مفتي الديار المصرية حسنين محمد مخلوف

المستشار عبد الله العقيل

(1307 - 1410هـ / 1890 - 1990م)

مولده ونشأته

هو العلامة الفقيه الشيخ حسنين بن العلامة محمد حسنين مخلوف، ولد يوم 16 من رمضان 1307هـ 6/5/1890م في حي باب الفتوح بمدينة القاهرة بمصر، ونشأ في بيت كريم وأسرة محافظة، فأبوه محمد حسنين مخلوف من كبار علماء الأزهر وأعلامه المعروفين، وممن تولى إصلاحه، وترقى في المناصب الأزهرية حتى اختير وكيلاً للجامع الأزهر.

وقد تعهد الشيخ محمد ابنه حسنين بالتربية والتعليم فحفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، على يد الشيخ محمد خلف الحسيني شيخ عموم المقارئ المصرية.

حياته العلمية والعملية

التحق بالأزهر وهو في الحادية عشرة من عمره، وتلقى العلم على كبار العلماء أمثال: عبدالله دراز، ويوسف الدَّجوي، ومحمد بخيت المطيعي، والبجيرمي وغيرهم، بالإضافة إلى ما كان يتعلمه على يد والده محمد مخلوف.

وقد حصل على الشهادة العالمية من الأزهر 1333هـ/ 1914م، ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي وتخرج فيها، ثم عمل في حقل التدريس لمدة عامين، وبعدها التحق بسلك القضاء، فعمل قاضيًا في المحاكم الشرعية، ثم رئيسًا لمحكمة الإسكندرية 1360هـ 1941م، ثم رئيسًا للتفتيش بوزارة العدل، ثم نائبًا لرئيس المحكمة العليا الشرعية 1363هـ 1944م، وأسهم في إصلاح القضاء الشرعي، وتعديل بعض القوانين للمحاكم الشرعية والمجالس الحسبية، ومحاكم الطوائف المحلية، واختير رئيسًا للجنة الفتوى بالأزهر، واتسمت فتاواه بالدقة والجرأة والجهر بما يراه حقًا، ثم اختير مفتيًا للديار المصرية 1365 - 1946م.

 كما قام بالتدريس في قسم التخصص بمدرسة القضاء الشرعي، وبعد انتهاء مدة خدمته القانونية، اتجه لخدمة المسلمين من خلال الدروس التي كان يلقيها يوميًا في المساجد الكبيرة، ومنها المسجد الحسيني بالقاهرة، ومن خلال الفتاوى التي يصدرها وتنشرها الصحف.

وقد اختير عضوًا في هيئة كبار العلماء بالأزهر 1368هـ/ 1948م، ومُنح كسوة التشريف العلمية، واختير عضوًا لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وتولى رئاسة جمعية البحوث الإسلامية، كما تولى رئاسة جمعية النهوض بالدعوة الإسلامية.

وحصـل عـــلى "جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام"، عام 1983م، وشارك في تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان عضوًا في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية 1982م.

مواقفه

كان الشيخ حسنين مخلوف، قويًا في الحق، يجهر به ما دام قد استقر في يقينه صحة ما توصل إليه، فخاض حربًا ضد الشيوعية قبل قيام حركة الجيش 1952م، وكانت بعض الأفكار الشيوعية قد تسرَّبت إلى الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة، وخُدع بها البعض، فأعلن الشيخ أن الشيوعية بعيدة كل البعد عن الإسلام، وحين طُلب منه أن يعلن أن الإسلام اشتراكي، وأن الاشتراكية نابعة من صميم الإسلام، أبى الشيخ الغيور ذلك، وأعلن أن الإسلام لا يعرف الاشتراكية بمفهومها الغربي، ولكنه يعرف العدل والمساواة والتكافل حسبما جاء في القرآن الكريم.

وجرَّت عليه هذه المواقف الخصومة والعداوة من ذوي السلطان، الذين حاربوا الشيخ وضيَّقوا عليه، ومنعوا الصحف من أن تنشر له أي شيء، فاكتفى بمجلة الأزهر، يعلن فيها ما يراه حقًا.

