المجاهد الشهيد صلاح حسن (أبو عمرو)

المستشار عبد الله العقيل

 (1343 - 1390هـ / 1925-1970م)

معرفتي به

عرفته بمصر أثناء الدراسة الجامعية، فعرفت فيه الرجولة والصلابة، والفداء والتضحية، والعزم والثبات، فقد كان من القلائل الذين فقهوا الإسلام جهادًا، وبذلاً، وصبرًا، وعبادةً، ودعوةً، وخلقًا، وحبًا، وأخوةً وإيثارًا. كان يدرس في «معهد التربية العالي»، ويشارك في تدريب الشباب المسلم والطلبة الجامعيين على الرياضة البدنية والتدريب العنيف الذي يصنع الرجال، ويحارب الميوعة لدى الشباب، فكان معلمًا، ومربيًا، وداعية، ومجاهدًا، أحبه زملاؤه وتلامذته وإخوانه، فكان مثال الأخ المسلم في الخلق الفاضل، والأدب الجمّ والتواضع ولين الجانب.

نشاطه وجهاده

لقد أسهم في تدريب طلبة الجامعة بالأزهر، وعين شمس، وغرس فيهم روح الجهاد والتضحية في سبيل الله والمستضعفين، والدفاع عن أرض الكنانة بمحاربة الإنجليز في منطقة قناة السويس سنة 1951م.

وحين قام الانقلاب العسكري سنة 1952م، غادر صلاح حسن أرض الكنانة بعد أن اجتاحتها نذر الشر، وعواصف الطغيان، مهاجرًا إلى جنوب السودان للتبشير بالإسلام في مدينة (جوبا) وما حولها، وظل يكافح ويجاهد متصديًا لحملات التبشير الصليبي، المزودة بالإمكانات الضخمة، والدعم الدولي والإسناد المالي، حتى ضاق به المبشرون، فأغروا عملاءهم من أصحاب السلطة بإخراجه من السودان بكاملها، لا من الجنوب وحده، فتوجَّه إلى الكويت ليعمل فيها مدرّسًا للتربية البدنية في ثانوية الشويخ، التي هي مجال اختصاصه، ثم تفرّغ للعمل الحر الذي يكسب منه رزقه ويمارس من خلاله دعوته في حرية وانطلاق.

ولقد سعدنا به في الكويت كثيرًا بعد هذه الغربة في السودان الشقيق، وكانت لنا معه جلسات وحوارات، وأحاديث ومساجلات، تدور كلها عن وضع المسلمين في العالم، وحاجة الأمة الإسلامية إلى إحياء روح الجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام، وشعار عزته، وكان (رحمه الله) يكرر القول بأن مصائب العالم الإسلامي في القديم والحديث إنما هي من جرثومة الفساد اليهودي الذي حارب الإسلام منذ البعثة النبوية وما زال يسعى ليل نهار لئلا تقوم للإسلام قائمة أو يعود المسلمون إلى دينهم، ويقول: إن العلاج الوحيد لحسم مادة الشر هو التصدي لرأس الأفعى، ففي القضاء عليها شفاء لصدور المؤمنين.

صفات اليهود

وإن اليهود، وإن ظاهرهم الشرق والغرب، وإن ملكوا زمام الدول وحازوا المال الحرام وسيطروا على الإعلام، فهم بحكم طبعهم جبناء أذلاء، حريصون على أي حياة ولو كانت في الوحل أو الدنس، وإن غضب الله عليهم يوجب على المسلمين أن يحذروهم، فهم لا يؤمن لهم جانب، ولا يعرفون الوفاء بالعهود، أو الالتزام بالمعاهدات، لأن من شأنهم الكذب والنكث والنفاق والتلون، ولن يقف في وجوههم ويتصدى لمكرهم غير عباد الله المجاهدين في سبيله والذين يرخصون أرواحهم ابتغاء مرضاته.

الخير في الشعوب

وإذا كانت الحكومات الهزيلة مهزومة من داخلها مستكينة راضية بالذل والمهانة، فإن الشعوب الإسلامية لا زال فيها الخير، ولا زالت روح التضحية والفداء كامنة فيها تحتاج إلى من يثيرها، ويستجيش مشاعرها، ويلهب حماسها، وإن الواجب علينا كدعاة إلى الله، أن نوجهها ونربيها على منهج الإسلام وندرّبها ونعدّها الإعداد الحسن لمواجهة اليهود وأعوانهم في كل وقت وحين.

