم يكن عم يسن يقرأ كما نقرأ ويبحث كما نبحث ولكن ما نضرب له (أكباد الأبل) يأتيه طائعاً دون مجهود قد تعينه الخبرة الطويلة والعمل الدؤوب وقد يستدعيها دون أن تشعر ولكنه وهو يحدثك عن تلك الأودية الوعرة يظل عادياً تماماً كما يشرب قهوته أو يشعل سيجارته .قد ترى عم يسن في أول النهار في مجلس الشعب بين نواب برلمان مايو وهو رئيس لجنة تارة ثم رئيس الهيئة البرلمانية (الأغلبية) في أغلب الفترة، وهو يغوص في المقترحات التشريعية أو هو يجادل بمنطقه القوى وصوته الجهور وقامته الفارعة في الجلسات، ثم تراه آخر النهار بين جنبات صحيفة الأيام يناقش ويمازح الصحفيين ورؤساء الأقسام .ثم تراه أول الليل في الاتحاد الاشتراكي حيث تدور العلاقة بين القدامى العمالقة أمثال منصور خالد وبدر الدين سليمان وأحمد عبد الحليم وعلى شمو وآمال عباس وغيرهم. وبين القادمين المرعبين أمثال حسن الترابي وأحمد عبد الرحمن وياسين عمر حيث كانت العلاقة بينهم سجال تصفو حتى تخالهم أبناء رحم واحدة، ثم تعتكر حتى يوشكوا أن يشتبكوا بالأيدي بعد الكلام. ثم في الأمسية التالية يتوسط ياسين عضوية المكتب التنفيذي المستتر للحركة الإسلامية فلا يشعرون باكتمال العقد إلا إذا حضر ياسين .مهما يكن من هم في اجتماع على الحاج ، وعلى عثمان، والكاروري الكبير، والدكتور تجاني أبو جديري، ومحمد يوسف محمد، وعثمان خالد، وموسى حسين ضرار ، وتوفيق طه،  وأحمد عثمان مكي .. ممن هم أعضاء بالأصالة ويتولون أمانات تنفيذية أو ممن هم أعضاء متى حضروا .فلا يطمئن رئيس المكتب الشيخ الترابي نفسه إلا إذا سبق وقع عصا عم يسين على الباب صوته وهو يقرع أفراد السكرتاريا والحماية أو يسمع صدى معركة كلامية صغيرة مع الدكتورة سعاد الفاتح وهي تتظاهر بالتصدي للفوضى العابرة المعلنة عند وصول عم يسين ، ثم آخر الليل لا يذهب عم يسين إلى بيته الخاص في الحارة الأولى بمدينة الثورة إلا بعد أن يمر بالحوش منزل أسرة عمر الإمام الكبير مهما كان اليوم طويلاً ومرهقاً لا يتجاوز ياسين إلى نومه قبل أن يطمئن إلى خبر الشيخ عوض الإمام والشيخ صديق عمر والشيخ عبدالقادر عمر أخوته الكبار ويغوص مع تفاصيل أحوالهم وأخبار أبناءهم وبناتهم ثم أحوال الحوش وزواره العابرين ومعتاديه المقيمين فإذا برجل الدولة والسياسة والتنظيم قد تبدل إلى عامة أحوال أهل السودان ثم إذا كان آخر الأسبوع من يوم الجمعة الفايت عم يسين يتصدر(تربيزة الكوتشينة) في قلب ودنوباوي بمنزل (أحمد إبراهيم الإمام) فقد اجتمعتا حتى في اسم العائلة رغم إن الذي بينهما هو الصداقة وليس قربى الدم. ويا لسوء طالعك لو اضطرتك الظروف لتقطع على عم يسين الأسلوب العبقري الذي اختاره ليغسل ما تراكم عليه من وعثاء العمل والسياسة طيلة الأسبوع . وهى أثقال مضنية لمن جربها في كل ذلك عم يسين هو عم يسين عادي تماماً، لا تغادر محطة عم يسين عمر العامرة إلا إذا انتبهت إلى أعظم خلقه بعد خاصة عبقريته، وهو دون أدنى شك خلق الالتزام، ولن يصدق أحد ممن خبر عم يسين أن ألقى علبة التبغ بقرار واحد حاسم بعد إعلان النميري لقوانين الحدود. كانت تلك طريقته في التعبير عن الفرح والاحتفال (الالتزام) فقد التزم في الحزب الشيوعي حتى تبدلت قناعته فغادره بلا عودة. ثم التزم الحركة الإسلامية فلم يدعها في سراء ولا ضراء ولا بلواء مهما اشتدت حتى تركت هي مرابعها ومات حزيناً عليها.

*نديد الصبر:

إن أقوى ملكات يسين بحسب كثير من المجايليين والعاملين معه هو الصبر فقد واجه في حياته الخاصة والعامة بجملة من اللاءات قابلها بالصبر الجميل فقد مثل استشهاد ابنه أبو دجانه بالجنوب ثم انتقال رفيقة دربه زوجته الفاضلة وعلى مستوى العمل العام شكل انقسام الإسلاميين أكبر الامتحانات فقد انشطر ما نذر عمره كله له أمام أعينه فلم يغلق داره ويحبس رأيه فكان الناصح رغم صمم آذان الاسلاميين وقتها حتى غالبه المرض فكنت من الزائرين له وأنا ابن العشرين فما تمالكت أن أجالسه وانصرفت وحدث بقية الزائرين بثبات وسخرية من المرض فقد عرف عنه عدم الشكوى، وقد أجريت له ثلاثة عمليات للقلب المفتوح وحقاً :

إذا كانت النفوس كبارا           تعبت في مرادها الأجسام

وظل برغم الأنواء ذاته الشامخ على الرزايا السامق على الصغائر الباذخ في العطاء. وفاته :

حتى انتقاله إلى دار البقاء في يوليو من العام 2013 م، وكان رحيله بمثابة استفاقة لصفه الإسلامي الكبير لم يملك شريكه الشيخ الترابي أن يداري حزنه، ولطالما كانت تلوذ به جموع الاسلاميين كل ما تكاثفت عليهم الجراحات والأحزان ولكأنما أراد الراحل الترابي بانعطافه على أبنائه الحاكمين محاوراً وناصحاً أن يبر ببعض رجاءات يسين، ويذكر نفسه وجيله باقتراب الرحيل فكأنما الحياة بعد يسين فناء ..

