عن حسن البنا

الشيخ البهي الخولي

الأستاذ الشيخ البهي الخولي

صاحب كتاب "تذكرة الدعاة"

يتحدث عن (حسن البنا)

الإمام الشهيد حسن البنا

فكرة تحيا في رجل:

"طيف من النور ألمَّ بهذه الدنيا إلمام الغريب الطارئ أو الضيف العابر، ثم تركها ومضى، هذه هي قصة (حسن البنا)... ماذا يأخذ الطيف من الدنيا، أو ماذا يجمع لنفسه منها؟ لا شيء، وماذا يترك الطيف في هذه الدنيا حين يلم بها قديساً من عالم القدسي، نورانيّاً من عالم النور؟ إنه يترك كل شيء حين يترك للضمائر نورها، وللنفوس قدسها وطهرها!!.. وهكذا كان (حسن البنا)، لم يأخذ لنفسه شيئاً وقد ترك للناس كل شيء!!.

هبط (حسن البنا) هذه الدنيا وموجة المادية تطغى حول الناس وقلوبهم ونفوسهم مادية الفكر والعاطفة، والشهوة، ولقد قضينا نحن شطراً من شبابنا في هذه الموجة، فكنا نظن فضائل الإسلام ومثله العليا، أموراً نظرية لا شأن لها بواقع الحياة، كل حظ الناس منها ترديد عباراتها إن رددوها، كما تردد عبارات الشعر والأدب الجميل.

كان الناس يحيون في غمار الموجة المادية، حين قام (حسن البنا) في إشراق هالة أخرى لها مبادئها ومثلها العليا، هالة الفكر الإسلامية، يحيا فيها بقلبه ويحيا فيها بعقله، ويحيا فيها بنفسه، ويحيا فيها بوجدانه، وشعوره وعصبه، فكانت مبادئها عنده هي الحق، وما سواها الباطل، وكانت مثلها هي النواميس العملية الأصلية، وما سواها وهم خادع وسراب لا معول عليه، وكانت زهرة الحياة الدنيا تتضاءل وتتقلص أمام عينيه إلى جانب ما يفيض عليه في هالة من سعادة رزق الله، فكان زهده في دنيا المادة لا يعدله إلا زهد أهل المادة فيما لديه من مثل رفيعة شريفة، ولقد عرضت الدنيا نفسها عليه وجاءته خاطبة، وواتته الظروف ولكن هيهات أن تروج هذه الأوهام في نفس مشغولة زاخرة بالحقائق النفسية العليا.

جاءه من يعرض عليه منصباً في فجر الدعوة سنة 1932م، ليلين عن بعض واجبه في منصب الداعي إلى الله، وكانت نظرة رثاء وإشفاق وتبكيت، ذابت لها شخصية الداعي هواناً ودحوراً وخجلاً، ولو أنه أجاب ما عرض عليه، لكان لبنيه اليوم من يجد المنصب ونعمته ما يحسدهم عليه الكثيرون، وعرض عليه الإنجليز ذهبهم الوهاج في مستهل الحرب العالمية الماضية، ألوفاً وعشرات الألوف، من ورائها خزائن طوع أمره، ورهن إشارته، ولكن الرجل المتواضع السهل السمح أذل بكبريائه القاسية من جاء يساومه في مثله وكرامته، ونكس القوم على رؤوسهم، مدركين أن الذهب والفضة لا يعالجان بما يحسم أمره، ويخفت صوته للأبد، ولو أنه ألان لهم الجانب لما كشف أحد سره، ولما تعرض لنقمة الناقمين، وغيظ الحاقدين، ولكان لبنيه اليوم من الضياع والعمائر ما يسلكهم في أرباب الثروة الطائلة.

نعم، وهذه شركات الإخوان المسلمين يعمل في مجالس إدارتها جميعاً فتعرض عليه المرتبات السخية، والمكافآت المجزية، ولكنه يريد أن يكون مأجوراً من الله لا من الناس، فيجعل عمله في هذه الشركات حسنة له سبحانه، ولأول مرة نرى في عالم الشركات والاقتصاد هذا المثل الفذ الفريد.