وكان الشيخ يغيث الملهوف، ويُعين على نوائب الدهر، في وقت كانت فيه المروءة تُعدُّ من الجرائم التي لا تُغتفر، ويلحق بصاحبها الأذى والعذاب.. لكن من فُطروا على مكارم الأخلاق، والسجايا الكريمة، لا ينتكسون حين يفسد الناس، ولا يديرون ظهورهم لمن جاءهم طالبًا العون والمساعدة، ولو كلَّفهم ذلك الضيق والعنت، وأوردهم موارد الخطر.

طرق بابه وهو يومئذ مفتي الديار المصرية واحد من كرام شباب الإخوان المسلمين يُدعى "محمد الصوابي الديب"، وهو من زملائي في كلية الشريعة، وكان مطاردًا من الشرطة التي كانت تبحث عنه في كل مكان، وكانت جريمته الكبرى أنه من الدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة... وطلب من الشيخ الكبير حسنين مخلوف أن يحميه ويخفيه عن عيون الشرطة.. وكان الطلب مفاجأة، وتلبيته محفوفة بالمخاطر، ولم تكن بين محمد الصوابي والشيخ مخلوف معرفة سابقة، وفوق ذلك كله كانت جماعة الإخوان المسلمين تعيش محنة قاسية بعد صدام حركة الجيش معها عام 1954م، وتمتلئ بهم السجون، ويعاني أعضاؤها العذاب الأليم، وكان مجرد الانتساب إليها يكلف صاحبها الاعتقال والتنكيل، كما أن تقديم العون لأحد أفرادها يجلب للمعين السجن والتعذيب.

غير أن الشيخ الجليل لم يكن ممن يقيّد الخوف مروءتهم، فلا يُقدمون عليها خشية سوء العاقبة، وكما كان يصدع بالحق غير هيَّاب ولا وجل، كان يُقدم على فعل المكرمات ولو كان ثمنها حريته، وهذا ما فعله الشيخ الكبير.. لقد آوى الشاب المطارد ثمانية أشهر في بيته، ودبر له وظيفة يعمل بها كسكرتير خاص عنده، وهو يعلم أن ما قام به لو علمته السلطات الحاكمة لتعرّض إلى ما لا تحمد عقباه، بعد أن تجاوز عمره الستين، ولحلّ به ما لا يحتمله جسمه الواهن من العذاب والتنكيل على يد من عميت بصيرتهم، ونُزعت الرحمة من قلوبهم، وتخلوا عن خلق العدل والحق.. ولكن الله سلّم.. ومرت عملية اختفاء "محمد الصوابي" في هدوء دون أن تعلم بها زبانية السلطة وأصدقاء الشيطان، ولم يلحق الشيخ ولا أحدًا من أفراد أسرته أي أذى، لأنه بعد أن ترك الأخ "محمد الصوابي" بيت الشيخ، أراد السفر إلى جدة، ولكنه قُبض عليه وأُودع السجن، وظل تحت التعذيب شهورًا، دون أن يكشف اسم الشيخ الذي آواه، وقد فارق "الصوابي" الحياة تحت سياط الجلادين، ولقي ربه شهيدًا - إن شاء الله - ولم ينبس ببنت شفة عن مكان اختبائه وعن الذي آواه.

من أهم مؤلفاته

- أسماء الله الحسنى والآيات الكريمة الواردة فيها.

- أضواء من القرآن الكريم في فضل الطاعات وثمراتها وخطر المعاصي وعقوباتها.

- أضواء من القرآن والسنَّة في وجوب مجاهدة جميع الأعداء.

- بلوغ المسؤول في مدخل علوم الأصول.

- تفسير سورة يس.

- جزء عم وبهامشه كلمات القرآن، تفسير وبيان.

- الحديقة الأنيقة في شرح العروة الوثقى في علم الشريعة والطريقة والحقيقة (تحقيق وتعليق).

- من وحي القرآن والسنَّة.

- حكم الشريعة في مأتم ليلة الأربعين.

- الدعوة التامة والتذكرة العامة.

- الرفق بالحيوان في الشريعة الإسلامية.

- شرح الشفا في شمائل صاحب الاصطفا "تحقيق".

- صفوة البيان لمعاني القرآن.

- عدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين "شرح".

- فضائل القرآن العظيم وتلاوته.

- فتاوى شرعية وبحوث إسلامية.

- كلمات القرآن تفسير وبيان وبهامشها لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي.

