حوار مع سناء البنا

تقول صاحبة الحوار:

(كلما اقتربت خطواتي من باب منزلها ازداد شعوري باللهفة والشوق لأستمع إلى جانب من ذكرياتها مع مَن كان مجدد القرن.. سأرى مَنْ رأت الإمام البنا وعايشتْه وعاصرَته.. سِرتُ في الطريق متلهِّفةً ساعةَ اللقاء، وحين وصلتُ إلى حيث تقطن رأيتها والابتسامة تشعُّ من وجهِها البشوش، ورأيت دموعها تنهمر عند حديثها وسردها ذكريات أعوام وأعوام مرَّت، ولا زال الألم في ذاكرتها دون أن ينمحي، وخصوصاً عند حديثها عن الإمام (البنا) داخل منزلهم أشاهدهم يأكلون ويشربون وأرى اللهفة في عيونهم لعودة الإمام البنا من المركز العام.. إنها رحلةٌ في تاريخ حياة عالِم وداعية رباني، فهيا بنا معاً نستكشف بعض جوانبها من خلال أحد أفراد أسرته رحمه الله.

* في البداية نحب أن نتعرف على أفراد الأسرة؟

نحن خمس بنات وولد واحد، وهناك اثنتان تُوفيتا في حياة الوالد، تكبرنا وفاء، ويليها (أحمد سيف الإسلام)، ثم (سناء)، و(محمد حسام الدين) (توفي)، ثم (رجاء)، و(صفاء) (توفيت)، (وهالة)، و(استشهاد)، التي وُلدت بعد وفاة الإمام البنا، وكان جدي قد انتوى تسميتها "دماء" غير أن موظف الصحة رفض، فأحسَّ جدي أن الاسم سيكون ثقيلاً عليها، فقرَّر تسميتها "استشهاد" فرفض الموظف من جديد غير أن جدي أصرَّ وقال له إذاً لن أسميها وسأتركها حتى تكون "ساقطة قيد" فلما أسقط في أيديهم سجلوها باسم "استشهاد"؛ لأنها وُلدت بعد استشهاد الوالد، ومن اختار لها الاسم هو جدي ووالدتي ووفاء، وكان عمرنا عند استشهاد الوالد: سناء 11 سنة ونصف، سيف 14 سنة ونصف، وفاء 17 عاماً، وتقريباً هي من اختارت الاسم لقُربها الشديد من والدي، وسبحان الله اليوم الذي استُشهد فيه الوالد كانت الوالدة مريضةً بالقلب، فلما وُلدت هالة منعها الأطباء من الحمل نهائيّاً وظلت في الفراش أربعين يوماً، وكانت وقتها تعالَج من القلب، فأصرَّ الدكتور الذي كان يقوم بعلاجها على أن يتم إجهاض الجنين وحدَّد لذلك يوم 12 فبراير واستُشهد الإمام مساء يوم 11 فبراير مساءً.

فأتى الطبيب يومها بعد أن أخذ إذناً من الداخلية لأنهم كانوا يحاصرون المنزل وتحدث إلى  والدتي لكي تأتي إلى المستشفى، وطبعاً لم تذهب وقتها؛ لأنها كانت بعد استشهاد الوالد بيوم، وبعدها بفترة حاولت أمي عن طريق إحدى الأخوات إجهاضه ولكن أخي سيف رفض حرصاً على صحتها وسلامتها وبعدها أخذتها قريبة لنا إلى طبيب آخر فقال لها سأتابعك كل خمسة عشر يوماً وإن شعرنا بخطر عليك سنقوم بعملية الإجهاض فشاء الله لها أن تأتي لتسمَّى "استشهاد".

* لو تجوَّلنا في حياتكم أكثر فلربما يبرز سؤال عن طبيعة معاملة الإمام لكم..؟!

كان هناك توازنٌ في التربية، فمثلاً وفاء لأنها الكبرى كانت هي سكرتيرته الخاصَّة؛ لأن والدتي كانت مشغولةً جداً ومريضةً بالقلب أيضاً، وكان عبء الدعوة على والدتي كله، فمثلاً ضيوف المركز العام كانوا يرسلون إلى والدتي الطعام إلى البيت بالصناديق وتقوم هي بطهيه.