وما كان إلا مال من قلّ ماله ….     وذخراً لمن أمسي وليس له ذخر

ألا في سبيل الله من عللته…..             فجاج سبيل الله وانثغر الثغر

فتى كلما فاضت عيون قبيلة دما …. ضحكت عنه الأحاديث والسير

الشيخ الراحل المقيم يس عمر الإمام :

القيادي الإسلامي الذي شهد مراحل المخاض الصعب ملأ الفراغ في دولة البلاغ منذ الخمسينيات، وقاد إعلام الاتجاه الإسلامي بكل حنكة أشقى الناس بالمفاصلة ..انحاز لمعسكر المنشية وأرسل النصائح للبشير والترابي

أشرف إبراهيم نشر في الوطن يوم 23 - 07 - 2013

الشيخ يس عمر الإمام يعدّ سفر في تاريخ حركة الإسلام السياسي ليس في السودان وحده تلك التي واجهت ابتلاءات وإحن كانت كفيلة بزعزعة الإيمان والقضاء على الفكرة لولا بعض صبر وصدق نوايا من رجل خلص جعلت المشروع لا يموت رغم كل النصال التي أعملت فيه ورغم كل النوائب والأشواك التي زرعت، وبعثرت أشواق (الإخوان) في وحدة تعيد مجدهم حينما كان للأخوة حق ومنزلة تضاهي الرحم إن لم تفوقه بل كانت له سهم وافر في دعم وتأسيس الحركات الإسلامية التي نشأت في بعض البلدان العربية والإسلامية، ظل يس عمر الإمام متفرغاً للنشاط التنظيمي بالحركة الإسلامية تفرغاً تاماَ منذ نوفمبر من العام 1925م عندما نقلت إليه قيادة الحركة قرارها بالتفرغ الكامل للعمل التنظيمي وقد كان عند حسن ظن القيادة به طاعة لأولي الأمر واحتساباً لله وخدمة للمشروع الذي نذر نفسه له،    ولم يتزحزح عن قناعاته هذه حتى اليوم، وهو يغالب الأدواء والأسقام، ويحز فيه نفسه تفرق اخوان الأمس على باب السلطة والقصور والتي أي السلطة لم يكن شيخ يس يوماً من طلابها حيث ظل يعمل في أي موقع يراه أفيد للدين وللمشروع.

دولة البلاغ :

من الثغور المهمة جداً التي عمل عليها يس عمر الإمام كانت ثغرة الإعلام، واستطاع مع نفر كريم من الإخوان أن يسد الفراغ في دولة البلاغ والرسالة بالرسائل والمنشورات والمطبوعات وحتى الصحف اليومية، وعمل بوسائل الإعلام حتى قبل مجئ ثورة الإنقاذ حيث ترأس، وكتب في صحيفة الراية المملوكة للاتجاه الإسلامي في فترة الديمقراطية الثالثة وكل المراحل والأنظمة التي تسنح فيها السوانح المتاحة للحركة ,فقد كانت الأنظمة تضيق زرعاً بالتنظيم الإسلامي وظلت العلاقات بين الإخوان وتلك الأنظمة العسكرية والديمقراطية منها في حالة شد وجذب ومصالحات تارة وتضييق ورمي في السجون تارات عدة وقد دخل شيخ يس عمر الإمام سجون نميري مع اخوته، وكان نشطاً في العمل التنظيمي والإعلامي.

إعلام الإنقاذ :

بعد مجئ ثورة الإنقاذ في يونيو من العام 1989م والتي جاءت بتدبير من الإسلاميين عمل يس أيضاً مع أخرين على ترتيب ملف الإعلام، وتولى شأن صحف السودان الحديث والإنقاذ الوطني بعد أن تم إغلاق الصحف الخاصة التي يمتلكها أفراد وأحزاب ومؤسسات وبعدها تولى مجلس إدارة صحيفة الأنباء وظل يجتهد في معالجة أوجه الخلل والقصور في الملفات الإعلامية المختلفة بالدولة والحزب حتى المفاصلة.

المفاصلة :

ظل شيخ يس عمر الإمام أشقى الناس بالمفاصلة التي قسمت الحركة الإسلامية إلى معسكرين) قصر ومنشية وظل يعبر عن شقاءه هذا بالتصريح وبالمقالات التي يكتبها ورغم انحيازه لمعسكر المنشية للشيخ الترابي الا انه ظل يرسل النصائح للترابي والقصر ويمنى نفسه دوماً بعودة ووحدة للإسلاميين من جديد وقد انحاز الى الترابي من باب حبه للترابي وتأثيره عليه وكاريزما وسبق الترابي في التنظيم، وقد عمل بالمؤتمر الشعبي ما بعد المفاصلة، وترأس تحرير صحيفة رأي الشعب الناطقة باسم الحزب حتى إغلاقها بعد الخلافات مع الحزب والتوتر السياسي بين الحزبين، ولم تسعفه ظروفه الصحية في العمل التنظيمي بالمؤتمر الشعبي والعمل على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الإسلاميين.

لم يجزع، ولم يهزه المرض :

رغم معاناته التي تطاولت مع المرض لسنوات خلت قال شيخ يس: لا أهتم كثيراً للمرض ولا اكترث إليه أو أشكو منه، وقد أجريت لي ثلاث عمليات قلب مفتوح ولم يحدث أن طلبت مسكناً للآلام وذلك من فضل الله على والمرض من الأشياء التي تجعل الإنسان يشعر بأن هذه الحياة أيامها معدودة وأن المرض لا يقتل الإنسان، وفعلا تطمئن بان لكل أجل كتاب. الناس بيقولوا أنهم لا يخافون من الموت وأنا بخاف جدا من الموت! وليس مرد ذلك لأنني سأفقد شيئا من الدنيا، بحمد الله عايش مستور، لكنني خائف لما بعد الموت. فعلا خائف جدا، وخائف لأنني مقصر جدا وذنوبي كثيرة جدا وعلى واجبات كثيرة جدا لا أستطيع القيام بها «

الدعوة وصدق النوايا :

يمضي يس ليقول: نحن مقصرون في حق الدعوة الإسلامية ».. وما قمنا به في العمل الإسلامي. ثم الواحد بيسأل نفسه: هل هو السبب ؟! كثير جدا الواحد بيقف، ويسأل هل هو مخطئ في مسار الدعوة والعمل الإسلامي؟ هل فعلاً نحن مخطئون أم مصيبون؟.. ولكنى مطمئن إلى أن الله يعامل الناس بنواياهم ونسأل الله أن تكون نوايانا صادقة.. واعتقد أن جهد العاملين في الحقل الإسلامي هو الذى بنانا نحن وأوجد لنا مكانة والذى يجحد هذا بيكون جاحد، وكل من يعتبر شطارته هي التي قدمته سواء العاملين في الحركة الإسلامية أو في الدولة كذاب. هذا جهد ناس مجهولين وهنالك من قدموا أعمالاً كبيرة جدا ولا يذكرون سواء في صحيفة أو في التاريخ وهم الذين بنوا الحركة الإسلامية وأتذكر منهم أعداد كبيرة ما توا ولم يتركوا شيئا لأولادهم عاشوا بؤساء وقامت الحركة الإسلامية على أكتافهم، ربنا يتقبلهم إن شاء الله، ويغفر لنا أخطاءنا..

الحركات الإسلامية الخارجية:

قال يس في حديث سابق أدعي أنني من أكثر الناس علاقة بالحركات الإسلامية منذ الخمسينيات وحتى الحركات التي نشأت في بعض البلدان أدعى أن لي إسهاما فيها والحركات الإسلامية كانت تعتبر السودان نواة العمل الإسلامي في العالم مع أن بعضها بدأ يكيد للحركة الإسلامية في السودان بسبب الغيرة حيث رأت بعض الحركات أنها الأم وهى القائدة للأحزاب قبل أن تطرح الحركة الإسلامية شعاراتها ويكون لها وجود في السودان وكثير من القيادات الإسلامية اعتبرت الحركة الإسلامية بأنها المثال لهم وحدث العكس عندما اصابت الخيبة الحركة الإسلامية في السودان شعروا بإحباط شديد جدا لأنهم رأوا بأن الحركة الإسلامية السودانية بعدما نضجت ضربت من داخلها وليس من الخارج وأصابها خذلان حيث اتجه عدد كبير من أعضائها للصوفية وبعضهم جمد عمله وبضع منهم توجه إلى أسامة بن لادن وبعض منهم أصابهم إحباط لدرجة أنه انحرف وهذا أيضا أصاب عضوية الحركات الإسلامية بالخارج عندما رأوا المثال الماثل أمامهم ينهار .هناك بعض من القيادات الإسلامية العالمية اليى زارت السودان لديها أمل في أن ينصلح حال الحركة الإسلامية بالسودان ولكن ما أراه فإنها لن تنصلح لأن هناك أحقادا تمت بين البعض والبعض الآخر وأصبحت هناك ضغائن وكراهية وتحولت قضايا الأفكار والمنهج إلى قضايا شخصية.

