الأديب الشهيد سيــــــد قطب

المستشار عبد الله العقيل

clip_image002_89062.jpg

 (1324 - 1386هـ / 1906-1966م)

مولده ونشأته

وُلِدَ صاحب (الظلال) الأستاذ الأديب الناقد الكبير سيد قطب إبراهيم في قرية (موشه) التابعة لمحافظة أسيوط في صعيد مصر عام 1324هـ الموافق 9/10/1906م، ودخل المدرسة الابتدائية في القرية عام 1912م، حيث تخرج فيها عام 1918م، ثم انقطع عن الدراسة لمدة عامين بسبب ثورة 1919م.

وفي عام 1920م، سافر إلى القاهرة للدراسة، حيث التحق بمدرسة المعلمين الأولية عام 1922م، ثم التحق بمدرسة (تجهيزية دار العلوم عام 1925م) وبعدها التحق بكلية دار العلوم عام 1929م، حيث تخرج فيها عام 1933م ـ 1352هـ، حاملاً شهادة الليسانس في الآداب.

عُين بعد تخرجه مدرسًا في وزارة المعارف بمدرسة الداودية، ثم انتقل إلى مدرسة دمياط عام 1935م، ثم إلى حلوان عام 1937م، وفي عام 1940م نقل إلى وزارة المعارف، ثم مفتشًا في التعليم الابتدائي، ثم عاد إلى الإدارة العامة للثقافة بالوزارة عام 1945م، وفي هذا العام ألّف أول كتاب إسلامي هو (التصوير الفني في القرآن) وابتعد عن مدرسة العقاد الأدبية.

وفي عام 1368هـ / 1948م أوفدته وزارة المعارف إلى أمريكا للاطلاع على مناهج التعليم ونظمه، وبقي فيها حوالي السنتين، حيث عاد إلى مصر في 20/8/1950م - 1370هـ، وعُين في مكتب وزير المعارف بوظيفة مراقب مساعد للبحوث الفنية واستمر حتى 18/10/1952م حيث قدم استقالته.

دعوته للإصلاح

عمل سيد قطب في الصحافة منذ شبابه ونشر مئات المقالات في الصحف والمجلات المصرية، كالأهرام والرسالة والثقافة، وأصدر مجلتي «العالم العربي»، و«الفكر الجديد»، ثم ترأس جريدة «الإخوان المسلمون» الأسبوعية عام 1373هـ/1953م، وهي السنة التي انتسب فيها إلى الإخوان المسلمين رسميًا، وكان قبل ذلك قريبًا من الإخوان متعاونًا معهم، وقد حارب في مقالاته مظاهر الفساد والانحراف في حياة مصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهاجم المسؤولين عن ذلك الفساد، ودعا إلى الإصلاح على أساس الإسلام، فكان - بهذا وغيره - رجلاً اجتماعيًا ذا حضور دائم في حياة مصر الثقافية والاجتماعية والسياسية والإصلاحية، وكان يعد الإنجليز وعملاءهم وأعوانهم من رجال القصر والحكومات المتعاقبة ورجال الأحزاب والإقطاع وكبار التجار السبب في تخلف مصر.

وصل سيد قطب في النقد والأدب إلى القمة، وبشّر بنظرية نقدية جديدة في النقد الأدبي، أطلق عليها «نظرية الصور والظلال»، كما دعا إلى (المنهج المتكامل في النقد الأدبي)، وذلك بالجمع بين المنهج الفني والمنهج التاريخي والمنهج اللغوي والمنهج النفسي.

وفي عام 1367هـ / 1947م، اتجه سيد قطب إلى الإسلام، وغدا مصلحًا إسلاميًا ثم صار أحد أبرز رواد الفكر الإسلامي المعاصر، ودعا إلى بعث إسلامي طليعي، وإلى استئناف الحياة على أساس الإسلام، ولهذا فسّر القرآن الكريم تفسيرًا جديدًا في كتابه الضخم «في ظلال القرآن» وكان فيه صاحب مدرسة جديدة في التفسير، هي مدرسة التفسير الحركي لما أضافه من معانٍ وأفكار حركية وتربوية على تفسيره.

دعا سيد قطب إلى العزلة الشعوريـة المتعلقة بإحساس المسلم ومشـاعره، لا العزلـة المادية الحسيـة المتعلقة بالأعضـاء والجوارح، فـي حـدود ما أحـلّ الله من حلال وما حرم من حرام، وكـان يرى أن هـذه العزلـة الشعوريـة تنشأ تلقائيًا في حس المسلم الملتزم تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام.