أما التمييز فلم يكن هناك تمييز بين الولد أو الفتاة، لا من الوالد أو الوالدة، حتى في العقاب ليس هناك تمييز، وقليلاً ما كان يعاقبنا، ولابد أن يكون هناك شيءٌ كبيرٌ أو شيءٌ قد نبَّهَنا بخصوصه، فإذا أخطأنا فيه فلابد من العقاب "سياسة الثواب والعقاب"، وكان إذا عاقب - ونادراً ما كان يعاقبنا- يعاقب دائماً على شيء كبير.

وأذكر أنه عاقبني بسبب شقاوتي، ففي منزلنا القديم كان هناك شباكٌ مقسومٌ، وكان والدي يصرُّ على أخد السلاملك (وهو الدور الأرضي) قائلاً: حتى لا أُتعِبَ إخواني، وأيضاً لا يتعب الجيران بطلوع الناس ونزولهم.. وذات مرة كنت جالسةً على الشباك ورأيته قادماً من بعيد فركضت إليه ولم ألبس "الصندل" وكان يُحضر لنا صندلاً للعب وحذاءً للمدرسة، فركضت إليه ونسيت ألبس "الصندل" فنظر إليَّ مجرد نظرة، عرفت أني سأعاقَب، فعدت سريعاً إلى المنزل وبمجرد انصراف الإخوان ناداني: سناء.. فعرفتُ أن أوان العقاب قد حان، فطلب مني الجلوس على طاولة الطعام ورفع قدمي فرفعتها بنفسي وأخرج مسطرةً من جيبه وضربني على قدمي على كل قدم عشر ضربات، وكان ضرباً خفيفاً لدرجة أني كنت أضحك وهو يضربني، ولكني فهمت وقتها أني أخطأت.

وفي إحدى المرات أذكر أنه كان لنا جارة وكانت تضع في أصابعها (أكلدور)، وطبعاً لن أطلب منها أن تضعه لي فأحضرت قلماً أحمر وقمت بتلوين أصابعي وكنا نختلف أنا وسيف من يجلس على يمين السفرة (طاولة الطعام) ومن يجلس على شمالها، وكان من يجلس على يمينه هو من قام بعمل جيِّد أو صحّ، ومرات أخرى كان يجلسني أنا حتى لا يكسر بخاطري، فأنا أصغر من سيف فجلست على يمينه يومها فرآني، وكان شديدَ الملاحظة، فسألني وقتها: ما هذا يا سناء؟! وأخبرته أني رأيت جارتنا تضعه، فقال لي أتعرفين أن هناك أحداً من الصالحين قال "كُل مع الكافر ولا تأكل مع أبو أظافر"؛ لأن الأظافر تجمع تحتها أشياء غير نظيفة، هيَّا قومي ونظِّفيه وسننتظرك، لن نأكل، فذهبت وأحضرت (موس) وحاولت إزالته فأزلت جزءاً منه وامتنع الباقي من الخروج، ولما أخبرته بذلك قال "خلاص.. تعالي إلى الطعام ولا تكرريها مرةً أخرى"، فرحمه الله كان تعليمه عمليًّاً، ولم يكن بالكلام فقط.

ولا بد لي أن أقول إنه كان يعلمنا - رحمه الله- بالحب، فكنا نحبه جداً ونطيعه؛ لأننا نحبه وليس خوفاً منه، حتى إنه إن سافر.. افتقدناه جميعاً.. وأذكر أن أختي رجاء كانت تقوم بالاتصال بالمركز العام لتسأل (عوض عبد الكريم) يومياً في وقت الغداء عن الوالد (لأنه كان مسافراً)، ودائماً كان رحمه الله يقوم بإطلاق أسماء للدَّلع لنا جميعاً، وكان يتركنا نقوم نحن أيضاً بإطلاقها عليه.