الرقيق حتى الدمع :

قال عنه الكاتب الإسلامي إسحق فضل الله : إنه الرقيق حتى الدمع والصبور حتي مزع الكبد ودفن الولد الجهير الشهير كان ثاني اثنين بعد الشيخ تتعاوره السجون والمخافر ويتله عليج من جنود النظام العام ايام النميري لايعرف حتى الحرف المعوج لكن يس يبقي هو من تلتفت اليه الوجوه المحزوبة المحزونة تلتمس عنده الأنفاس فلا تعود خائبة، ويس هذا لا تعرف الدموع عيونه الا لحظتين مرة يوم قالوا له أن الولد استشهد.

ومرة يوم انشق الإسلاميون في اليوم الشهير.

حل الحركة الإسلامية والمصاحف:

قال يس : إن الترابي لم يحل الحركة الإسلامية، وكان خطاب الإهداء الذي وقعه عن إخوته تكريماً رمزياً لهذا الرعيل الأول من بُناة الحركة الإسلامية ، وقد ظهرت ثمرة بنائهم وجهدهم وتفانيهم وصبرهم في الإنقاذ دولة شهد عليها الأعداء قبل الأصدقاء، وقال ان قصة هذا اللقاء الكريم الذي انعقد مساء 17/5/1411ه الموافق 4/21/1990م بمنزل الأخ الكريم بشير حسن بشير وترأسه الأخ حسن الترابي وكان تقديم نفر كريم من الرعيل الأول من بُناة الحركة الإسلامية التنظيمية الحديثة في السودان فأثمرت دولة حديثة أسس لها لتقوم على أساس سليم. ولكن فتنة السلطان والمال دخل من خلالها الشيطان للنفوس فعدنا إلى ما نحن فيه اليوم والقلب ينزف دماً والله المستعان.

رحم الله ياسين عمر الامام، وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء ..

أيام ياسين عمر الإمام وحلول "ساعة الحقيقة" للحركة الإسلامية في السودان.

بقلم: د. عبد الوهاب الأفندي

نشر في سودانيل يوم 29 - 07 - 2013

( نعى الناعي يوم الاثنين الماضي الشيخ ياسين عمر الإمام، أحد رموز الحركة الإسلامية في السودان وأحد رعيلها الأول، ومن القلائل منها الذي ظل يحظى باحترام وقبول من قبل كافة أطياف الحركة السياسية رغم حدة الخلاف التي مزقت النسيج السوداني وعصفت بعلاقات أطرافه. وقد كان هناك ما يشبه الإجماع على الإشادة بخصال الراحل، وخاصة صدقه وصراحته وقربه من عامة الناس.

(2)

يعتبر الشيخ ياسين حالة نادرة في الجيل الأول من الحركة السودانية. فهو ينحدر من أسرة من العلماء ورجال الدين، ولكنه التحق مبكراً بالحزب الشيوعي السوداني والحركة العمالية ونشط فيهما قبل أن يلتحق بالحركة الإسلامية. وما زال يحتفظ بعلاقات طيبة مع رفاقه السابقين من زعماء الحزب. وكان ياسين حاضراً في الحدث التأسيسي الأهم في تاريخ الحركة، وهو "مؤتمر العيد" في عام 1953، الذي تبني اسم ومنهج حركة "الإخوان المسلمين"، وأدى إلى أول انشقاق لرافضي هذ التوجه ممن أطلقوا على أنفسهم "الجماعة الإسلامية" ثم "الحزب الاشتراكي الإسلامي" فيما بعد. وكان كذلك أول كادر متفرغ.

(3)

رغم أن ياسين كان دائماً في قمة قيادة الحركة منذ نشأتها، وقد تولى منصب نائب الأمين العام للجبهة القومية الإسلامية عند تأسيسها وحتى انتقال ذلك المنصب إلى علي عثمان محمد طه في عام 1988، إلا أنه كان أقرب القيادات إلى قواعد الحركة وإلى عامة الشعب. وكان يستخف بالمناصب وشاغليها، ولا يخاطب الزعماء أو يذكرهم إلا باسمهم الأول. وكان حاداً في صراحته ودائم الانتقاد للجميع. وفي المقابل كان بيته قبلة الجميع، وكان رحمه الله موطأ الأكناف، يصل إليه من شاء بدون حجاب أو وساطة.

(4)

حين وقع الانشقاق الكبير في الحركة الإسلامية عام 1999، سعى ياسين في أول الأمر لمعالجة الخلاف، فكان أحد أعضاء "لجنة رأب الصدع" التي تصدعت بدورها فانحاز رئيسها للنظام فأخل بدوره في نظري، بينما انحاز ياسين إلى معسكر الترابي. ولا يعني هذا في حد ذاته فضلاً على من سواه، لأن الطائفتين –كما لم أمل من التكرار- كانا ولا يزالان على خطأ، لأن أي منهما لم يجر مراجعة جادة لأخطاء الماضي. ولكن الانحياز إلى المعسكر الخاسر كان له ثمن فادح، وهو خيار لا يتخذه إلا أهل العزائم والقناعة الصادقة. وفي نظري أن ياسين اختار هذا الموقع تحديداً لأنه فادح الكلفة، لأنه اشتهر بأنه يأخذ نفسه بالشدائد والعزائم، ويحض الآخرين على ذلك، ويرفض دائماً المواقف المائعة والمهادنة.

(5)

ولكن ياسين أقرب قيادات الحركة إلى التأمل والمراجعة والاعتراف بالخطأ، حيث ذكر في مقابلة إعلامية مشهورة ونادرة نشرت في صيف عام 2007 أنه أصبح يستحي من أن يدعو حتى أفراد أسرته وأحفاده للانضمام للحركة الإسلامية بعد أن ضعف أداءها وفقدت بوصلتها الأخلاقية وتمزقت أشلاء تشتعل بالحقد ضد بعضها البعض. ولكن للأسف لم يقدم الشيخ ياسين ولا غيره من أهل الصدق بديلاً، وإنما تركوا الساحة لمن وصفهم بأنهم أصحاب الأحقاد يتناحرون على الساحة، ويسيئون كل يوم أكثر للحركة الإسلامية التي تنتحر كل يوم عدة مرت.