كان (حسن البنا) فكرة قوية هائلة، والفكرة لا تبغي مالاً، ولا تسعى لعرض زائل، لذا رأيناه يحيا بيننا حياة الطيف الخفيف، يلم الدنيا على هوادة، لا يجمع منها ولا يمنع، ولا يهتم لشيء فيها إلا بمقدار، ولا يصيب منها إلا ما تدعو إليه الضرورة، يأكل ما حضر من الطعام، ويلبس ما تيسر من اللباس، ويتخذ ما قل وكفى من السكن، ويعيش عيشة الكفاف، ولا يهمه أن يترك بنيه لله تعالى ولا شيء معهم، وكل قرة عينه وبهجة نفسه، أن ينادي في الناس بكلمة الله، ويعلن إليهم ما في صدره من الأسرار، وأن يرى فضائل فكرته ومثله العليا حقائق واقعة، وصوراً عملية تسعى في حياة الناس على قدمين، وتزحم بمناكبها العريضة كل ما يعترضها من باطل، وتنضر وجه الدنيا بإبائها وعفتها، فإذا بلغ من ذلك ما أراد رضيت الفكرة في نفسه وبسمت في قرارة فؤاده بسمة لها من سنا وجه الله نعيم ونور وغبطة.

ولقد كان للناس قبل (حسن البنا) يقرأون نصوص الدين ويستمتعون لمواعظه، فلا يكاد يعلق بنفوسهم شيء منها، فلما جاء بعث الراكد وحرك الهامد، وأثار الأشواق، وعلق هم العاملين بالأفق الأعلى..

... ولم يأت (حسن البنا) بعلم جديد ولم يكن (حسن البنا) بأعلم العلماء، إنما كان شأنه وشأن غيره: أن الغير يعرض الفكرة الإسلامية ما استطاع، أما هو فكان الفكرة الإسلامية تعرض نفسها حية سافرة... تعرض نفسها على لسانه بياناً جزلاً مفصلاً. وتعرض نفسها في لهجة صوته خشوعاً وحنيناً وروحاً غريباً تطمئن به القلوب، وتعرض نفسها على ملامح وجهه قوة ناطقة بما يشاء، وتعرض نفسها في نور عينيه نظرات نافذة ملهمة، تلهم القلوب والنفوس جميعاً، فإذا نور جديد يشرق في جوانب النفس، وحياة جديدة تنشر ميت القلوب، وإذا بالناس إزاء الإسلام الحي الخالد كأنهم إزاء كلام محدث جديد، وأمر تربو به نفوسهم لا عهد لهم به.

جاء (حسن البنا) والإسلام قد درست معالمه في أذهان أكثر الناس، فهو عندهم صلاة ركعات، وصيام أوقات، وطقوس تؤدى في زوايا المساجد، جاء والإباحية تهدد كل ما بقي لنا من فضيلة، والنفوس هامدة ميتة، قد استنامت للغاصب في أحضان دعة ذليلة فاترة، قانعة في جهادها بما لا يخرجها عن الدعة، ولا يكلفها إلا العافية من كل بلاء... جاء والشباب لا يرى في الإسلام إلا مجموعة بالية من الأفكار المتخلفة عن ركب الحضارة، والحكام ينبذون تشريع السماء، ويستمدون لنا الإصلاح من تشريعات الأجانب، والاستعمار يبارك كل هذه المفاسد، ويملي لها أن تذهب إلى آخر مدى، وليست العبرة هنا أن نجح في عرض ملامح الإسلام كاملة، فإذا هو دين ودولة، وصلاة وجهاد، وروحانية ومادة، وعقيدة وشريعة وتصوف وعمل.

ليست العبرة في ذلك ولا في أنه نجح عمليًّاً في إعداد كتائب الغزاة، الذين خرجوا من أرض الوطن للجهاد في سبيل الله لأول مرة في تاريخ الإسلام الحديث.. ولا في أنه حبب للشباب ما في الإسلام من نظم تقدمية للمجتمع الراقي... لا، ولا في أنه دفع التشريع الإسلامي إلى بيئات القانون والتشريع، حتى استطاع أن يوجد له في داخلها أنصاراً وأعواناً، وفي خارجها رأياً عاماً ينادي به، ويدعو إليه... ليست العبرة في هذا كله، ولا في أنه غزا ميدان الاقتصاد باسم الإسلام، فنجح في إنشاء الشركات التجارية، والمؤسسات الصناعية.. ليست العبرة في هذا، ولا في غيره مما لا نطيل بذكره، إنما لب العبرة نستخلصه من بين شقي الرحى.. رحى الصراع الهائل الذي نشب بينه وبين القوى المختلفة، أو بينه وبين عوامل الجهل والهمود والطغيان والهوى، دعا إلى الجهاد والقوة، وأنحى باللائمة على أولئك الذين ضيعوا تلك الفريضة المقدسة... فذعر الاستعمار، وحق له أن يذعر، ونشط إلى دسائسه يحيك منها ما يحيك، وهب إلى الحكام يقولون: فوضى وثورة على القانون... ومضى الذين لا يعجبهم العجب ينقون كالضفادع في جهالة وسخف: ما لنا وللجهاد؟!! كان الجهاد أيام النبي والخلفاء! وأين نحن من تلك الأيام؟!!

