الداعية المربي صالح مهدي الدباغ (أبو صفوان)

المستشار عبد الله العقيل

 (1339 - 1371ه / 1920-1951م)

بداية معرفتي به

كان ذلك في عام 1947م، حين تعرفت إليه ببغداد أثناء دراستي في الثانوية الشرعية بالأعظمية، وهو الشاب التقي الورع الأخ صالح مهدي الدباغ (أبو صفوان)، معلم الناشئة ومربيهم، والباذل جل اهتمامه في توجيه البراعم المؤمنة إلى هدي الكتاب والسُّنَّة وإعدادهم ليكونوا حملة الدين ودعاته، المجاهدين في سبيله والذائدين عن حياضه، أمام كيد الكائدين ومكر الماكرين، الذين طغى شرهم وعم ظلمهم وانتشر فسادهم، فصارت بغداد «بلد الرشيد» تعجّ بدعوات الملاحدة الشيوعيين والزنادقة العلمانيين، والأذناب والعملاء من المتغربين والمأجورين، يمثّلهم سيل من الكتب والمطبوعات والصحف والمجلات والأحزاب والجمعيات المدعومة من اليهود والسفارات وبخاصة السفارة البريطانية التي كانت ضدّ التوجه العربي والإسلامي باعتباره مؤيدًا لحركة رشيد عالي الكيلاني المناوئة للحلفاء والمتعاونة مع المحور أثناء الحرب العالمية الثانية، فرأت في اليسار فرصتها لضرب اليمين فكان الحزب الشيوعي وجريدته (الشرارة) والحزب الشيوعي وجريدته (القاعدة)؛ والحزب الشيوعي وجريدته (الشعلة) والحزب الوطني الديمقراطي وجريدته (الأهالي) والجناح التقدمي الديمقراطي وجريدته (صوت الأهالي) وحزب الاتحاد الوطني وجريدته (السياسة) وكلها أحزاب يسارية مضافًا إليها: الأحزاب التي يقودها اليهود مباشرة مثل حزب «التحرر الوطني» وحزب «الاتحاد الوطني» وحزب (العصبة الصهيونية).. إلخ.

وأمام هذه الهجمة الشرسة على الإسلام وعلى المسلمين، كان لا بد من التصدي بحزم وقوة لهؤلاء المفسدين في الأرض، ومن هنا برز دور الدعاة إلى الله ليقدّموا الإسلام حلاً بديلاً عن الدعوات الشيوعية والعلمانية فكانت الحركة الإسلامية التي من أبنائها الأخ صالح الدباغ.

نشأته

لقد نشأ الأستاذ الدباغ (رحمه الله) في منطقة الأعظمية، حيث جامع الإمام أبي حنيفة النعمان الذي يزخر بالعلماء والدعاة والوعاظ والمرشدين، الذين يتصدّرون للوعظ والتدريس والتعليم والتربية والندوات والمحاضرات في جماهير المسلمين، وبخاصة الشباب الذين يشكلون الحلقات في المسجد الجامع، وينهلون من علوم الإسلام النافعة على أيدي الأساتذة المربين، وفي مقدمتهم الأخ المربي أبو صفوان الذي يشحذ هممهم ويستجيش مشاعرهم ويثير غيرتهم على الدين، ويستنهضهم لحمل رايته، والوقوف في وجه أعدائه، متسلحين بالعلم النافع والتربية الصلبة، التي يتهاوى أمام صمودها دعاة الباطل والأقزام المهازيل من رموزه.

جهوده الدعوية

ولقد أصدر الأستاذ الدباغ سلسلة (مع الناشئة) لتكون زادًا للشباب المسلم مكملة سلسلة (قصص الدين والدنيا) لمحمد لبيب البوهي ورسالة «صرخة مؤمنة إلى الشباب والشابات» للأستاذ محمد محمود الصواف و«رسائل الصحابة» للأستاذ صابر عبده إبراهيم التي تولت (مكتبة الإخوان المسلمين) بشارع حسان بن ثابت في بغداد توزيعها في جميع أنحاء العراق، مما كان له أطيب الأثر في نشر الوعي الإسلامي والثقافة الإسلامية بين الشباب وجماهير الأمة.

وكنت أعرف الأخ الدباغ عن قرب، ومن خلال معايشته بحكم وجودي بالثانوية الشرعية بالأعظمية حيث مسكنه قريب من سكن طلاب الثانوية، فكنا نلتقي به كثيرًا ونجد منه كل الحفاوة والرعاية وطيب المعشر وحسن الخلق، وقد استضافنا في بيته أكثر من مرة، وكان بسيطًا متواضعًا لا يحب التكلّف، يلقاك ببشاشة الوجه وطيب الكلام وحسن الحوار، ويضفي على إخوانه وزائريه كل مظاهر الحب والتكريم والترحيب والتقدير ويشعرهم بأنهم أصحاب المنزل وأهل الدار.

وكم كان (رحمه الله) يؤكّد على ضرورة الاهتمام بأبناء الجيل الجديد لأنهم أمل الأمة في مستقبلها، ويبذل قصارى جهده في تنشئتهم النشأة الصالحة وتربيتهم التربية القويمة ليكونوا رجالاً بحق ينصرون دين الله ويشدون أزر المجاهدين في فلسطين ويقاومون الاستعمار وأذنابه الذين يريدون فرض معاهدة (بورت سموث) البريطانية على الشعب العراقي المسلم، وقد كان لجهاد الأستاذ الصواف وإخوانه وتلامذته الدور الكبير في التصدي لها حتى تمّ إسقاط هذه المعاهدة المشؤومة على أيدي شباب الحركة الإسلامية.