(6)

عرفت الشيخ ياسين عن قرب منذ عقود وكان كل لقاء معه يبعث السرور في النفس، رغم أنه كان كثيراً ما يقسو على جلسائه في العبارة، دون أن يثير ذلك حساسية عند "ضحاياه" لأنهم تعودوا منه الصراحة. وقد سعدت بصحبته في الحج في صيف عام 1992، حيث سمعته يخاطب حشداً من السودانيين المغتربين فيقسو عليهم حتى لكاد يتهمهم بخيانة الدين والوطن لبقائهم خارج البلاد، ويدعوهم إلى العودة إلى وطنهم بدون تأخير للمشاركة في بنائه. ولم يغضب أي من الحضور لهذه الشدة في الخطاب، وإنما جادلوه بالتي هي أحسن وانتهى اللقاء كما هي العادة بمزيد من المحبة والمودة والتقدير.

(7)

كان آخر لقاء لنا مع ياسين في منزله العامر بضاحية الثورة في أم درمان قبل حوالي عامين في صحبة الابن (العاق أحياناً) د. محمد الأمين عثمان، حيث كانت وطأة المرض اشتدت عليه، وكان يعاني من آلام مبرحة، ولم يكن يغادر بيته إلا لماماً. ولكن بشاشته وحسن وفادته لم تنقص مثقال ذرة، حيث جلس معنا طويلاً يحاورنا في ما آلت آلت إليه أمور البلاد، ويسأل عن شأننا الخاص وحال الأسر. وعندما علم أنني كنت مشغولاً بدراسة عن أزمة دارفور، قضى وقتاً طويلاً يقدم النصائح والمعلومات عن المصادر والشخصيات التي يفيد الالتقاء بها.

(8)

يضع رحيل ياسين الحركة الإسلامية السودانية أمام تحد جديد، لأنه بغياب الرموز التي كانت تذكر إلى حد ما ببعض ماضي الحركة المشرق، وتمثل بعض الاعتدال والمواجهة الصريحة مع الذات، تجد الحركة نفسها أمام صورة في مرآة الذات تخلو من أي مساحيق تجميل. ولم يعد يكفي تحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك في ما آلت إليه أحوال الحركة والبلاد، فالكل مسؤول ومساءل أمام الله تعالى: مرتكبو الكبائر ومقارفو الخطأ والخطايا مساءلون، وممالئوهم ومناصروهم مساءلون، والصامتون مساءلون، والمنتقدون باللفظ دون تحرك من إنكار المنكر إلى إزالته مساءلون. فلا بد من ثورة عاجلة يشترك فيها الجميع لاقتلاع المنكر وأهله، ورحم الله من بادر وألقى بأول حجر.

(9)

في رثائه للفقيد ذكر الشيخ الترابي بمثالية الحركة في أول عهدها حين قال: "لم نكن نحلم بأن تكون لنا دولة"، بل كان الاعتقاد بأن تلك مسيرة تضحيات بلانهاية، وكان ياسين من السباقين لاقتحام مواقع التضحيات. وقد عبر الترابي عن كثير منا حين أشار إلى أن رحيل ياسين (الذي يقاربه في العمر) قد جعلنا نشعر بمواجهة شخصية مع الموت أكثر من رحيل أي شخص سبق. ولعلها، كما يقال "ساعة الحقيقة" وعلامة اقتراب الحساب. وربما هي أيضاً الفرصة الأخيرة لكثيرين منا حتى يتم تصحيح ما يحتاج إلى تصحيح، فهذا شهر التوبة والرجوع إلى الله.

يس عمر الإمام الأسن عمراً الأسبق انضماماً الأصلب عوداً «1» :

كما نشر في الصحافة يوم 24 - 07 - 2013

غيب الموت عن دنيانا الفانية الشيخ والقيادي الأسن عمراً والأسبق انضماماً والأصلب عوداً.. أحد قادة الحركة الاسلامية، قدم للحركة الاسلامية عمره منافحاً ومدافعاً ومجاهداً في سبيل الله والوطن، وكان يمتاز عن غيره من الاخوان بالجرأة والجسارة في الحق، وطوال مسيرته العطرة لم يعرف عنه الانكسار او المداهنة الكبير عنده الله سبحانه وتعالى، وكان دائماً في الصفوف الامامية، وسجن في عهد مايو عندما ضيق نميري على الإخوان، فكانوا كما قال شاعرهم:

واحتقرنا السجن حتى عاد من ضيق رحاباً

أهل ودي كيف أنتم       أجزل الله الثوابا

نحن في ذكر وشكر     بلغوا عنا الصحابا

وعم يس عمر كان رجل متعدد المواهب، كان استاذاً مربياً وأديباً، وكاتباً له طعم ولون، ومحللاً ممتازاً. وفوق ذلك كان كريماً مضيافاً في داره العامرة التي تخرج فيها عدد لا يستهان به من الاخوان فقد كان ملاذاً للإخوان، وتقلد مناصب لها علاقة بالصحافة والأدب، فكان رئيس تحرير صحيفة الأيام ورئيس مجلس إدارة صحيفة الأنباء، ثم رئيس تحرير صحيفة رأى الشعب، ثم رئيس مجلس إدارة الصحافة.

إن احترام وتقدير الإخوان للعم يس وحبهم له وتواضعه كان دافعاً لي لتوثيق حياته العامرة بالجهاد والمجاهدة. فوضعت فصولاً لكتاب علها تعطى فكرة عن حياة هذا الرجل العظيم وحبه للحركة الاسلامية ووطنه الكبير السودان، وقد جلست إليه وأخبرته بفصول الكتاب فوافق عليها، وأضاف ودمج بعضها، وبدأنا بثلاث جلسات، ورأيت ضرورة عرض فصول الكتاب، وهى: أسرته، ميلاده، اثر بيت آل عمر عليه يس عمر المراحل الدراسية يس عمر زوجاً وأباً يس عمر الإمام قبل دخول الحركة الإسلامية «كان شيوعياً» يس عمر وعهد عبود، يس عمر والتحاقه بحركة الإخوان المسلمين، يس وعلاقته بالدكتور الترابى كيف بدأت   وكيف توطدت، يس عمر الامام وثورة اكتوبر 1964م،  يس عمر وتكوين جبهة الميثاق الإسلامى «طوافه على الولايات» يس عمر الإمام الصحافي النابغ، يس عمر وانقلاب مايو 1969م وسجونها، يس عمر بعد المصالحة مع نميري والمناصب التي تقلدها، يس والانتفاضة ابريل 1984م ، يس وقيام الجبهة الإسلامية القومية 1985م، يس وانتخابات 1986م يس عمر نائباً برلمانياً وقرار قيام الانقاذ 1989م يس عمر يدير الدولة مع الأستاذ على عثمان من بنك الشمال ودوره في الايام الاولى من الانقاذ 1990 1992م يس عمر وإدارة الدولة والمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، يس عمر الإمام والعلاقات الخارجية «الحركات الإسلامية»، يس وانقسامات الحركة التي عاصرها، يس عمر ورفضه بيعة إخوان مصر، يس عمر وعلاقته بالإخوان في مصر، يس وعلاقته بضياء الحق رئيس دولة باكستان، يس عمر الإمام واتفاق فلسطين، يس عمر وعلاقته مع الإخوان المصريين أحياءً وامواتاً، يس عمر الإمام ومذكرة العشرة، يس عمر الإمام في مواقف مشهودة، يس عمر الإمام والمفاصلة والحديث الذى دار بينه وبين الاخ رئيس الجمهورية والذي قال فيه حسين خوجلى «جاء يس عمر، وكان للنصيحة بيان»، يس عمر الإمام ومولد حزب المؤتمر الشعبى، يس عمر الإمام وقضية الجنوب، يس عمر الإمام ودوره في أفغانستان ومناصرة المجاهدين.