ونشط الداعي إلى عدالة الإسلام يندد بجشع الرأسمالية، وظلم أولئك الذين يستحلون من جهود الضعفاء ما ليس لهم بحق، فقالوا شيوعي مدمر، يدعو إلى إفساد ما بين الطبقات.

ولم يطق المسلم الحي أن يغزوه الإلحاد الشيوعي في عقر داره، فانبرى لمنازلته في قوة وإيمان، فقالوا: فاشية تنزع إلى الدكتاتورية والتعصب.

وأعلنت الفكرة الإسلامية حق الوطن في الجلاء، ووحدة وادي النيل، وأبت إلا أن تقول للمحسن أحسنت، وللمسيء استقم على أمر الله، فكانت الطامة العارمة، والقيامة التي لم تهدأ ثائرة الأحزاب منها، ما للدين يتدخل في السياسة، وما للسياسة تمتزج بالدين؟.

وهبت معارضة جاهلة من العوام، ناعية على أولئك الذين أفسدوا الدين بالسياسة، وأقحموا السياسة في صميم الدين، ورمي الرجل من أجل ذلك بعداوة المعادين، وبغض الناقمين ودسائس الكائدين، ورمي بكل مساءة في خلقه ودينه وعرضه، وقيل إنه مأجور، وإنه مرتشٍ، وذهبت الأكاذيب تتحدث عن عشرات الألوف التي قبضها، والسيارات التي حازها، وأسهم الشركات التي اقتناها من الدجل باسم الدين، وأخيراً، لم يكفهم أن ينالوا من الرجل في كل هذا فقتلوه في نذالة وضعة، ليخلف أبناءه في شقة بالية مهدمة، وكان يدفع عن سكنه فيها مائة وثمانين قرشاً عن كل شهر، وتتقلص عشرات الألوف أو مئاتها عن صبية صغار يخلفهم في هذه الدنيا لا ماء ولا شجر.

ثارت لعدائه هذه القوى جميعاً، فكان أمامه دسائس الاستعمار، وأمامه جبروت الحكام، وأمامه الرأسمالية الظالمة والشيوعية الملحدة الهادمة، وحقد الحزبية الجامحة، وجهل بعض العامة، حين يندفعون إلى معارضة ما لا يعلمون، وأمامه كيد اليهود وغير اليهود من كل ناقم ومغيظ، فلو أن (حسن البنا) كان رجلاً يعتنق فكرة، لأشفق على نفسه وعلى فكرته من منازلة هؤلاء الأعداء جميعاً، ولطوى في نفسه بعض ما يؤلب عليه هذه القوى التماساً لشيء من العافية في وقت يلتمس فيه دعاة الجهاد المزيف كل العافية.

لو أن (حسن البنا) كان رجلاً يعتنق فكرة لاتخذ لنفسه مسلك السلامة بين هذه القوى، ولكنه رجل سلكته فكرة وفاضت على عقله وقلبه، وعزيمته، وعصبه، وسخرته لمشيئتها، كان شحنة هائلة من روحانية الإسلام، فكان عليه أن يبلغ بقدر الله كل ما أمامه من بينات وآفاق ومحيطات، وما كان يملك أن ينازل بعض أعدائه ويهادن بعضاً.. وما كان يسعه في دين الله حين نازل الرأسمالية، أن يترك إلحاد الشيوعيين يسرح ويمرح في أنحاء البلاد، انتظاراً لفراغه من معركة الرأسمالية!! كلا، وما كان يسعه هذا الدين أن يترك فلسطين تقع غنيمة للطغيان، اعتذاراً بأنه لا يستطيع أن يحارب في ثلاث جبهات!!. إن شيئاً من ذلك كله ما كان يسعه، بل ما كان يملكه، لأن الرجل كان فكرة، والفكرة وحدة متماسكة الأجزاء، وإذا أسفرت شمسها الرائعة، أسفرت بكل عناصرها مرة واحدة من كل البيئات والأنحاء وهذا هو لب العبرة في جهاد هذا الإمام.

وبعد فهل نجح حسن البنا في رسالته؟

سؤال يختلف في الإجابة عنه الكثير من الناس، فمن قال إنه نجح، نظر إلى منشآته التي أقامها، وتشكيلاته التي بناها، ومن قال غير ذلك، أيد قوله بأن الشيوعية لا تزال قائمة، وأن فلسطين أفلتت من يد العرب، وأن الغاصب لا يزال جاثماً على صدورنا وأن، وأن.. وكلا الفريقين محجوب عن حقيقة هذا الإمام العظيم، فليست العبرة أنه نجح في تكوين شركات، وتأليف هيئات وجماعات، فما أهون أن تصطنع المظاهر الكاذبة.