تدريب الشباب

ولذا شرع الأخ المجاهد (أبو عمرو) مع إخوانه (أبي أسامة) و(أبي خليل) و(أبي طارق) وغيرهم، في الدراسات المعمقة والتدريبات الكثيفة، والدروس الإيمانية، والتحرك على مستوى العالم الإسلامي، لاستقطاب الشباب الراغبين في الجهاد، لإعلاء كلمة الله، والتصدي لليهود الجاثمين على أرض المسلمين ومقدساتهم، وقد أثمرت هذه الجهود المباركة نواة طيبة من شباب العالم الإسلامي، هجرت حياة الدعة وسارعت إلى ساحة الجهاد وميدان الإعداد، وتوجهت إلى أرض الرباط قريبًا من أعداء الإسلام اليهود لمناجزتهم ومحاربتهم.

وقد قام البطل الشهيد صلاح حسن وإخوانه الكرام بتدريب الشباب على فنون القتال وأساليب الكر والفر والهجوم والدفاع وفق المنهج الإسلامي في القتال المشروع.

يقول الأخ د. محمد أبو فارس في كتابه (شهداء فلسطين):

«... إن شهيدنا صلاح حسن كاتب معروف له أكثر من كتاب في القصة والسيرة والتربية، وهو واسع الاطلاع، متين الثقافة، سيّال القلم، خصب الفكر، ذو قدرة على الإِبداع، وكان محبوبًا عند إخوانه من المجاهدين، وكل من يتعرف عليه من الناس لتواضعه ومرحه وحلمه وصدق إيمانه، وكان يتنافس مع أخيه أبي خليل في الجهاد والاستشهاد، حيث قال له: «لئن سبقتني إلى الجهاد فسأسبقك إلى الشهادة والجنة».

ومما يجدر ذكره أنه (رحمه الله) كان يتوقع الشهادة، بل لقد رأى في المنام ما يشعر بدنو أجله وأنه سيرزق الشهادة فحَدَّثَ إخوانه: (رأيت في المنام أني أركب قطارًا ويقود هذا القطار الشهيد سيّد قطب -) فأوّلها هو وإخوانه بأنه سيرزق الشهادة، ولقد اتخذه الله شهيدًا في ذكرى اليوم الذي رزق الله الشهيد سيّد قطب الشهادة» انتهى.

التخطيط للعملية

لقد خطط الأخ (صلاح حسن) وإخوانه أبو أسامة وأبو خليل وغيرهم من المجاهدين المرابطين قبالة اليهود للقيام بعملية جهادية ضد اليهود تكون في نفس اليوم الذي هُزمت فيه الحكومات العربية عام 1967م (أي يوم 5/6)، وبالفعل كان يوم 5/6/1970م موعد العملية الجهادية حيث دمّر المجاهدون دبابات للعدو كانت مرابطة في مستعمرة «كفار روبين» في سهل بيسان.

وبعدها بأكثر من شهرين خطط (أبو عمرو) وإخوانه لمعركة أخرى مع اليهود، واصطدموا بهم وتبادلوا معهم إطلاق النيران وسقط من المجاهدين ثلاثة شهداء من بينهم القائد صلاح حسن (أبو عمرو) وإخوانه زهير سعدو من سورية، ومحمود البرقاوي من الأردن، الذين سطّروا بدمائهم الزكيّة طريق المجد لتحرير المقدسات الإسلامية، مكملين بذلك ما بدأه الإخوان المسلمون بمصر وسوريا والأردن حين انطلقت كتائبهم لقتال اليهود بفلسطين عام 1948م، وقدموا مئات الشهداء على ثرى القدس وفلسطين دفاعًا عن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال.

ومن توفيق الله وعجائب قدرته أن يكون يوم استشهاد صلاح حسن موافقًا اليوم الذي أُعدم فيه الشهيد سيّد قطب من قبل طاغية مصر وصنيعة اليهود والأمريكان وهو يوم 28/8/1970م، أي بعد استشهاد سيّد قطب بأربع سنوات.