.. وأذكر أني كنت في مدرسة "خاصة" ومن ثم حوَّلني إلى مدرسة أميري "حكومية"، وكان هناك مدرسة اسمها "مصر الحديثة" وكانت مديرتها تقدِّر والدي جداً، وكانت تفتح مدرستها لحديث الثلاثاء للأخوات ليسمِعْن الدرسَ من المدرسة، فسألت والدي إن كان عنده بنات للدراسة فأخبرها بـ"نعم" وأحضرني فأدخلتني الصف الأول بدلاً من ثانية حضانة، ولما تدهور مستواي من تدليعها لي نقلني والدي إلى مدرسة أختي وفاء، فذهبت إلى الصف الثاني ورسبت، فلما رسبت قلْت لهم لن أذهب إلى المدرسة، ومع بداية العام الدارسي الجديد تحدث إليَّ والدي قائلاً: ها يا (سناء).. فأصررت أن لا أذهب، فقال لي طيب أنت - ما شاء الله- جيدة في المطبخ ويمكنك أن تجلسي وتتعلمي وتساعدي والدتك في المطبخ، فبكيت وأخبرته أني لست خادمةً، فقال لي ومن قال إنك ستعملين خادمة، أنتِ ستساعدين والدتك في البيت، فطبعاً خِفْتُ ورجعت إلى المدرسة، فسألني ستذاكرين وتجتهدين فأجبت بنعم إن شاء الله، وهكذا كان دائماً لم يكن يجبرنا على شيء، بل يوجهنا بأسلوبه وكان يمكن أن تهابيه ولكن لا تخافين منه، فأطفال شارعنا كله تحبه، وكان دائماً ما يحتفظ بأقلام في جيبه وهدايا للأطفال، وكلما قابلوه يهاديهم بها ويلعب معهم فترةً ويقبِّلهم.

ويأبى دائماً أن يرانا مكسورِي الخاطر، ففي رحلة أعدَّتها جدتي لزيارة مدينتنا وحضور عرس، وبعد أن قرَّر والدي أن نصطحبها أنا و(سيف) و(وفاء) اكتشفنا عند السفر أن جدتي قد ملأت العربة بالهدايا وليس هناك مكان فقرَّرت جدتي اصطحاب سيف ووفاء وتركي فأخذني أبي وقتها وربت على كتفي وقال لي "معلش يا سناء" وأعطاني 25 قرشاً التي كانت تعتبر ثروةً على أيامنا تلك، ورغم ذلك حزنت وأنا في يدي حقيبة ملابسي وأخذها هو وحملها عني.

وأذكر أننا وبقية الأطفال من سني كنا نجتمع للعب معاً في الشارع، فكنا في احتفالات المركز العام أجمع صديقاتي حوالي 12- 15 بنتاً، ونذهب جميعاً إلى المركز العام فيقوم الجوالة بإعداد طاولات لنا ويحضرو لنا الطعام ونأكل ونشرب ونفرح ونذهب إلى بيوتنا سعيدات.

* هل كان يشغله عمله الدعوي عنكم؟

لم يشعرنا يوماً أن ضغط العمل يأتي معه للمنزل، فمثلاً لا نراه كما يفعل البعض الآن بمجرد ما يدخل المنزل يصرخ.. ويتوعَّد... إلخ، بل أهم شيء في حياة الوالد كان التنظيم، ولو رأيت سيرة الوالد ترين أنه كان سائراً على خطى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه واعٍ جيداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن لبدنك عليك حقًّا.. إلخ"، فمثلاً كان ينام أربع ساعات فقط؛ ولذلك رحمه الله من وصاياه العشر أن الأعمال أكثر من الأوقات، هذا بالنسبة لأمثاله من المجاهدين، أما الآن فنحن نعرف كيف نضيع الوقت ونتفنَّن في ذلك، فترينه - رحمه الله- دائماً يحرص على الغداء معنا حتى وإن كان هناك ضيوف كان يحرص أن يحضرهم إلى المنزل ليكون موجوداً وقت الغداء، وحتى في سفره يرتبه بحيث يكون الوجه البحري في الشتاء وفي الصيف الوجه القبلي عكس الناس جميعاً بمجرد أخذ الإجازة في الصيف يذهب إلى وجه قبلي يمر عليه قريةً قريةً (ونجعاً نجعاً).

وكان يترك الوجه البحري للشتاء لأنه يمكن أن يذهب إليه ويأتي في نفس اليوم، فكان - رحمه الله- يذهب في الصباح إلى عمله ويعود ليكون معنا على الغداء وقد يرتاح قليلاً، حتى إن (وفاء) حكَت لنا مرةً أنه طلب منها أن توقظه بعد سبع دقائق، فتقول ذهبت لعمل القهوة له وبمجرد أن جهّزت القهوة وجدته بجانبي يسألني ها عملت القهوة يا وفاء، فكان قادراً على التحكُّم في نفسه ولم يتركها تتحكم فيه أبداً.