لم يصدر سيد قطب أحكامًا شرعية على الناس، ولم يقل بتكفير الناس، ولذلك نجده يؤكد ذلك بقوله: «إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة «لا إله إلا الله» لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله».

عقيدة سيد قطب عقيدة السلف الصالح، وفكره فكر سلفي خال من الشوائب، تركز حول موضوع التوحيد الخالص، وبيان المعنى الحقيقي لـ «لا إله إلا الله»، وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان، كما وردت في الكتاب والسُّنَّة، كما ركّز في كتاباته حول مسألة الحاكمية والولاء ليكون خالصًا لوجه الله تعالى وحده.

واجه سيد قطب الجاهلية المعاصرة فيما كتب، وأظهر حقيقتها، وبيّن أنها ليست حالة فردية بل يتحرك أفرادها ككائن عضوي بعضهم أولياء بعض، وطالب المجتمع المسلم بأن يواجه هذه الجاهلية بذات الخصائص، ولكن بدرجة أقوى وأعمق، حتى لا تقع الفتنة بظهور الفساد في البر والبحر.

عرّف سيد قطب المجتمع الجاهلي بأنه: «كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي وفي الشعائر التقليدية وفي الشرائع القانونية».

ألّف الشهيد سيد قطب عددًا كبيرًا من المؤلفات غلبت عليها الوجهة الأدبية من نقد وأدب وشعر وقصص في بداية حياته العلمية، ثم تحول بشكل جذري إلى العطاء الفكري الإسلامي، وهذا التطور يمثل التحول العميق في حياته المستمرة وسيرته العطرة، وكان لمحاضراته الإسلامية في بلاد الشام حين حضوره المؤتمر الإسلامي للقدس، أكبر الأثر في نفوس الجماهير خاصة شباب الجامعات، الذين هللوا لهذا التوجه الإسلامي عند الأديب الكبير.

يقول الأستاذ أحمد حسن في مقدمة لكتاب (فقه الدعوة) لسيّد قطب: ـ.

«... ويُسجل التاريخ أن سيِّد قطب سقى تربة الدعوة بدمه، وغذّاها بفكره، وأطعمها من وقته وأعصابه وراحته، لقد مات سيِّد قطب ولكن آثاره لم تمت، فقد خلّف من بعده كتبًا وآثارًا ستبقى خالدة على مر التاريخ لأنه كتبها مرتين: مرة بمداد العالم، ومرة بدم الشهيد».

وكان يرمي من وراء هذه الكتب أن ينقل الناس إلى جو القرآن من جديد بحيث يتذوقونه غضًا طريًا كما أنزل؛ واستطاع الرجل بأسلوبه العذب، وإدراكه العميق لما وراء الكلمات والحروف أن يكشف للناس أسرارًا ومعاني لم يُسبق إليها، وأن يضع المسلم في مناخ قرآني يشمُّ عبيره ويستروح نسماته ويعيش - وهو في القرن العشرين - في ظلال القرآن، حيث كان يكتب في مشكلات الساعة وقضاياها الملحّة التي يعيشها الناس ويعانون من شرورها وآثامها ووضع الحلول الصالحة التي يعتقد صوابها وجدواها.

ففي مواجهة شرور الشيوعية والرأسمالية كتب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و(السلام العالمي والإسلام) و(ومعركة الإسلام والرأسمالية)، وفي مواجهة انحرافات الحضارة وأخطائها كتب (الإسلام ومشكلات الحضارة)، وفي مواجهة العقائد والتصورات والمناهج الضالة كتب (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته) و(هذا الدين) و(المستقبل لهذا الدين)، وفي منطلقات العمل وخطواته الحركية كتب (معالم في الطريق).

أهم مؤلفاته

ومن أهم مؤلفاته:

- في ظلال القرآن

- هذا الدين

- المستقبل لهذا الدين

- خصائص التصور الإسلامي

- مقومات التصوّر الإسلامي

- معالم في الطريق

- التصوير الفني في القرآن

- مشاهد القيامة في القرآن

- الإسلام ومشكلات الحضارة

- العدالة الاجتماعية في الإسلام

- السلام العالمي والإسلام

- كتب وشخصيات

- أشواك

- النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه

- نحو مجتمع إسلامي

- طفل من القرية

- الأطياف الأربعة

- مهمة الشاعر في الحياة

- معركة الإسلام والرأسمالية

- تفسير آيات الربا

- تفسير سورة الشورى

- دراسات إسلامية

- نحو مجتمع إسلامي

- معركتنا مع اليهود

- في التاريخ فكرة ومنهاج

وقد أصدرت مجلة «عالم الكتب» التي تصدر بالمملكة العربية السعودية فهرسًا جيدًا لمؤلفاته ومقالاته.