- المواريث في الشريعة الإسلامية.

- النصائح الدينية والوصايا الإيمانية.

- هداية الراغب بشرح عمدة الطالب (تحقيق).

- أخطار المعاصي والآثام ووجوب التوبة منها إلى الملك العلام.

- دعاء يوم عرفة.

- رسالة في ختم القرآن ووجوب بر الوالدين.

- تفسير آية الكرسي وسورة الإخلاص وسورة الضحى.

- تفسير سورة القدر.

- أدعية من وحي القرآن والسنة.

- نفحات زكية من السيرة النبوية.

- شرح الوصايا النبوية... إلخ.

معرفتي به

في فترة الدراسة الجامعية بمصر، كنا نحن طلبة الأزهر وبخاصة طلبة البعوث الإسلامية القادمين من خارج مصر، نحرص على لقاء العلماء الأزهريين والدعاة العاملين، ونرتاد مجالسهم وبيوتهم، وأماكن دروسهم ووعظهم، وكان في مقدمة هؤلاء، شيخنا الجليل العلامة الشيخ حسنين محمد مخلوف، الذي كان يُزينه التواضع، وتُحيط به المهابة، ويأسرك بحلو حديثه، وحسن عرضه للمادة العلمية بأسلوب سهل، يقرّبها إلى أذهان الطلبة وجمهور السامعين من عوام الناس.

وكانت فتاواه لمختلف القضايا والمسائل التي تعرض عليه مما يجدّ في واقع المسلمين من العلوم النافعة التي نحرص عليها ونستفيد منها نحن الطلبة الأزهريين.

فضلاً عن أنه من العلماء العاملين الذين يعيشون مشكلات الناس، ويتفاعلون مع مشاعرهم، ويسهمون في علاجها، وتقديم الحلول الناجعة لها.

وبعد تخرجي لم تنقطع صلتي به، بل ظللت ذلك الطالب الذي يتابع نتاج أستاذه، ويحرص على اقتناء كل جديد من كتبه وفتاواه.

ثم بعد أن عملت في الكويت، مديرًا للشؤون الإسلامية، أكرمني الله بأن ألتقي به في المؤتمرات الإسلامية، وبخاصة في المملكة العربية السعودية في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والرياض، وغيرها.

ولقد كنت وإياه ومجموعة من العلماء، منهم سماحة الحاج محمد أمين الحسيني، والشيخ محمد محمود الصواف، والأستاذ عمر بهاء الدين الأميري وغيرهم من علماء العالم الإسلامي، قد تشرفنا بمقابلة جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، الذي أحسن لقاءنا، وأشاد بدور العلماء، وضرورة اضطلاعهم بقيادة الأمة، وإعلاء شأنها، وتوجيهها للالتزام بمنهج الإسلام، والعمل على تطبيقه في كل شؤون الحياة، وكلما كان العلماء صورة صادقة للإسلام، وآزرهم ولاة الأمر، التف الناس حولهم، وساروا على نهجهم، واقتفوا أثرهم.

من أقواله

"في طفولتي لم أعرف اللعب، كان والدي يصطحبني معه إلى المسجد، وأنا طفل أتابع دروسه، وأرقب طريقته في الإلقاء، أرى سماحة صدره وهو يناقش، ويصل بالمفاهيم الدينية إلى أبسط فلاح في قريتنا.. متواضع مع الناس كلهم، ويحبب إليهم دروس العلم، وعدم الخجل من السؤال عن حكم الدين فيما يعترضهم من المشاكل.

وقد بدأت في تلك الفترة المبكرة من حياتي، أسمع كلامًا حول مستقبلي، كما حدده الوالد، بأن يكون في طلب العلم، وأن أخلفه في مجلسه ودروسه.

ويبدو أن الوالد كان يُعدّني منذ طفولتي لهذه المهمة، وهذا ليس غريبًا عني، وأنا من بيت علم، لم أعرف اللهو، ولم أعرف إلا العلم والتحصيل".