والحق أقول : إن العم يس عمر الإمام ترك كل هذه العناوين وبدأ معي في ذكر اسماء اخوان مغمورين بالولايات، بل صار يتحدث عنهم وعن مواقفهم وكيف كانوا إخواناً بحق، وكيف كانوا يستقبلونه ويمكث معهم الليالي والايام. وبالرغم انى من الجيل الثالث فإن كثيرين ممن ذكرهم العم يس لم اسمع بهم، وبعضهم من ولايتى النيل الابيض كوستى وربك والجبلين والجزيرة أبا معقل الانصار وحزب الامة، حيث استطاعوا ان يرشحوا من ينافس الامام الصادق المهدى في انتخابات 1986م بالجزيرة أبا.

ودفتر حضور تشييعكم رغم الموقف المحزن كان مهيباً، حيث القيادة التاريخية للحركة، فقد كانت هنالك منذ النبأ الأليم في الرابعة صباحاً، المكتب القيادي بكامل عضويته أحاط بالمكان. ومقابر البكري منذ الانشاء لم تشهد مثل هذا الجمع. وأهل ام درمان حيث المهدى والخليفة عبد الله قد عادا، والحكومة يتقدمها رئيس الجمهورية والنائب الاول والنائب الثاني وكل الوزراء، ورأيت وزير المالية ومعه محافظ بنك السودان ونائبه عطوفة بدر الدين محمود في ركن قصى.. وضباط القوات المسلحة ابناء الحركة كانوا حضوراً بالزي الرسمي.. ودموع الرجال عصية بيد انها تهطل من ابن عمر محمد أحمد وبجانبه عبد الحليم الترابي يبكى أيضاً، عمر عبد المعروف، الريح عبد الخير، محمد الحسن هاشم، محمود صالح، كابتن شيخ الدين المفتي حسين، د. الأمين محمد عثمان ومنظمة الدعوة الاسلامية التاريخ، أبناء عم يس  : مصعب وياسر، وعمار، وابن اخيه سارية، الفاتح عز الدين، د. غازى صلاح الدين، أمين حسن عمر والاثنان قد علاهما الشيب ولا أدرى هل وهن العظم أم لا. وفى دفتر الحضور يا عم يس اجزم أنه لم يتخلف أحد إلا إن كان مسافراً، ولكن رأيت المرضى وهم يتوكأون على العصى. وأقول وبصدق قد اختلط حابل الوطنى بالشعبى والكل يعزى في عم يس، رغم انه وفى اول يوم للمفاصلة قد انحاز بوضوح شديد للقيادة التاريخية، وقال لي أحد الحضور انها مسرحية المفاصلة، انظر إليهم كأنهم على قلب رجل واحد.

عم يس كنا نعلم ونحن نزوركم بدار الاخوان داركم العامرة انك تعانى من المرض، ولكنك تخفيه لأنك كالطود الشامخ وزيارات الاستشفاء للأردن وغيرها كانت كلها اوجاع مخلوطة بوعثاء السفر ولكنك كنت صابراً محتسباً غير عابئ بها وكأنك تعلم يقيناً بأنها كلها كفارات للذنوب ارادها الله لتعود اليك كالثوب الأبيض الخالي من الدنس.. ثم يختار لك المولى عز وجل من الشهور رمضان الخالي من مردة الجن المصفدة والنيران المغلقة والجنان المفتحة الابواب يتقدمها عند المدخل باب الريان ورضوان، وكأنى بأبو دجانة يمسك بيده اليمنى قائمة شرف السبعين وانت تزينها ووالدته إحسان عبد الرحيم في شرف القائمة بشرى لكم آل يس. ثم من الأيام يختار لك المولى ان تلحق به في يوم الإثنين الذي كان يصومه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتسافر في الساعات الاولى من الصباح حيث ينزل الرحمن    ويسأل هل من تائب فأتوب عنه هل من مستغفر فاغفر له، فيتوب عنك، ويغفر لك بإذن الله.

اللهم إننا نشهد أن عم يس كان مسلماً حقاً ومؤمناً بك وبرسولك حقاً، وكان يرى الخير في الدنيا والآخرة باتباع رسولك وشريعتك، فعمل مع إخوته لتمكين دينك، اللهم أنزله منزل الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، وباعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المغرب والمشرق، وابدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من اهله وجيراناً خيراً من جيرانه ومد له في نعمائه مد بصره، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، والهم أهله وإخوته الصبر وآجرهم جميعاً في مصيبتهم. ولا نقول إلا ما يرضيك يا ربنا كما أمرتنا «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وإنا لفراقك يا عم يس لمحزونون.

ياسين عمر الإمام .. رحيل أسد الحركة الإسلامية  :

الصحافة نشر في النيلين يوم 23 - 07 - 2013

رجل شجاع .. لا ينكسر .. رجل أمة .. وفقد للبلاد .. وغني عن التعريف، كان رجلا وطنيا مخلصا لشعبه، هذه قليل مما وصفه المعزون في فقيد البلاد ورمز الحركة الإسلامية الشيخ ياسين عمر الإمام، الذي انتقل الى جوار ربه أمس، بعد صراع طويل مع المرض تحمله في صبر وصمت تام .. بكاه الجميع حتى ان ما بدا وكأنهم خصوم في عالم السياسة ذكروا شمائله وصفاته وكأنه اخ لم تلده امهاتهم، وجمع في لحظات الموت الأخيرة.. الرئيس ونائبيه ورموز الدولة والمعارضة بينهم آل الميرغني وآل المهدي علي حد سواء . وخيم الصمت المهيب على سرادق العزاء الذي كان موحدا لكل اطياف العمل السياسي .. وقبل وفاته بأيام قلائل أوصى الراحل رئيس الجمهورية عمر البشير بضرورة وحدة السودان، وخص بوصيته دولة الجنوب بالتعايش السلمي، وترك الخلافات بين الدولتين حينما زاره سفيرها في لحظات عمره الأخيرة .

غني عن التعريف :

قال نائب رئيس المؤتمر الوطني نافع علي نافع إن الراحل غني عن التعريف ووصفه بأنه شخصية فريدة من نوعها وضع بصمته في العمل الوطني، وكشف نافع عن ملامح من شخصية الراحل، وقال : إن الراحل عرف بالشهامة والمروءة والشجاعة، مشيراً إلى أن ياسين عمر الإمام تتجلى فيه صفات الاخوة الصادقة، وأضاف « نسأل الله له أعلى الجنان »، وأبان أن البركة في إخوانه وأسرته الصغيرة والكبيرة، وتمنى نافع لقاء ياسين في جنات الخلد.