وحين توجه المجاهدون لحمل جثث الشهداء الثلاثة وجدوا جثة الشهيد صلاح حسن قد مثِّل بها تمثيلاً شنيعًا، فقد فُقئتْ عيناه، واخترقت عشرات الطلقات جسمه الطاهر، بعد أن قتل من اليهود أكثر من اثني عشر جنديًا، وكان شقيقه (أبو خليل) معه في نفس المعركة، ولكنه نجا من الموت.

قصة استشهاده

وهذه قصة استشهاده يرويها أحد رفاقه في ميدان الجهاد:

«الظلام دامس.. والأصوات هادئة بل معدومة، بعدما ترك معظم السكان قراهم فهي خاوية لم تسكن من بعدهم. واخترقنا هذه القرى المهجورة، وخرجنا إلى الحقول والمراعي والبساتين، والركب الصغير يغذ السير إلى هدفه، ووصلنا بعد حوالي ساعتين من السير الحثيث إلى شاطئ النهر.

وتوقفنا عن السير فترة قصيرة - حوالي نصف ساعة - إلى أن ارتاحت قليلاً الأجسام المنهكة من ثقل ما حملت.

كان لساننا دائمًا يلهج بالاستغفار والذكر. وكانت تخطر دائمًا على أفكارنا كثير من الآيات وصيغ الاستغفار. وتدور حول أذهاننا وفي عقولنا أشرطة معينة لمواقف معينة، منها ما يضحك ومنها ما يبكي، ومنها ما يملأ النفس حماسة ومنها ييئس.. وهكذا أشياء لا ندري كيف تخطر على ذهن الإنسان في ثوان معدودة دون رابط بينها؛ ولكنها تشبه شريطًا من الأخبار الخاصة تعرض على ذهنك وكأن لا شأن لك بها.

بدأنا في حذر شديد في ترتيب عبور النهر، وأخذنا وضعًا مناسبًا للقتال، تحسبًا لأي مفاجأة، وقامت مجموعة صغيرة بعبور النهر والتمركز في الضفة الأخرى، ثم بعد قليل بدأت المجموعة الأخرى في العبور، وهكذا إلى أن انتهينا جميعًا من العبور، ثم أخذنا نقطع النهر ذهابًا وإيابًا إلى أن قمنا بنقل كل المعدات وبدأنا في الاستعداد، ولكنا شعرنا أن الوقت قد غلبنا ولم يبق على الفجر إلا القليل. ومع بعض الحسابات الخفيفة أدركنا أنه من الصعب أن يسعفنا الوقت في عمل كل التجهيزات، فقررنا تأجيل موعد التنفيذ لليوم الثاني، وكان لا بد من العودة قبل طلوع النهار.

قمنا بعبور النهر إلى الضفة الشرقية، واسترحنا قليلاً بعد أن أرسلنا أحدنا لإخبار مجموعة (التغطية) بتأجيل العملية لليوم الثاني؛ وأثناء الانتظار ألَحّ النوم على جفوننا، وكنت ضمن مجموعة كتب الله الشهادة لمعظم أفرادها.

وقعت عيناي على أبي عمرو (أي الشهيد صلاح) وهو يغط في نوم عميق وكأنه ينام في بيته. وظللت أنقل عيني بين رجلين: زهير سعدو وصلاح حسن، وهما يغطان في النوم وعيناي تراقبان الطريق. وما لبث أن عاد محمود برقاوي يخبرنا بنبأ التقائه بمجموعة التغطية وإبلاغها بتأجيل العملية. وبدأنا السير في طريق العودة، لم نتكلم كثيرًا. لم نكن نعرف أن أبواب الجنة قد فتحت استعدادًا لاستقبال شهداء سوف ينتقلون بعد لحظات، وأننا كلما قطعنا خطوة إلى الأمام، قطعنا خطوة إلى الجنة.