وعندما وجه رئيس نيابة أمن الدولة سؤالاً له حول الشيوعية ومدى علاقتها بالإسلام، أجاب بكل جرأة:

"إن من أخطر المبادئ التي قامت عليها الشيوعية، إحلال الإلحاد واللادينية محل الأديان السماوية، وإشاعة الإباحية الفاحشة في المجتمع، وإلغاء الملكيات الفردية للعقار إلغاء تامًا، وانتزاع جميع الأراضي من ملاكها، وجعلها ملكًا للدولة، وتطبيق ذلك بالقهر والجبروت، فكانت الشيوعية هادمة لا بانية، باغية لا عادلة، والشريعة الحنيفة السمحة التي من أصولها: وجوب المحافظة على الدين، والعقل، والنفس، والمال، والعرض، ومن مبادئها: احترام الحقوق، وتقدير الحريات العامة للإنسان، تنكر ذلك أشد الإنكار، وترى اعتقاده كفرًا بواحًا، لتكذيبه ما أجمعت عليه الرسالات السماوية".

وعندما نشرت مجلة "الجيل الجديد" فتوى لوزير الأوقاف المصري عام 1957م قال فيها: "يجوز للعريس أن يختلط بعروسه، ويتمتع بها أي يقبلها ويعانقها قبل عقد الزواج، ليتأكد من صلاحيتها له، وليأمن العيوب الخفية فيها"، انبرى له الشيخ حسنين قائلاً:

"وأما ما نشر في بعض الصحف على لسان السيد وزير الأوقاف من إباحة التقبيل والعناق للمخطوبة قبل العقد، فهو قول باطل، يرده كتاب الله وسنة رسوله، ومذاهب الأئمة قاطبة، ولم ينقل عن أحد من المسلمين لا الفقيه ابن حزم ولا غيره إجازته من الأجنبي للأجنبية في أي حال، فضلاً عن أنه إباحية فاحشة تنكرها الأخلاق والعادات الفاضلة".

قالوا عنه

قال عنه الدكتور محمد رجب البيومي:

"والحق أن الشيخ حسنين مخلوف قد كان ثبتًا مكينًا في كل ما أفتى به، كما كان جريئًا لا تأخذه في الحق لومة لائم، فحين اتسع الحديث عن الشيوعية عقب قيام الثورة، وكتب المغالون في تمجيدها، وكأنها معجزة الإنقاذ مما يتهدد العالم من أهوال، وتحرشوا في صحفهم المأجورة بكل من يبدي رأيًا معارضًا، بل إن أحد المنتسبين للعلم قد جاهر بأن الشيوعية من صميم مبادئ الإسلام..

حين انتشر هذا اللغط، وووجه الشيخ مخلوف بسؤال عن حقيقة الشيوعية، ومدى صلتها بالإسلام، لم يتوان لحظة عن أداء واجبه الديني، وأعلن فتواه في الأهرام صريحة مجلجلة.. وهنا تدفقت البذاءات الجاهلية تنوش الشيخ في غير تحشم، بل إن أحد المهاجمين أكثر من ذكر الشيخ "متلوف" وهو البطل المسرحي لمسرحية مترجمة عن موليير، معرضًا بالشيخ الفاضل، فلم يأبه الشيخ بما يرى ويقرأ".

وقال عنه الأستاذ عبدالله الطنطاوي:

"فضيلة الشيخ حسنين مخلوف من بقايا السلف الصالح الذين تحدث عنهم الرسول القائد (صلى الله عليه وسلم)، عاش مئة عام حافلة بجلائل الأعمال، ملأها علمًا، وعبادة، ودعوة إلى الله على بصيرة، وتصديًا لأصحاب الأهواء والمذاهب الهدامة، ولأدعياء العلم والفتوى، وللسائرين في ركاب الطغيان، ولم يأبه لما أصابه، ولما قد يصيبه جراء مواقفه الجريئة الصادعة بالحق، وكان بذلك كالإمام أحمد في تصديه للمبتدعة، وللسائرين في ركاب ذوي الأهواء من أدعياء العلم.. وهكذا كان شيخنا الجليل في عصرنا الذي اضطربت فيه العقائد، وزلزلت النفوس، وطأطأت الهامات للجبارين، فبقي شامخًا معبرًا عن الإسلام الحق، الإسلام المصفى من كل ألوان البدع الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية".

وفاته

توفي العلاَّمة الشيخ حسنين محمد مخلوف في العشرين من شهر رمضان 1410هـ وهو الشهر نفسه الذي ولد فيه وكان عمره قد جاوز المئة عام، ودفن في القاهرة.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 847