وجهات نظر .. بلا مواربة :

مقرر مؤتمر الحركة الإسلامية عبدالله الأردب قال: إن ياسين عمر الإمام من الرجال الأفذاذ ، ولفت إلى أن الاقدار أكبر عظة وعبرة لدار الموت ،مشيراً إلى أن الموت من أكبر عظات الاموات والتي تذكر الناس بالآخرة وتجبرهم على تجديد التوبة، مبيناً أن عظة الموت تجعل الناس احرص على العفو وإصلاح ذات البين، وتجاوز الخلافات والمرارات، وقال الأردب أن الراحل كان شجاعاً وقوياً في قول الحق، مبيناً أن ياسين كان ذا شخصية قوية، مشيراً إلى قدرته في ابراز وجهة نظره بلا مواربة، مبيناً أن الراحل كان محل إجماع وتقدير كل تيارات الحركة الإسلامية.

رجل أمة .. وفقد للبلاد :

الأمين العام لجهاز شؤون المغتربين كرار التهامي قال : إن ياسين شخصية تاريخية قدمت الكثير من أعمال البر والكفاح والجهاد والعمل السياسي، ووصف التهامي الراحل ياسين عمر الإمام بانه « رجل أمة » لاسيما علاقاته الممتدة لكل أنحاء البلاد، وقال التهامي : إن منطقة الجزيرة كانت الاوفر حظا من اهتمام الراحل مشيرا الى وجود ارث الراحل في نفوس الناس طيلة العقود الماضية ، واعتبر التهامي رحيل ياسين بانه « فقد للبلاد وليس لأسرته فقط « ، ودعا التهامي للراحل بان يجعل بصماته حسنة في ميزان حسناته وصدقة جارية مشيرا لمجاهداته في العمل السياسي والفكري والاجتماعي .

رجل شجاع .. لا ينكسر :

رئيس لجنة ترقية أخلاقيات مهنة الصحافة بالمجلس القومي للصحافة وعضو البرلمان إبراهيم الخضر قال: إن ياسين عمر الإمام كان رجلا يتميز بالجرأة ووصفه بانه صاحب رأي وجرأة ولا ينكسر، وقال ان شخصية الراحل « شخصية مقاوم بكل معاني الكلمة »، مشيراً إلى فترة عمل الراحل بالسكة حديد وأيام رئاسته لتحرير صحيفة الميثاق ، وأبان أن الراحل كان رجلاً ذا عزة، ويجهر بالحق بعيداً عن المجاملة، ولفت إلى أن الراحل يمتاز بالصبر والشجاعة في آن واحد وقال نشهد له بتقدم الصفوف واوضح ان الراحل لا يخشى في الحق لومة لائم .

رجل بلا كسب .. ولا أجر :

-رئيس المجلس الوطني إبراهيم الطاهر قال:  إن رحيل ياسين عمر الإمام هو فقد لكل السودان وللحركة الإسلامية على مستوى السودان والعالم الإسلامي مشيراً الى رحلة الراحل الطويلة منذ خمسينات القرن الماضي، ولفت الى تجرد الراحل للعمل الإسلامي مشيراً لبذل الراحل لنفسه وماله ووقته من اجل الدعوة الإسلامية، مؤكداً « إنه لا يمكن أن يلاقى بأي أجر »، وابان ان الراحل كان متواضعا ومخلصا وذا غيرة على العمل الإسلامي، مضيفا « كان قادرا على التعامل مع كل تيارات العمل الإسلامي »، مشيراً الى قدرة الراحل التنظيمية العالية ، وكشف أن الراحل كان «لا يرجو كسباً ولا أجراً ولا موقفاً ولا مصلحة » وأبان أن ذلك كان له اثره في رفع قيمته بين إخوانه وزملائه، مشيراً إلى أن أسرة الراحل التي رفدت المجتمع بشخصيات فذة، ولفت الطاهر إلى إسهام الراحل في الثقافة الإسلامية.

خادم الحركة الإسلامية :

في سانحة علي عجل التقت الصحافة بابن الراحل عمار يس عمر الإمام، وكان قد تحلي بالصبر، وهو يتلقى جموع المعزين من كل صوب وحدب، وقال ل«الصحافة» ان والده رحمة الله عاش وافني حياته في حبه والعمل لوطنه وللامة الإسلامية علي حد سواء كما خدم رسالة الإسلام ونشرها في جميع بقاع العالم ,روسيا، البوسنا، افغانستان وغيرها من البلدان ذات الشدة وأنه كان رجلا يحب السودانيين كافة دونما تمييز وبصفة خاصة كان مهتما بالأقليات المسلمة في إفريقيا وقال : إن والده لم يقعده عن العمل العام الا المرض، وأوصي الرئيس البشير الذي زاره في مستشفى الزيتونه قبل وفاته بخمسة ايام حمله وصية وحدة السودان وان السودان بلد يسع الجميع لافتاً إلى أن والده كانت تربطة علاقات صديقة وودودة متميزة مع الاطياف السياسية السودانية كافة دونما اية تمييز وانه لايري غضاضة في اختلاف السياسة كما العرب وأن أصدقائه ظلوا يزورونه أثناء مرضه في البيت ثم انتقل إلي منه الي مستشفى الزيتونة التي مكث فيها مستشفياً حوالي «43» يوما قبل وفاته ، كانوا يتفقدونه بصورة مستمرة، لافتا إلى إن الراحل قضي أربع سنوات كان يصارع فيها المرض بصبر تام وقلب مؤمن بابتلاء الله حتي إن سفير دولة الجنوب ميان دوت قال إنه سجل له زيارة قبل وفاته بأيام قليلة في المستشفى، وأبان أن والده ترك وصية ثانية هي محل اهتمامه تتمثل في ان تظل ابواب بيته مفتوحة للآخرين وللسودانيين كافة دون فرز أو تمييز .

وشائج قربى.. سياسية واجتماعية :

القيادي البارز بالحزب الشيوعي صديق يوسف شكل حضوراً ضافياً وأوضح في كلمات بائنة التأثر أنه تربطه علاقة شخصية مع الراحل يس عمر الإمام إذ أنه كان صديقه منذ أيام الطفولة حيث قرأ الخلوة في مهد الطفولة إلي جانب الجيرة في السكن حي القلعة الكائن بأم درمان ورغم أن صديق يوسف يكبر الراحل بسنه دراسية لكنها لم تكن عائقاً في العلاقات الشخصية والاسرية الممتدة لأكثر من 60 عاما ، وتطرق صديق إلي أيام دخولهم مدرسة الكتاب وكيف ان صديق كان يسكن مع عم عبد القادر عمر الإمام عم الراحل في البيت الحكومي النهود، وهو كان نائب قاضي بينما كان والد صديق قاضياً، ويسكن معه يس في بيت الحكومة ايضا في النهود في فترة من الفترات، وقال في فترة من الفترات ربطتنا السياسة من خلال العمل الطلابي وقتها كنا مع المرحوم كوادر في الحزب الشيوعي وكنت ناشطا في مدرسة وادي سيدنا الثانوية بينما كان يس عليه الرحمة ناشطاً لصالح الحزب في المدرسة الأهلية الثانوية، لافتاً إلي أن السبل فرقتهم لكنهم اجتمعوا ثانية في المعتقل، ومكثوا سنوات بسجن كوبر من سنة 1970م حتي أواخر السبعينات، وقال بعد المفاصلة ارتبطنا في العمل السياسي من خلال قوى الاجماع الوطني.