وقد كتب بعض هذه الكتب قبل أن يتوجه التوجه الإسلامي الملتزم الذي لقي الله عليه، ولكنها على كل حال تمثل مرحلة من مراحل حياته.

معرفتي به

لقد سعدتُ بمعرفته أوائل الخمسينيات، بعد عودته من أمريكا، حيث زرته مع مجموعة من الإخوة الزملاء في بيته في حلوان، وكنا قبل لقائه قد قرأنا كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الذي صدر عام 1947م، ودارت أحاديث معه حول توجهه الإسلامي، وكانت الندوات في بيته تضم مجموعة من الإخوة السودانيين والسوريين والعراقيين والأردنيين، وإخوة من البحرين، ودول الخليج والجزيرة، بالإضافة للإخوة المصريين، وكان التركيز على ضرورة قيام الطليعة المؤمنة بدورها في تغيير المجتمع، بعد أن تكون قد تربت على منهج الإسلام، وصاغت نفسها وفق تعاليم القرآن الكريم، الذي صاغ من قبل الجيل القرآني الفريد، فكانوا نماذج صادقة عن الإسلام، قولاً وعملاً واعتقادًا وسلوكًا.

وكان يروي كيف أنه لاحظ الـفرحة التي عمّت الولايات المتحدة حين سماعهم بمـقتل الإمام البنا، حيث خرجوا يرقصـون ويغنون ويتبـادلون الـتهاني!

وحين تساءل عن الأمر قيل له: إن أخطر عدو للغرب وأمريكا قد قتل بمصر وهو حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين.

واستغرب سيد قطب أن يكون هذا شأن البنا وهو لم يعرفه بهذه المكانة الخطيرة حين كان بمصر.

فقرر أنه إذا عاد إلى مصر فسيبادر للاتصال بجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا ويتعاون معها، وقد كان ذلك والحمد لله.

لقد كان الأخ عيسى آل خليفة وإخوانه من البحرين، والأخ محمد مدني وإخوانه من السودان يكثرون من زيارة سيد قطب، بحكم أنهم يسكنون في حلوان، أما نحن فكنا نزوره بين الفينة والأخرى، ولكن كنا نحرص على قراءة كتبه الأخيرة ذات التوجه الإسلامي، وحين كنتُ طالبًا في الثانوية لم أكن أميل إلى سيد قطب بحكم أنه من مدرسة العقاد، بل كنت أميل إلى مدرسة الرافعي وتلامذته سعيد العريان، وعلي الطنطاوي، ومحمود شاكر، وبعد وصولي لمصر وقراءاتي لكتاباته في مجلة «الفكر الجديد» ومقالاته عن حسن البنا وعن الإخوان المسلمين في مجلة «الدعوة» وحضوري لندواته في بيته، ومحاضراته الرائعة في جمعية الشبان المسلمين ضد فرنسا، ومطالبته بخلع الألقاب والشهادات الفرنسية انتصارًا لإخواننا في شمال أفريقيا، وكـذا مقالاته عن مواكب الفارغات، كل هذه الأشياء قربتني كثيرًا منه، وصارت له مكانة عظيمة في نفسي، فصرت أقبل على كل ما يكتب من مقالات أو يصدر من كتب وأقرؤها بنهم وشغف، حتى إذا التحق بالإخوان المسلمين وتولى الجوانب الثقافية والدعوية ورئاسة تحرير جريدة «الإخوان المسلمون» أصبحت الصلة به أقوى وأوثق وأعمق.

الإسلام الأمريكاني

يقول الشهيد سيد قطب:

«الإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه الإسلام الذي يقاوم الشيوعية، إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم.

إنهم يريدون إسلامًا أمريكانيًا، إنهم يريدون الإسلام الذي يُستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يُستفتى في أوضاع المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية، إنها لمهزلة بل إنها لمأساة.

إن هذا المجتمع لا يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله، ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها، على أساس هذه العبودية الخالصة».