فهو قد يسافر بعدها إلى إحدى محافظات بحري ويعود في المساء وتكون والدتي قد نامت وقتها، وهنا تأتي الرحمة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً﴾ (الروم:21)، فلم يكن يوقظها بعد أن تنام أبداً حتى وإن كان من أجل أن تعدَّ العشاء للإخوان، بل كان يدخل هو إلى المطبخ ليعدَّ لهم العشاء، وكان يعرف مكان كل شيء حتى في المخزن فيحضر (الجبنة والمش والحلاوة) أطباقاً أطباقاً، ويأخذ لهم الخبز والطاولة ويتناولون العشاء، وكان لا بد أن يقوم بتقبيلنا ونحن نائمون، وكان يوقظنا في الشتاء ونحن أطفال لكي يدخلنا الحمام ولا يقوم بإيقاظها هي أبداً، فلا يمكن بعد نومها أن يقلقها، وبعد أن ينصرف الإخوان يجلس مع أختي الكبرى وفاء ليعرف منها أخبار البيت ومَن زارنا وماذا فعلنا طوال اليوم وما هي احتياجاتنا؟!

وكان - رحمه الله- لديه "نوتة" بطلبات الشهر للمنزل وحتى أيام "الخزين" وهي الأشياء التي لا توجد إلا مرةً واحدةً أو حسب المواسم، مثل الفول والزيتون والأرز، مواسمها جميعها، فيعرف مواسمها ويحضرها للبيت لعلمه بانشغال والدتنا في البيت.

أما فيما يخصُّنا فقد كان يرسلنا مع أحد الإخوة لشراء احتياجاتنا المدرسية مع بداية الدراسة، وكان - رحمه الله- لواجباته منظَّم جدًّا جدًّا فلا يطغى شيء على شيء عنده.

وكان رحمه الله يؤمن جيداً بتعليم المرأة ولكن مع ما يتناسب مع ثقافتها؛ ولذلك أدخلنا الثقافة النسوية، ورغم انشغاله الشديد كان يساعد جدِّي في تبويب مسند الإمام أحمد ولم يمنعه انشغاله أبداً عن مساعدة جدي.

* ذكرتم أنه اختار أختكم وفاء لتكون بمثابة سكرتيرته ورفيقته في أموره الخارجية فما السبب؟

أولاً: لكبر سنها يومها ولوجودها المستمر في المنزل بعكس سيف، فكان أغلب الوقت في خارج المنزل، وهي أول من كوَّن الأخوات المسلمات، فهي من تأتي الأخوات إليها في المنزل ويتابعن معها وخلافه.

* كيف كان الإمام البنا عند غضبه؟

لم يوجد في بيتنا غضب، بل كان دائماً هناك تفاهم، ولكن ما يمكن أن يقال عليه حزن أكثر منه غضب هو عام 48 وكان الإخوان في حرب فلسطين فخرج من غرفته ولا أنسى أبداً كيف بدا منظره وقتها، وكانت والدتي في الصالة تقوم بعمل الكعك (الخاص بالعيد) ومعها عماتي وجدتي فنظر إليها قائلاً "إيه يا أم وفاء، بقى انتي عايزة تعملي كحك وأنا اثنا عشر من أبنائي استُشهدوا في فلسطين" ونادى على أخ كان يساعدنا ليرفع الكعك والعجين وما كانوا يفعلون، ولم تكمل والدتي عمل الكعك، ومن يومها لم تقم والدتي بعمله في بيتنا بعدها أبداً، قد تقوم بعمل أنواع من البسكويت ولكن الكعك رفضت عمله من يومها حتى بعد استشهاده.

* بم تفسرين هذا التوافق والانسجام بين الوالدين عليهما رحمه الله؟

كانت بداية اختياره للوالدة بعد ذهابهم إلى الإسماعيلية وكانت جدتي رحمها الله ذهبت إلى عدة منازل من بيوت كبار الإسماعيلية فتجد كل اعتمادهم على الطباخين وخلافه وذهبت جدتي إلى والدي، وقالت له إنه لا يصلح لك إلا بيت فلان "على منزل جدي لأمي" وكان جدي لأمي يحب والدي جدًّا ويستشيره في كل أموره حتى إن والدتي كانت مخطوبةً لشخص آخر فأتى إلى جدي يطلب منه أن يصطحب ابنته إلى السينما "والدتي" فعرض جدي لأمي الأمر على والدي وسأله عن حكم ذلك فأخبره والدي أن هذا حرامٌ، فلما عرف جدي أن ذلك الشخص طلب منه شيئاً حراماً ردَّ إليه الذهب وقال إنه ليس عنده بنات للزواج.