محسن منتصف الليل .. توزيع الكفن وكيس الصائم :

أما سيف الإسلام خالد عمر مدير مكتب نائب الرئيس دكتور الحاج يوسف يقول ل«الصحافة » باقتضاب إن يس عمه في الحسبة غير أنه كان أبا للجميع ومربياً للكل، وكنت ملازماً له علي طول الأوقات ، ويمتدح يس عمه كونه كان رجلاً طيباً وقلبه وبيته مفتوح للجميع بالنسبة لأهل الحي وذوي القربي وشباب الحركة الإسلامية، منوهاً إلى أن الراحل كان يشرف بنفسه علي توزيع كيس الصائم خاصة في شهر رمضان، ويولي الأمر اهتماماً خاصّاً وهو علي في مرضه أيضاً كان يوصي بعدم ترك مساعدة الفقراء وتوزيع فرحة الصائم، وهو الذي كان يشير اليهم بأصابع البنان لبعض الأسر المحتاجة والتي يمنعها التعفف من إظهار ذلك فقد كان يهتم بهم أيضاً مضيفاً اهتمام الراحل بشكل خاص بالمقابر وذلك بتقديم الدعم اللازم لمنظمة حسن الخاتمة حتي تضطلع بدورها المنشود في تهيئة أوضاع المقابر والدفن ما يليق بالكرامة الإنسانية والدينية، ويخص مقابر أحمد شرفي والبكري إلى جانب الصدقات الراتبة لكفن الميت وسط الأهالي سواء كان كفن رجل ، أو امرأة أو طفل .

النائب يترجل .. بانتظار الأمل في الشفاء :

صلاح عثمان عمر مدير مكتبه حكي لنا أنه لازم الشيخ يس طوال 15عاماً، وهو الذي يدير شئونه في العمل، وبدأ لي أن صلاح كان أكثر تأثراً يكفكف دمعه أثناء الحديث عن شخصية الراحل ، قال صلاح  : إن النائب الأول للرئيس علي عثمان ترجل من سيارته الرئاسية في منتصف الليل لجلب «5» زجاجات دم عاجلة لإسعاف الراحل، إن النائب الأول علي عثمان انتظر علي قارعة الطريق أملاً في الشفاء لكن أمر الله كان مقضياً ، وأضاف أنه ولأول مرة تعانق بالبكاء في يوم الرحيل النائب الأول علي عثمان مع الشيخ حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية، ونائب الرئيس دكتور الحاج آدم يوسف مع إبراهيم السنوسي القيادي بالمؤتمر الشعبي .

آخر الوصايا :

ومازال صلاح عمر مدير مكتبه يسرد تفاصيل اللحظات الأخيرة في أن الراحل أوصي الرئيس عمر البشير أثناء زيارته له في مستشفى الزيتونة بضرورة وحدة البلاد، وأن السودان بلد يسع الجميع، وقال  : إن البشير رد عليه قائلاً «وصيتك في دربها لآخر كلمة »، وهي محل اهتمامنا بالطبع. كما أنه لم ينس دولة الجنوب، وذكر صلاح عمر أن سفير دولة الجنوب ميان دوت كان أذاناً صاغية لوصايا الراحل الذي أوصاه بالعمل علي التعايش السلمي، وترك الخلافات بين البلدين.

تقرير : عبد الوهاب جمعة ، فاطمة رابح

حوار بإذاعة الفرقان

وصية الشيخ يس عمر الامام لاخوانه والرئيس ، وعلى عثمان

• رسالة إلى إخوانه  :

أصبحت المصلحة الشخصية وعدم الوعى والجري وراء المنفعة هي السائدة، لابد من تقبل الأعذار والاعتذار لبعض والرجوع إلى الله حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا والرجوع إلى أصول الدين والرأي الجامع الغالب والتمسك بالدين وملاقاة ربهم راضي عنهم، وعدم احتكار الرأي والسلطة، انسوا المناصب والرجوع إلى الله أتمنى عمل مباردة والالتفاف حولها .

• رسالة لعلى عثمان :

تذكر أنك تربيت في أحضان الحركة، وتذكر العلاقة القديمة ولك أساتذة لهم دور في حياتك أصبحت علاقتك بهم ضعيفة، واصل، ومتن وقوى علاقتك وصلتك معهم والعب دور في وحدة الحركة الإسلامية .

• رسالة للرئيس عمر البشير  :

حسن الترابي أصابه أذى كبير، اطلب من عمر؛ لأنه الآن في السلطة يحاول يعمل مبادرة يجمع إخوانه الآخرين وجميع أهل السودان لأنه في السلطة مبادرة يلم فيها السودان كما أوصى بالرجوع إلى الله وكل فرد يحاسب نفسه، وننصح بعضنا بعض، ونعفوا عن بعض وترك الضغائن والعمل لله مبادرة يلتفي فيها كل أهل السودان وإن دعا ذلك إلى ترك السلطة لأن السودان أهم من السلطة .

clip_image005_1c341.jpg

تشييع فقيد السودان ياسين عمر الإمام :

22 يوليو,2013 م : (        غيب الموت يوم الإثنين أحد رموز الحركة الإسلامية والوطنية بالسودان؛ ياسين عمر الإمام، وتقدم جموع المشيعين إلى مقابر البكري الرئيس عمر البشير، وقادة الأحزاب السياسية؛ وعلى رأسهم الأمين العام للمؤتمر الشعبي د. حسن عبد الله الترابي.

وشارك في التشييع النائب الأول للرئيس؛ علي عثمان محمد طه، ونائب الرئيس؛ د. الحاج آدم. ووزير الرئاسة السودانية؛ بكري حسن صالح، وأحمد سعد عمر وزير وزارة مجلس الوزراء، والسيد إدريس محمد عبد القادر، ود. أمين حسن عمر.

كذلك شارك في مراسيم التشييع العديد من الرموز السياسية والدينية بالبلاد، وقيادات حزب المؤتمر الشعبي، الذي كان ينتمي إليه الفقيد، بجانب جموع غفيرة من المواطنين، وأصدقاء الفقيد وزملاءه.

واحتسبت الرئاسة السودانية عند الله تعالى الشيخ يس عمر الإمام.

ويعد الراحل شخصية وطنية بارزة، وأحد قيادات الحركة الاسلامية في السودان، وله اسهامات مقدرة في مسيرة حياته التي سخرها لخدمة الوطن واعمال الخير .

وترك الفقيد بصمة واضحة في مسار العمل السياسي والفكري في القضايا الوطنية المختلفة

الشروق نت .

clip_image006_43c92.jpg

الشيخ ياسين عمر الإمام في ذمة الله :

clip_image008_e4859.jpg

غيب الموت أمس الاثنين بالخرطوم الشيخ ياسين عمر الإمام أحد قيادات الحركة الإسلامية السودانية، وأحد أصدقاء الشعب الإريتري خلال فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار ومن الذين قدموا دعماً لا محدوداً للقضية الإريترية حيث أمسك بملف الثورة الإرترية في الجبهة الإسلامية القومية وحركة الإخوان المسلمين .