ووقفت أنادي محمود البرقاوي الذي كان سريعًا في خطوه: يا محمود لا تسرع حتى لا تختفي عن أعيننا في الظلام الحالك. وللمرة الثانية حدث أن توقفنا وتكرر النداء لمحمود أن يبطئ في سيره. وبدأ محمود يبطئ فعلاً في سيره. ولكن كانت مرحلة الصعـود (أي صعـود الشهـداء) قد بـدأت، وكـان أبو عمرو يسير خلفي وكذلك شرحبيل (زهير سعدو)، وانتقلت من جانب الطريق الأيمن إلى الجانب الأيسر حتى أظلّ ملاحقًا لمحمود أثناء سيره.

وفجأة رأيت نارًا حامية تخرج من الأرض باتجاه محمود برقاوي وذلك من بعد حوالي خمسة عشر مترًا، وتابعت النار الحامية وهي تصيب محمودًا، وأدركت في الحال أن محمودًا كان أول الصاعدين.. وهوى الجسد الطاهر على الأرض، وصعدت الروح الكريمة إلى بارئها.. هوت المادة إلى المادة أصلها، وصعد السر الذي هو من علم ربه إلى خالقه.. وظلت المدافع تقصف في اتجاه محمود قصفًا عنيفًا متواصلاً. وأخذنا وضع الاستعداد للالتحام. ولم يخطر ببالنا أن إخلاء الأهالي لقراهم يمكن أن يغري اليهود بالتعمق إلى هذا الحد داخل أرض الضفة الشرقية وكأنها بلا صاحب.

فصحت بأعلى صوتي: انتبه.. ماذا تفعل؟

وذلك ظنًا مني أنها مجموعة من الفدائيين حسبتنا يهودًا ففتحت نيرانها علينا؛ ولكن بضع كلمات عبرية بلغت آذاننا جعلتنا ندرك الوضع تمامًا.. إنه كمين يهودي وإنه لا يقل عن فصيلة كاملة.

ولكن من أدرى اليهود أننا سوف نعود من هذا الطريق؟ هل هي (إخبارية) من بعض عيونهم؟ هل المسألة صدفة؟ لا نستطيع الجزم وإن كانت الشواهد تنبئ أن لليهود في هذه المنطقة بعض العيون التي تنبئهم بالتحركات في المنطقة.. ظللت حوالي ثلاث دقائق، وأنا أراقب الموقف للتصرف حسب التقدير السليم. نظرت خلفي نظرة خاطفة فوجدت أبا عمرو قد جلس القرفصاء، وأخذ وضع الاستعداد. ولم نحاول الالتحام أو الرد حتى نخفي مواقعنا، ونخفي أيضًا عددنا بفضل الظلام الدامس.

وظلّ اليهود يضربون على غير هدى. وقررنا الانتقال من أماكننا إلى أماكن أكثر أمنًا. ومع الانتقال بدأت القنابل اليهودية تنهال علينا من اليهود. كل هذا ونحن ساكتون تمامًا. ثم بدأ اليهود إرسال طلقات كاشفة من مدفع هاون لمحاولة معرفة مكاننا، وأثناء انتقال أبي عمرو وزهير سعدو من مكان إلى مكان أصيب أحدهما في قدمه ووقف الآخر لمساعدته وظلا في أماكنهما إلى أن أراد اليهود أن يأخذوهما فأمسك كل منهما بسلاحه وكانت مواجهة عنيفة بين المجاهدين وبين اليهود، وكانت كارثة مفاجئة لليهود؛ فقد سقط في الحال أكثر من ثلاثة عشر قتيلاً غير الجرحى، مما حمل اليهود على الانسحاب بسرعة، هذا مقابل استشهاد البطلين صلاح حسن وزهير سعدو، وقد تمكنّا مساءً من سحب الجثث، حيث دفن الشهيد محمود برقاوي في بلدة النواجع في الأردن، ودفن زهير سعدو في حماة في سوريا، ودفن أبو عمرو في أرض الكويت» انتهى.

صفاته

رحم الله شهيدنا الذي تعلّمنا منه الكثير من دروس التضحية والجهاد، والصبر، والمصابرة، والعزم، والتصميم، والاستعلاء على زخارف الدنيا، والزهد بما في أيدي الناس، والسعي الدؤوب للعمل الجاد الذي يرضي الله (رحمه الله) وينفع المسلمين، والاعتزاز بالإسلام الدين الحق، والتمسك بحبل الله المتين، وتقديم الغالي والنفيس في سبيل الله (رحمه الله) والمستضعفين من المسلمين، والذود عن ديار المسلمين ومقدساتهم ونصرة المسلمين في كل مكان، والتبشير بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته.