وليست العبرة كذلك أنه انتصر على القوى التي نازلها أو لم ينتصر، وإنما العبرة بالسر الكامن وراء ذلك كله، فقد كان (حسن البنا) طاقة ضخمة من الحياة أراد لها الله أن يجدد بها المجتمع، ويطلق سرها في الأفق الهامد الراكد، وبدون هذا السر لا تقوم رسالة، ولا يطرأ على الأفق شيء جديد.

ولقد أسلفنا فيما مضى إشارة إلى القوى التي قامت تناهض المرشد وتنابذه، وما تلك القوى إلا جراثيم الشر والفساد، أفزعها ما بدأ يدب في الجسم المريض العفن من مدد الحياة الجديدة، ودفقات البر والصحة، نعم لقد بدأت الحياة تدب في الجسم الهامد، مباركة باسم الله زاكية فذعرت جراثيم العفن، وتقلقلت الخلايا الميتة، وجزع ما كان يعيش عليه من حشرات سامة خبيثة، ولكن لن ينفع الجزع شيئاً، فقد تغلغلت الحياة في أطوائه نامية متجددة، وتوالت عليه رجفات النشور بالخلايا الجديدة تطهر العفن وتطرد ما فوقها من قشور بالية... وبين رجفات النشور وصيحات الاستنكار والذعر، انقدح في الأفق كهرباء التطور الجديد... وسكب (حسن البنا) آخر دفقة من حياته مع آخر نبضة من قلبه، فمن أراد أن يعرف (حسن البنا) فليوفر على نفسه استقصاء منشآته، وتشكيلاته، ومؤلفاته، وتوجيهاته، وليذكر أن براعم الجيل الجديد كانت تتفتح يوم مقتله على حقبة تعج بأخبار المعتقلات، وأنباء السجون، وأرواح الشهداء وأحاديث الملاحم، ودوي القنابل، وزلزلة المحنة وبلاء المؤمنين، ليذكر أن براعم الجيل الجديد كانت ولا تزال تتفتح على جو مكهرب مشحون بسيول قوية دافقة، ليذكر هذا الجو الذي أتيح لهذه البراعم، والجو الرخو الناعس الذي تفتحت فيه براعم جيلنا الماضي، فإنه مدرك أي مس تنشقه البراعم الناشئة، وأي طراز جديد من الرجال سيمثل الميدان في المستقبل العتيد.

ذلكم الجو المشبع بالقوة والأمل والعزم، هو غذاء أعصاب الجيل الجديد، وهو رسالة الحياة التي أداها (حسن البنا) لهذا المجتمع في مدى عشرين عاماً من دم قلبه وعصارة روحه، حتى إذا كان يوم اغتياله اقشعر الأفق برجفة عنيفة إذ سرت في ضميره آخر شحنة من كهرباء تلك الحياة المباركة.

وقال الناس يومئذ: مات (حسن البنا)... وقال قدر الله... لا فهو حيّ في أتباعه، وهو حي أكثر من ذلك في تلك البراعم التي لم يرها ولم تره.

لم يمت (حسن البنا)، وإنما انطلقت مبادئه من إطارها الذي ألزمته حيًاً وتحررت الفكرة الإسلامية من نطاق اللحم والدم لتواصل أمرها في آخرين.. انطلقت الفكرة من قلب واحد لتربو من جديد في قلوب هيأها الله على قدر... أما الإطار الطاهر والجسم العزيز فقد رد إلى أهله ليخرج من هذه الدنيا متواضعاً يسير المظهر، كما دخلها متواضعاً يسير المظهر وكما عاش فيها كذلك.

وساهمت الحكومة المتحضرة في هذا التواضع واليسر فحرمت المشيعين أن يقربوه، ورأى الناس يومئذ عجباً في الجنازات، رأوا نعشاً يحمل لأول مرة في تاريخ البشر على أعناق النساء، وفي مقدمتهن فتاة قوية صبور تهتف بأبيها: قر عيناً يا أبتاه فلن نتخلف عن رسالتك، وليهنك قدومك على الله مقدم الشهداء.. ولئن منعت الحكومة من يشيع جثمانك، وأسفاه لنذالة الحكام- فحسبنا عزاء أو جزاءً أن أرواح الشهداء تمشي معنا، وتشيع عن أهل السماء ما عجز عن تشييعه أهل الأرض.

وفي وحشة الشارع المقفر الغادي والرائح، إلا من هذه الجنازة المتمهلة الفريدة، ارتجت المنازل على الجانبين، وأجهشت النوافذ والشرفات بالبكاء، وهم يرون (حسن البنا) العظيم، يحمل على كتف زوجته وابنته إلى مقره الأخير".