وما لفت نظر جدتي لأبي إلى أمي أن بيتها رغم أنهم كانوا ميسوري الحال جداً إلا أنهم كانوا يقومون بعمل الأشياء بأنفسهم حتى إنهم كانوا يطبخون للعاملين عندهم، فشعرت أنهم بيت كرم وسخاء، وحتى مع أنه لم يوجد وقتها مدارس إلا أن جدي أحضر شيخاً يقرأ القرآن يومياً، ثم بعد الظهر كان هذا الشيخ يُعلم أهل البيت من النساء درس فقه، لذلك كانت والدتي رحمها الله رائعةً في الفقه، ولقد سعد جدي بوالدي لأنه كان يحبه جداً، حتى إنه رضيَ أن تسافر أمي مع والدي، فقد رفض أن تتزوج خالتي مستشاراً لأنه سيسافر بها، أما والدي فمن حبِّه الشديد له قَبِل أن تسافر معه إلى القاهرة، فوالدي رحمه الله أخذ الزوجة الحسنة في المنبت الحسن، ليس كما يعتقد البعض أنه سيأخذ امرأة أياً كانت وأياً كان منزلها والتزامها وهو سيجعلها تلتزم فهذه للأسف من العادات المغلوطة التي يفكر فيها شبابنا.

وسبحان الله بعد زواجها وهو بالنسبة لها مثال للتضحية لأنها كانت مؤمنةً جداً بدعوته وكانت تعتبر الإخوان أبناءها، قد تقف في المطبخ مرةً واثنتين وثلاثاً ومن دون أن يتكلم والدي بل حباً منها لهم حتى بعد استشهاده رحمه الله كان الإخوان يخرجون من السجون ويأتون إلينا للسلام علينا، فكان مستحيلاً أن يمشي من بيتنا من دون طعام وحتى لو لم يكن هناك شيء جاهز تذبح وتعدُّ وهي سعيدة جداً ولما جاءوا القاهرة وأخذوا مكتب المركز العام أعطت والدتي كل فرشها تقريباً ليضعه في المركز العام ولم يبقَ في بيتنا وقتها إلا بعض الأشياء القليلة جداً، حتى السجاد والستائر التي شغلتها بيدها، أما بيتنا فكان ستائره بسيطة وبعض الغرف وضعنا فيها أي شيء والأرضيات "كليمات" ولم يكن ذلك يؤثر فيها أبداً وكأنها لم تتبرع بفرش منزلها أبداً.

وكانت تثق فيه ثقة كبيرة، فتأتي الأخوات ويجلسن مع والدي ويتحاورن طبعاً والباب مفتوح ولم تتضايق يوماً أو تسأل ما الذي يفعله هؤلاء هنا كما تفعل بعض السيدات، بل كان إيمانها الشديد به فوق التصور، حتى منزلنا كان من المنازل التي نزلت في خريطة الهدم فطلبت منه والدتي أن يشتري منزلاً صغيراً لها ولنا، فردَّ عليها بإيمان عميق: يا أم وفاء قصورنا تنتظرنا في الجنة، ولن يضيِّعَنا الله في الدنيا، وانتقل هذا الإيمان لوالدتي عن حب وليس على مضاضة وغضب كما تفعل الكثير من الزوجات الآن، ودائماً ما كان ينادي والدتنا بـ"يا أم وفاء"، وهي تناديه: يا أستاذ حسن؛ ولذلك كان الاحترام متبادلاً بينهما؛ ولذلك يوم أن فقدنا الاحترام في بيوتنا فقدنا أشياء كثيرة.

* كيف بدأ التآمر على الإمام البنا رحمه الله؟!