قالوا عنه

يقول الأستاذ حسن دوح في كتابه (شهداء على الطريق):

«... ويتحلق الرجال حول جثة الشهيد صلاح حسن ويقف ابنه «عمرو» صامتًا يغالب دموعه، ويذكر أن أباه أوصاه بأن يخلفه في أداء رسالته، وأن يستمر على طريق الإسلام الحق، طريق الجهاد في سبيل الله، وإعلاء لكلمة الله» انتهى.

وكتب الأستاذ زين العابدين الركابي في مقدمته لكتاب الشهيد صلاح حسن (ثمانون عامًا بحثًا عن مخرج):

«كنت معه وهو يكتب القصة ويحيا معانيها وقيمها.. وكان كلما كتب صفحة منها جلسنا لنقرأها معًا.. ونتابع سيرها في طريق الحق والخير والجمال.. وكان الهدف واضحًا أمام الشهيد صلاح حسن (عليه الرحمة والرضوان) وهو يكتب قصته الهادفة. إن الأجيال المسلمة الناشئة تعرضت لغزو تربوي واسع النطاق تناول - عمقًا - جذور النفس والفكرة والعقيدة.. وشمل - امتدادًا - العالم الإسلامي كله.

وهذا الغزو يستهدف عزل الجيل الحاضر والأجيال القادمة عن الإسلام، ويخرج شبابًا غريب الفكر والعقيدة والنفس، غربي الوجهة والمسلك. كان ذلك واضحًا في ذهنه وتفكيره.. وكان لا يفتأ يذكر هذا الغزو لفرط إحساسه بمخاطره وعواقبه.. ولا عجب فالشهيد رجل يعيش بالإسلام وله ويحيا واقعه وقضاياه.. وهو كذلك رجل اشتغل بتربية الشباب زمنًا طويلاً وعرف - بالممارسة العملية - مشكلات الشباب والآثار النفسية والعقلية التي تركها الغزو الأجنبي في نفسه وتفكيره وثقافته.

مقوّمات خاصة مكنت الشهيد صلاح حسن من إدراك مدى التخريب والمسخ الذي يحدثه الاحتلال التربوي والثقافي والفكري في أجيالنا.. وأورثته رؤية - تميزت بالعمق والجلاء والبعد - أبصر بها ما لم يبصره غيره.

انبعاثًا من هذه الخصائص الفاضلة الأصيلة، بذل الشهيد من وقته ومن نفسه ومن عقله ومن كل ما يملك، الجهود المتواصلة في سبيل نهضة جيل إسلامي يأخذ نفسه بالإسلام، ويهدي الآخرين إلى سعة الإسلام ورحمته.

ومن فضائل الشهيد صلاح حسن أنه كان يقرن القول بالعمل، والأمنية بالتطبيق، ومن ثم شرع - وهو يتحدث عن مخاطر الغزو التربوي - في كتابة هذه القصة التي تغرس في نفوس الناشئة وعقولهم - بأسلوب عصري جذاب - قيم الإسلام ومثله.

وهنا ينبغي توضيح حقيقة أخرى تربط بين القصة.. وبين استشهاد صاحبها الشهيد صلاح حسن.

كان يعتقد أن اليهود هم وراء إفساد أجيالنا، وهم الذين خططوا لهذا الهجوم التربوي والعقائدي والثقافي والفكري على عالمنا الإسلامي؛ لكي يجردوا أمتنا من أقوى حصانات الثبات والدفاع.. من عقيدتها وفكرها.. ومن استعدادها النفسي للتضحية والبذل الغالي.. تمهيدًا للغزو العسكري والسيطرة السياسية والاقتصادية من بعد.

اقتناعه الحقيقي بهذه الحقيقة كان من أقوى الدوافع على كتابة القصة. واقتناعه اليقيني بهذه الحقيقة دفعه إلى حمل السلاح ضد العدو اليهودي.