وكان الفقيد مشاركاً في الهم اليومي للثورة الإرترية من خلال استضافته لقياداتها وكوادرها في منزله العامر ، وظل على تواصل دائم معها من خلال مشاركته في معظم المناسبات التي تقيمها الثورة الإرترية بمختلف أطيافها في السودان حيث شارك في تشييع الزعيم الوطني الإريتري عثمان صالح سبي عام 1987م واحتفالات استقلال إريتريا في أسمرا عام 1991م ، ويعتبر الفقيد أحد الملمين بتاريخ الثورة الإرترية حيث أورد الدكتور جلال الدين محمد صالح – أكاديمي إريتري-في كتابه الذي أصدره بعنوان الحركة الإسلامية والعمل السياسي (ولقد حدثني الأستاذ ياسين عمر الإمام الذي أمسك بملف الثورة الإرترية في حركة الإخوان المسلمين عندما زرته في منزله بعد عودته من أسمرا عقب مشاركته في احتفالات عيد الاستقلال، مع أول وفد سوداني دخل إرتريا عقب تحريرها ليشارك في أول عيد استقلال تقيمه الجبهة الشعبية، بأن أول باخرة دعم اقتصادي لجبهة تحرير إرتريا كانت من المحسن الكويتي رئيس جمعية الإصلاح أبو بدر عبد الله المطوع ) . نسأل الله أن يتغمد الشيخ ياسين عمر الإمام بشآبيب رحمته ويلهم أله وذويه الصبر وحسن العزاء .

ياسين عمر الإمام رمح سوداني وجهته فلسطين :

كتب الأستاذ معن بشور يوم الخميس 25 تموز (يوليو) 2013م :

“متى سيكون موعد الأسطول القادم لكسر الحصار على غزة”، بهذا السؤال المفعم بالحرارة استقبلني ذلك الرمح السوداني، المغمس بعمر طويل من الإيمان والكفاح والتضحية بأغلى ما  يملك، حين زرته قبل عامين ونيف، كما افعل في كل مرة أزور فيها السودان، وذلك في منزله القديم في أم درمان أبان مشاركتي في مؤتمر مؤسسة القدس الدولية...

واستطرد الشيخ ياسين عمر الإمام قائلاً: “هذه المرة لن أقبل إلا أن أكون على متن هذا الأسطول” دون أن يعلم أن العدو الصهيوني قد نجح بعد مرارة تجربته مع “سفينة مرمرة” أن يجعل من البحر المتوسط بحيرة إسرائيلية .

قلت لصديقي محمد حسب الرسول الذي اصطحبني إلى منزل المجاهد والكاتب والصحافي والأديب الشيخ الإمام – رحمه الله - :“هل يعقل أن نكون في السودان، ولا نزور ”الشيخ الإمام“ خصوصاً بعد تفاقم مرضه الذي أقعده في منزله، بل خصوصاً إننا في حضرة القدس، التي شغلت ”العم“ ياسين، وسكنت وجدانه وفكره؟”

كانت الدقائق التي أمضيناها في الطريق حافلة بحكايات ذلك المجاهد الذي أجمع على احترامه كل السودانيين بيسارهم ويمينهم، بإسلامييهم وليبرالييهم، “بترابيهم” – نسبة للدكتور حسن الترابي – وببشيرييهم” – نسبة إلى الرئيس عمر حسن البشير -.

كان ذلك الرجل يجسّد الرحابة السودانية بكل معانيها، كما يجسّد الهوية العربية دون تعصب، والنقاء الإسلامي دون تمذهب، والسحر الأفريقي دون تبجح، فلم يهادن في عقيدته ولكنه لم يجعل من عقيدته متراساً يطلق من خلفه النار على عقائد الآخرين وقناعاتهم، ولم يساوم في مبدأ، لكنه لم يسمح لمبدئيته أن تجعل منه “فظاً غليظ القلب” فينفض الناس من حوله.

علمته الأيام إن الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية، وإن التباين في المواقف يجب أن لا يكون سبباً للقطيعة بين أبناء الوطن الواحد...

لم تحل يساريته في مقتبل العمر بينه وبين الالتزام بالإسلام عقيدة وثقافة، حاله في ذلك حال معظم اليساريين في السودان وعلى رأسهم القائد الشيوعي الشهيد عبد الخالق محجوب، وخليفته الراحل محمد إبراهيم نقد، كم لم يضعف انتسابه فيما بعد إلى الحركة الإسلامية السودانية ( وكان من روادها الأوائل)، من حسه العالي بالقضايا الاجتماعية التي تهم فقراء بلاده، والانتماء العربي القومي، والانشغال بقضايا أفريقيا التي كان يعتبر الشيخ ياسين ورفاقه أنه لهم فيها رسالة تاريخية هو تعميق الروابط الحضارية والروحية والثقافية بين العرب من جهة، وثلثاهم من الأفارقة، وبين الأفارقة ونصفهم من العرب من جهة ثانية.

صاحب القامة المديدة كان أيضاً صاحب همّة عالية لم تستسلم لمرض أو ليأس أو لوهن، بل كنت تراه حاملاً رسالته، رسالة التقريب بين أبناء الأمة وتياراتها، ورسالة التحرير من كل أنواع الاحتلال والهيمنة، متحركاً من عاصمة إلى أخرى، ومن مؤتمر إلى ملتقى، غير آبه بنوبات قلبية تصيبه هنا أو هناك وتنقله من قاعة المؤتمر إلى “طوارئ” المستشفى، حتى تمكن المرض من جسده فأقعده في المنزل دون أن يتمكن من همته وعطائه.

بقي يكتب في جريدة (رأي الشعب) المعارضة التي كان يرأس تحريرها حتى توقفها بقرار سياسي، وبقي يتجاوب مع كل مبادرة خير لا سيّما، ونداء كفاح، لا سيّما حين يكون الأمر متعلقا بفلسطين التي قال لي في لقائي الأخير معه عنها :“إن أعظم أمانيي هو أن أستشهد فوق أرضها”، ولا أنسى كيف ترك السودان لأيام وأسابيع كي يبقى مع المبعدين الفلسطينيين في “مرج الزهور” في البقاع اللبناني عام 1991 ، وبينهم الشهيد الكبير عبد العزيز الرنتيسي، وحين اضطرت سلطات الاحتلال إلى إعادتهم إلى بلادهم بسبب صمودهم، والموقف اللبناني الصلب آنذاك، كنت تسمع الشيخ ياسين يتمتم قائلاً: “ليتني اذهب معكم لأكحل عيني بأرض فلسطين، وأصلي في الأقصى، واستشهد في القدس الغالية على كل مؤمن”.

من يعرف ياسين عمر الإمام يدرك أنه كان من طينة فريدة من المناضلين، فلم يطمح يوماً لمنصب رسمي، رغم أن المناصب كانت في متناول يديه في أكثر من مرحلة، ولم يسعى يوما لجمع المال رغم أن حصوله عليه لم يكن صعباً بالنسبة لأمثاله، وكان شعاره الدائم “يجب أن نفكر كيف نعطي لبلادنا والأمة، لا كيف نأخذ منها”.

ولقد صدق وعد الشيخ ياسين لربه، فأعطى الأمة كل عمره، وأعطى السودان اثنين من فلذات أكباده شهيدين في سبيل وحدة الوطن وسلامة ترابه ودوره في محيطه العربي والإسلامي والإفريقي.

مصادر الترجمة :

1-شذرات من سيرة يسن عمر الإمام -7ج -  بقلم: عبد الحميد أحمد محمد .

2- موقع سودارس بتاريخ 22 / 7 / 2013م .

3- كلمة الشيخ حسن الترابي في رثاء الشيخ يسن عمر الإمام – على اليوتيوب .

وسوم: العدد 818