في الفترة الأخيرة قبل استشهاده ومع اشتداد الحديث حول محاولة قتله فمرات يخبرونا أنهم سينسفون البيت إلخ، فكان يتعجب ويقول: أكل هذا من أجل قتلي أتتآمر الدولة كلها من أجل قتلي يكفي أن يُرسل شابٌ صغيرٌ ليطلق عليَّ رصاصتين من ظهري وانتهى الأمر، وأكثر ما كان يؤلمه وقتها هو اعتقال الإخوان وكان يقول فيما معناه إنه يسمع صراخ وبكاء أطفال الإخوان في أذنيه؛ ولذلك كان مستعداً لعمل أي شيء لإخراجهم حتى إنه في آخر مرة لما كانوا يقابلونه في مركز الشبان المسلمين أخبرهم أنه سوف يذهب إلى منزل الشيخ النبراوي الذي كان يبلغ وقتها من العمر حوالي سبعين عاماً فذهبوا إلى عزبة الشيخ النبراوي ودمروها تماماً ثم أتوا إلى والدي عن طريق الليثي وأخبروه أن شيخ الأزهر المراغي وقتها يريده في جمعية الشبان المسلمين، وكانت هذه المكيدة التي دبروها لاغتياله.

وأكثر شيء أتعب الوالد هو حل الجماعة حتى إنه لما جاءوا لأخذ سعد طلب منهم أن يأخذوه معهم ولكنهم رفضوا ورغم أنك عند قراءتك للرسائل تجدينه يقول لهم ستقتلون وتسجنون وسيُحال بيني وبينكم.. إلخ يعني كان يشعر بما قد يحدث ورغم ذلك آلمه جداً وكان يحاول إيجاد حلٍّ بأي وسيلة.

وتقول الحاجة زينب- والكلام على عهدتها رحمها الله- سمعته منها أن والدي في فترة حل الجماعة كان يحاول الهروب من الرقابة ومقابلتهم للاطمئنان على أحوال الأسر ومَن يحتاج لشيء وغيرها.

وقتها كنا في حالة توتر حتى إن أحد الرجال جاء من الصعيد (بشومة) وبندقية وجلس تحت السلم ورفض الانصراف وتوعَّد كل من يقترب من منزلنا أو من والدي.. وفي نفس الوقت كانت الوالدة - رحمة الله عليها - تتابع المنطقة عند خروج والدي أو قرب عودته. ففي مرة بعد ذهابه للصلاة نظرت من النافذة فوجدت رجلين ملثمين فنادت ابنة الشغالة التي كانت في منزلنا ووفاء وطلبت من كل واحدة منهما الوقوف في جهة وطلبت منهما أن تنتظرا الوالد عند ناصية الشارع فلما رآهما الملثمان هربا فكانا ينويان قتله حتى أمام المنزل.

* كيف كان يوم استشهاد الإمام البنا؟

هذا يوم لا يُنسى ولا ينمحي من ذاكرتي أبداً فيومها حُوصر الشارع بكتيبة وأخذوا أسماء الناس القاطنين في الشارع ولا يدخلون إلا مَن يسكن في الشارع فقط، أما في بيتنا ورغم أنه كان آيلاً للسقوط أصبح على السلم كله حتى السطح عسكري على كل سلم وفوق السطوح مليئاً بالعساكر، ثم ذهبوا لجدي وطلبوا منه أن يأخذ والدي من قصر العيني للمقابر مباشرةً، فرفض جدي وأصرَّ أن تراه زوجته وأبناؤه قبل دفنه فأحضروه إلى المنزل، وكان لجدي طريقة مميزة في الطرق على الباب فطرق وتنحنح وطلب من والدتي أن تفتح الباب، وكان وقتها الساعة الواحدة ليلاً. وكنا في هذه الأيام على غير عادتنا ننام متأخراً مع ما يجري من أحداث وشعورنا بقرب استشهاد والدي، وأول ما طلب منها جدي أن تفتح شعرت أن والدي استشهد فقالت (يبقى قتلوه) وبدأت في البكاء، فطلب منها أن تصبر وأن تحتسب وكان جدي صابراً جداً.

وبعدها علمت عماتي وكُنَّ يسكنَّ بالقرب منا فأتت عمة لي لتدخل عليه، وعند دخولها دَخَلْتُ سريعاً معها ولم ينتبه أحدٌ لي، فكشفتُ الغطاء عن وجه والدي.. والله لا أنسى هذا الوجه ما حييت.. أولاً وجهه كان كبيراً بالنسبة لحجمه فكانت ابتسامته عذبة وابتسامة تظهر أسنانه وكانت ناصعة البياض ومفلجة حتى إنني مع صغر سني لما رأيته لم أُصدِّق أنه مات.. حتى لما كانت واحدة من صديقاتي تُعزيني أقول لها إنَّ والدي لم يمت هو ذهب إلى ربنا مثل سيدنا عيسى وسيعود فشكله الذي رأيته لا يُوحي بميت أبداً.