الخلاف مع الثورة

اختلفَ سيد قطب مع رجال الثورة المصرية بعد أن انقلب عبد الناصر على الرئيس محمد نجيب، وتفرد بالسلطة، وأقام الحكم الدكتاتوري بدل النظام الشوري، وتعدى على رجال القانون والدعاة وأساتذة الفكر والعلماء، فاعتقل سيد قطب لأول مرة مطلع عام 1954م، وبقي لمدة شهرين في المعتقل مع قيادات الإخوان المسلمين، ثم اعتُقِلَ مرة أخرى بعد مسرحية (حادث المنشية) التي اتهم عبد الناصر فيها الإخوان بمحاولة اغتياله يوم 26/10/1954م، حيث قُدِّم سيد قطب للمحاكمة يوم 22/11/1954م وكانت المحكمة برئاسة جمال سالم، وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي، وحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا، ثم توسط الرئيس العراقي عبد السلام عارف فأفرج عنه بعفو صحي عام 1964م.

وفي عام 1965م، أعلن عبد الناصر من موسكو، وكان في زيارة لها عن اكتشاف مؤامرة دبرها الإخوان المسلمون بقيادة سيد قطب لاغتياله وقلب نظام الحكم!! فاعتقل سيد قطب للمرة الثالثة يوم 9/8/1965م، وبدأ التحقيق معه في السجن الحربي في 19/12/1965م، واستمر ثلاثة أيام، حيث بدأت محاكمته أمام محكمة برئاسة فؤاد الدجوي يوم 12/4/1966م، وأصدرت المحكمة حكم الإعدام على سيد قطب يوم 21/8/1966م، وقد وصلت برقيات كثيرة من أنحاء العالم العربي والإسلامي تطالب عبد الناصر بعدم تنفيذ حكم الإعدام في سيد قطب.

وكان الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز آل سعود قد أرسل برقية لعبد الناصر وصلت يوم 28/8/1966م، يرجوه فيها عدم إعدام سيد قطب، وأوصل سامي شرف البرقية لعبد الناصر في ذلك المساء، فقال عبد الناصر لسامي شرف: «أعدموه في الفجر.. بكـرة، واعرض عليَّ البرقية بعد الإعدام!»، ثـم أرسل عبد الناصر برقية اعتذار للملك فيصـل بأن البرقيـة وصـلت بعد تنفيذ الإعدام!!.

وكان تنفيذ الحكم قد تم قبل بزوغ فجر يوم الاثنين 13/5/1386هـ  29/8/1966م.

المودودي يوم الإعدام

روى الشيخ خليل أحمد الحامدي - سكرتير المودودي - قائلاً: غداة تنفيذ حكم الإعدام بالشهيد سيد قطب، دخلنا على المودودي في غرفته وكانت الصحافة الباكستانية قد أبرزت الخبر على صفحاتها الأولى، وقصّ علينا أمير الجماعة المودودي هذه القصة، فقال: «فجأة أحسست باختناق حقيقي.. ولم أدرك لذلك سببًا.. فلما عرفت وقت إعدام الشهيد سيد قطب في الصحافة أدركت أن لحظة اختناقي هي نفس اللحظة التي شنق فيها سيد قطب»!.

ويضيف الشيخ خليل الحامدي: وفي عام 1966م بمكة المكرمة وفي فندق شبرا، دخل شاب عربي مسلم على الأستاذ المودودي وقدّم له كتاب «معالم في الطريق» لمؤلفه سيد قطب، وقرأه الأستاذ المودودي في ليلة واحدة، وفي الصباح قال: «كأني أنا الذي ألّفت هذا الكتاب!!» وأبدى دهشته من التقارب الفكري بينه وبين سيد قطب، ثم استدرك يقول: «لا عجب، فمصدر أفكاره وأفكاري واحد، وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)».

يقول الشهيد سيد قطب:

«إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة، تأبى أن تكتب كلمة واحدة تقر بها لحاكم طاغية، فإن كنتُ مسجونًا بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنتُ مسجونًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل».

ويقول الدكتور أحمد عبد الحميد غراب:

«لا ندعي العصمة للشهيد سيد قطب، ولا لغيره من العلماء والدعاة المسلمين، فكلٌ يُؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم (صلى الله عليه وسلم)، ونحن لا نقدس الشهيد، ولكن نقدره ونوفيه حقه، ولا نتجنى عليه ولا نطعن فيه، وما أضيع أمة لا تعرف حق علمائها العاملين وشهدائها المجاهدين وهم الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 4).. انتهى.