أخلاقه وصفاته

لقد ضرب الأخ الدباغ المثل الصادق للأخ المسلم في صدقه ووفائه ونبله وكرمه وحبه لإخوانه وإيثارهم على نفسه وقيامه بخدمتهم ورعايتهم، فقد وجدنا نحن الطلبة المغتربين النصيب الأوفر من هذه العناية والرعاية التي أفاضها علينا وغمرنا بها وهي ما زالت في ذاكرتنا رغم تقادم السنين ونتحدث عنها في كل حين.

لقد تميّز الأخ (أبو صفوان) بالزهد والورع وكثرة التلاوة للقرآن الكريم والحرص على المأثورات من الأذكار وأدعية اليوم والليلة، كما كان (رحمه الله) موفقًا في حسن عرض الإسلام بأسلوب محبب وطريقة جذابة تبشِّر ولا تنفر وتسلك المنهج الوسط وتتخذ الحكمة والموعظة الحسنة طريقها إلى النفوس والقلوب، فأقبل الناشئة والشباب زرافات ووحدانًا ينهلون من نبع الإسلام الصافي وينتظمون في صفوف الدعاة العاملين والمجاهدين الصادقين، فكانوا ثمرة يانعة من ثمار جهود أبي صفوان المباركة نتيجة عمله الدؤوب مع شبان الرافدين وتوفيق الله له ولإخوانه.

أثر المكتبات والمعسكرات

كما كان للكتب الإسلامية الدعوية التي تنشرها مكتبات الإخوان المسلمين الأثر البالغ في تعريف الشباب بحقيقة الإسلام ودوره في تأسيس المجتمع المسلم الذي يقيم منهج الله في الأرض ويخرج الناس من عبادة الطواغيت إلى عبادة الله، ومن فوضى المناهج الوضعية المستوردة إلى عدل الإسلام وكرامة المسلم وأمن المجتمع.

وقد كان للمخيمات الكشفية والمخيمات الصيفية - على شواطئ دجلة وفي غابات الشمال التي تضم العشرات، بل المئات من الشباب - أكبر الأثر في تربيتهم على الرجولة والشجاعة والتضحية والبذل والاعتماد على النفس من خلال الدروس وقيام الليل وتلاوة القرآن والذكر والدعاء والصيام والرياضة الكشفية، حيث التكامل في المنهج التربوي الذي يعنى بالجسم والعقل والروح على حد سواء.

وعلى ضوء هذا المنهج وبمثل هذا الأسلوب انطلق العلماء أمثال أمجد الزهاوي وقاسم القيسي ونجم الدين الواعظ ومحمد الصواف وصالح الدباغ وعبد الكريم زيدان وغيرهم يتحركون بالإسلام من خلال المساجد ورابطة العلماء وجمعية الآداب الإسلامية وجمعية إنقاذ فلسطين ثم جمعية التربية الإسلامية وجمعية الأخوة الإسلامية فيما بعد.

إن الأخ صالح مهدي الدباغ كان صالحًا كاسمه في سمته ومظهره وفي قوله وعمله، فهو مجاهد صامت يؤثر العمل على القول ويتوارى عن الظهور ويعتبر الإمام الشهيد حسن البنا مجدد العصر والقائد الفذ الذي قل أن يجود الزمان بمثله، ويرى أسلوبه في الدعوة المعاصرة أمثل الأساليب لأنه مستقى من منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو يرى أن الأستاذ الصواف ثمرة من ثمار البنا أهديت للعراق، كما كان الشيخ محمد الحامد والأستاذ مصطفى السباعي من ثمار البنا التي أهديت لسورية.

وكان يكرر القول بأن الأمل معقود على حركة الإخوان المسلمين لتعيد للأمة مجدها وتحررها من ربقة الاستعمار بكل أشكاله ومسمياته وبخاصة البريطاني الذي يسعى ليمكن اليهود في بلاد المسلمين، ومن ثم كان انطلاق كتائب الإخوان المسلمين من مصر وسورية والأردن والعراق للتصدي لليهود في فلسطين بعد قرار التقسيم سنة (1367ه/  1947م) الذي تواطأت على تأييده كل الدول الكافرة شرقية وغربية وبخاصة أمريكا وبريطانيا وروسيا.

إن الأخ صالح الدباغ ليس من رجال الفكر البارزين ولا من الدعاة المشهورين، ولكنه من العاملين المجاهدين والأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يُعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا فهو يعمل بصمت ويربي الشباب على منهج الإسلام الموضح بالبرامج العملية للإخوان المسلمين حتى لقي الله سنة 1951م ببغداد.

عرفتُكَ صالحًا خلاً وفيًّا

عرفتك داعيًا لله حقًا

فكم أسديت من نصح إلينا

عليك سلام ربك حين تمسي

أبيَّ النفسِ ذا خلقٍ كريمِ

بما آتاك من قلب سليم

وسرت بنا على النهج القويمِ

وتصبح في فراديس النعيمِ

هكذا عاش معنا وهكذا رحل عن دنيانا وقليل من الناس من يعرفه ولكن الله يعلم من هو، وهو حسيبه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23).

نسأل الله أن يتغمده برحمته وأن يلحقنا وإياه بالأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 852