ثم قام جدي وغسَّله وكفنه لأنهم كانوا قد شرّحوا جسده في المستشفى، ثم أحضر الحانوتي الصندوق ووضعوا فيه الوالد وطلب جدي وقتها من العساكر أن يرفعوا والدي معه فكان ردهم عليه ليس عندنا أوامر.. فصرخت وفاء فيهم: "احملوه وإلا مَن سيحمله؟" فرفضوا فقامت جدتي وقتها وقالت أنا مَن سيحمل ابني، وذهبت إلى الصندوق ورفعته فلما رفعت جدتي ورأها نساء الإخوان اللاتي حضرن لتعزيتنا قُمن وحملن النعش معها، وحمل الجنازة النساء. وعند القبر دعت عمة لي بدعوةٍ على أبناءِ فاروق جميعهم وكأنَّ أبواب السماء مفتوحة وتحققت الدعوة سبحان الله. وأصبح بيتنا مصيدةً كلما أتى أخ للعزاء وتدخل زوجته لتعزيتنا يُعتقل.

أيام العزاء كانوا يحضرون جدي ويسألونه مَن هذا فإن عرفه وقال إنه قريب من العائلة أدخلوه وإن لم يعرفه اعتقلوه.

والمفاجأة أنه بعد وفاة جدي، (تُوفي بعد الوالد بعشرة أعوام)، وجدنا والدي كما هو فالكفن كان يكشف عن الوجه فوجدنا ندبات مكان شعر الذقن ووجهه مثلما هو كأنه وجه شمعي والعين مغمضة كما هي. وكان كفنه على هيئته وشكله منذ أنزلناه، وكان مثل أول مرة لم يتغير سبحان الله، ولما كنا نذكر ذلك نجد المباحث تنزل إلى القبر وتتأكد من كلامنا.

وفي وفاة والدتي بعدها بعشرين عاماً أقاموا الدنيا وكأنَّ كل مَن لم يستطع حضور جنازة الوالد أراد أن يحضر جنازة الوالدة؛ ولذلك لما رأوا هذه الأعداد المهولة القادمة لجنازة الوالدة اعتقلوا أخي سيف لأول مرة.

* تغير دور الأم بعد استشهاد الإمام - رحمهما الله - فكيف كانت تقوم بهذا الأمر؟

سيف أخي هو من وقف معنا ومعها حقيقةً، فقد أدرك على صغر سنه أن بيتنا له وضعٌ معينٌ بالإضافة إلى الأمن المراقب لنا أربعاً وعشرين ساعة حتى القبر مراقب كل مَن يزوره يُحبس، فوالدتي رحمها الله كانت قويةً جداً في هذه النقطة فلم يعد يسمح لنا بالخروج واللعب في الخارج، مَن يرد يلعب معنا يأتِ إلينا، وحتى سيف عرف أنه من البيتِ للمدرسة ومن المدرسة للبيت، فسبحان الله في هذا الوقت استغللنا هذا الأمر بقراءةِ مكتبة والدي وكنتُ لا أنام حتى أُنهي الكتابَ الذي آخذه من مكتبةِ والدي - رحمة الله عليه -.

* كيف حافظتم على تراثه وكتبه من بعده رغم وجود الأمن حولكم؟

 بعد استشهاد الوالد كان يأتي الأمن إلى منزلنا للتفتيش كل مرة، وكانت تناديني أمي وقتها تعالي واكتبي اسم كل كتاب سيأخذونه وتصرخ في الضابط قائلة: هذه الأشياء ملك الشهيد الإمام حسن البنا وليست ملك سيف الإسلام هذا تراثٌ وهذا للتاريخ، وفعلاً بعد أن يأخذوها ويذهب سيف لإحضارها فكان يأتي بها مغلقةً في أكياسها كما كانت، فلذلك كانت أمي رحمها الله السببَ في حفظِ تراث الإمام البنا رحمه الله تعالى.