لقد كان إعدام الشهيد سيد قطب حدثًا أليمًا، هز العالم العربي والإسلامي، وأثار العلماء والدعاة وجماهير الإسلام، ولكنه في الوقت نفسه أثلج صدور اليهود والصليبيين والملاحدة والشيوعيين أعداء الإسلام!.

ولقد استنكر المسلمون هذه الجريمة الشنعاء، وأُقيمت صلاة الغائب عليه في المشرق والمغرب، وأصدر الكثير من الصحف الإسلامية بالعربية وغيرها أعدادًا خاصة عن الشهيد سيد قطب وإخوانه، وتوقع الكثيرون من العلماء والدعاة أن تصيب المجرمين قارعة فلم تمض سوى بضعة أشهر حتى حصلت نكبة عام 1967م، هُزِم عبد الناصر شر هزيمة وكتب علال الفاسي الزعيم المغربي وخطب قائلاً: «ما كان الله لينصر حربًا يقودها قاتل سيد قطب».

يقول الشاعر أحمد محمد الصديق:

أقبلتَ نحو الله تدعو للهدى

يتهافتون على السفاسفِ بينما

وتجرّد القلم الذكيّ مذكرًا

حتى نسجتَ من الحقائق راية

وأنرت للأجيال خير «معالم»

وجعلت وارفة «الظلال» معارجًا

والناسُ في لهوٍ وفي إدبارِ

ترنو إليهم مشفق الأنظارِ

بالله ترفض غير حكم الباري

خفاقة في عالم الأفكارِ

تجلو سبيل الحق للأبرارِ

نحو الخلود ومرتقى الأطهارِ

لقد ظنّ الطغاة أنهم إذا قتلوا الدعاة قضوا على الإسلام، ولكن شاء الله غير ذلك، فلقد انتشرت مؤلفات سيد قطب في جميع أنحاء العالم، وطُبعت معظم كتبه أكثر من ثلاثين طبعة، كما تُرجمت إلى لغات كثيرة، ولم يبق مكان في العالم إلا وعرف الشهيد سيد قطب وأفكاره، ولماذا أُعدم؟ ومن وراء إعدامه؟ ولمصلحة مَنْ أُعدم؟

لقد انطلق الكتّاب والمؤلفون والشعراء والنقاد في تعريف فكر سيد قطب، والحديث عن ترجمته وسيرته، وصدرت عشرات المؤلفات، وكُتبت مئات الدراسات، وقدّمت كثير من الرسائل الجامعية والبحوث الأكاديمية عنه وعن فكره ومؤلفاته بمختلف اللغات، وصارت دور النشر تتنافس في طباعة كتبه، وكان كتاب «في ظلال القرآن» أروج كتاب في جميع معارض الكتب، وأقبل الناس والشباب المسلم ينهلون من هذا المورد العذب والماء الزلال.

ولعل الأخ الكريم الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي من أكثر تلامذة سيد قطب الذين عنوا بالكتابة عنه وعن تراثه الفكري، وقد استفدتُ منه كثيرًا فيما كتبتُ.

يذكر العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي الشهيد الأديب سيد قطب وفضله وأثره في الحركة والفكر الإسلامي رغم مخالفته له في بعض آرائه فيقول: «الرجل الصلب، الذي أوذي في الله فما وهن وما ضعف وما استكان وقدَّم عنقه فداءً لفكرته.. صاحب القلم البليغ، والأدب الرفيع، والروح المحلِّق، والبيان المشرق، والمنهج الواضح، والفكر الثائر،.. صاحب (التصوير الفني) و(العدالة) و(الظلال) و(المعالم) وغيرها من الكتب التي انتشرت في لغات العالم الإسلامي شرقًا وغربًا.. الأديب الكبير، الداعية الشهيد: سيد قطب».

ولقد اطلعت قبل أكثر من ربع قرن على دراسة للباحث السعودي الأستاذ إبراهيم بن عبد الرحمن البليهي بعنوان: «سيد قطب وتراثه الأدبي والفكري»، كَتَبْتُ عنها في مجلة المجتمع في وقتها.

كما أن الإخوة الأساتذة: يوسف العظم، وعبد الله عزام، ومحمد علي قطب، وصلاح الخالدي وأحمد عبد الغفور عطار، وأبو الحسن الندوي، ومحمد الحسني، وأحمد حسن فرحات، وأحمد فائز، وسالم البهنساوي، وتوفيق بركات وغيرهم، قد أسهموا إسهامًا جيدًا في التعريف بتراث الشهيد سيد قطب، وهذا بعض حقه علينا.

مواقف الإنصاف

ولن ننسى مواقف الإنصاف التي وقفها المشايخ: عبد العزيز بن باز، وعبد الله الجبرين، وبكر أبو زيد، وعبد الرحمن الدوسري وغيرهم.. جزى الله الجميع كل خير، على إنصافهم ومناصرتهم الشهيد العظيم سيد قطب.

يقول سيّد قطب:

«إن دعوة الإخوان المسلمين، دعوة مجردة من التعصب، وإن الذين يقاومونها هم المتعصبون، أو هم الجهلاء الذين لا يعرفون ماذا يقولون».

ويقول: «الحقيقة الكبرى لحسن البنا هي البناء وإحسان البناء بل عبقرية البناء».

ويقول: «لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيرًا من الدعاة، ولكن الدعاية غير البناء، وما كل داعية يملك أن يكون بناءً، وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء: هذا البناء الضخم «الإخوان المسلمون» إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات، ويمضي حسن البنا إلى جوار ربه، وقد استكمل البناء أسسه، يمضي فيكون استشهاده على النحو الذي أريد له، عملية جديدة من عمليات البناء، عملية تعميق للأساس، وتقوية للجدران، وما كانت ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان، كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق».

وقال: «إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكُتبت لها الحياة».

وقال: «إن الكلمات التي ولدت في الأفواه وقذفت بها الألسنة ولم تتصل بالنبع الإلهي الحيّ قد ولدت ميتة».

وقال: «إن هذا القرآن لا يعطي سرّه إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادًا كبيرًا».

ولقد نظم سيّد قطب وهو خلف بوابات السجن قصيدته الرائعة: (أخي) التي تُعتبر من عيون الشعر الإسلامي عَبَّرَ فيها عن نبض قلبه ووعيه ووجدانه، ومنها قوله:

أخي أنتَ حُـرٌّ وراءَ السُدودْ

إذا كنتَ بالله مستعصمًا

أخي ستبيدُ جيوش الظلامِ

فأطْلِق لروحِكَ أشواقها

أخي إن ذرفت عليَّ الدموع

فأوقد لها من رفاتي الشموع

أخي إن نمتْ نلق أحبابنا

وأطيارها رفرفت حولنا

أخي أنتَ حُـرٌّ وراءَ القيودْ

فماذا يَضيرك كَيدُ العبيدْ

ويُشرقُ في الكونِ فجرٌ جديدْ

تر الفجر يرمقنا من بعيدْ

وبللت قبري بها في خشوع

وسيروا بها نحو مجد تليد

فروضات ربي أعدت لنا

فطوبى لنا في ديار الخلود

وقد أرسل الأخ الشاعر محيي الـدين عطية نزيل السجن إلى الشهيد سيد قـطب نزيل مستشفى السجن ببيتين من الشعر ردًا على أبيـاته الأولى بعنـوان (أخي) فقال محيي الدين عطية مخاطبًا سيد قطب:

أخي هل تُراكَ سئمتَ الكفاحْ

فمن للضحايا يواسي الجراحْ

وألقيتَ عن كاهليكَ السلاحْ؟

ويرفعُ رايتــها مـــن جديدْ؟

وقد ردّ الشهيد سيّد قطب على هذين البيتين بقوله:

أخي إنني ما سئمت الكفاح

وإن حاصرتني جيوش الظلام

وإني على ثقة من طريقي

وإن عَضَّبني الشوك أو عاقني

ولا أنا ألقيت عني السلاح

فإني على ثقة بالصباح

إلى الله رب السنا والشروق

فإني أمين لعهدي الوثيق

وقد كان لهذه القصيدة صداها في العالم العربي ردّده في الأردن شاعر الأقصى الأستاذ يوسف العظم بقوله:

أخي من رُبى الأردنِ الصابرِ

أبثُّك شوقًا وبشرى غدٍ

ومن حَرَمِ المقدسِ الطاهرِ

كريمٍ من الخالِقِ القادرِ

كما ردّده في العراق الشاعر الإسلامي وليد الأعظمي بقوله:

أخي يا مقيمًا وراء السدود

فمهما أعدّ العِدى من قيود

تلوح بوجهك سيما السجودْ

فلنْ تستكينَ لحكمِ العبيدْ

رحم الله أستاذنا الشهيد سيد قطب، وحشرنا الله وإياه مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 826