كتب القصة بقلمه ليدفع عن أمته الهجوم اليهودي في التربية والثقافة والفكر.. وحمل السلاح بيده ليجاهد اليهود الذين يمثلون أكبر خطر في تاريخ أمتنا» انتهى.

يقول جمال النهري - مدير تحرير المجتمع:

«... ثار التراب من الحفرة البسيطة التي كانت ساكنة قبل ساعات. كنا أودعنا جثمان الشهيد الطاهر صلاح حسن في أرض الكويت. حكم الصمت فلم نسمع سوى صوت المعاول وهي تهيل التراب، تابعت العيون النعش الذي حمل الشهيد من أرض فلسطين، وتسابقت الأيدي لحمله ومواراته ليدفن قرب جندي كويتي من لواء اليرموك استشهد في مصر، وهذا صلاح حسن شهيد مصري مغترب لم تطأ قدمه أرض بلاده منذ ستة عشر عامًا يستشهد في فلسطين على مشارف (كفار روبين) ويدفن في مقابر الكويت في أغسطس سنة 1970م فسبحانك ربي!

وقد وقف ابن الشهيد عمرو صلاح حسن وعمره اثنا عشر عامًا فوق كثيب من الرمال تتساقط دموعه وهو يودع أباه الشهيد.

وألقى عبد الله العقيل كلمة وهو مستند إلى سيارة مستشفى الصباح التي حملت جثمان الشهيد إلى المقبرة، وفي كلمته يحكي ما رآه الشهيد في المنام قبل استشهاده من أنه كان يركب قطارًا كان يقوده الشهيد سيّد قطب، ورأى أخاه محمود حسن متعلقًا في إحدى عرباته فكانت هذه الرؤيا بشارة له بالشهادة التي نالها.

وألقى الأستاذ علي الحسن - ممثل - فتح كلمة بالمقبرة، وكذلك تكلم الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وكذا شقيق الشهيد الأخ محمود حسن ألقى كلمة قال فيها: إنني شاركت في حرب فلسطين سنة 1948م وحرب قناة السويس سنة 1951م وفي نفس المعركة مع شقيقي، ولكن الله أكرم أخي بالشهادة ولازلت انتظر» انتهى.

ويقول الشقيق الأصغر للشهيد وهو ماجد حسن:

«... لقد أخرجتنا يا أخي من طبيعة الطين التي خلقنا منها والتي ظلت تأسرنا سنين طويلة فنتثاقل في الأرض ويقعدنا عن الجهاد أرزاقنا.. أهلونا.. أبناؤنا.. أزواجنا.. كانت ظلمة ظللنا نتخبط فيها.. ونحن نجتر ألفاظ الجهاد دون أن نحولها إلى عمل فإذا بك يا صلاح تصفعنا جميعًا وتخرج بنا من أسر وذل الرزق والأهل والأبناء والأزواج وتسبقنا للقاء الله؛ فهنيئًا لك فوزك في ذلك السبق إلى الله. وطوبى لمن لحقك على الدرب وهنيئًا لمن أخلص وعاهد الرحمن في صدق» انتهى.

وقد رثاه الشاعر محيي الدين عطية بهذه الأبيات:

صَمـــــــُوتٌ عَلــــى وَجْهه بَسْــــمَةٌ

وفـــي خَطْــوهِ عَزْمة الواثِقين

وَفِي العَيْن طْيفٌ شَفيفٌ عَمِيقٌ

ذَرَفْنَـــــا عَــلى قَبْـــــرهِ دَمْعَـــةً

فَكنَّـــــا نَسِيــرُ كَــــــألفِ رُفــــــاة

تُرَى هَل سَنَمْضِي عَلى حَالِنا      

تَـــــدقُّ الحَـوَادثُ أبـوابَنَا

وتَلْـــــوي المَصَـــــــائِبُ أعْــــــنَاقَنَا

وَيَقْـــــــذِفُنَا الْـدَهْرُ بِالْنَائِبَاتِ

إلاَمَ وَهَذَا شَـــــــهِيدٌ أَتَــــى

أَتى يُشْـعِلُ الْدِّفءَ في ثَلجنَا

أتَـــى كَيْ يُمَــــزِّق عَـــــنا القِنَاع

لِنُبْصِـــــرَ دَرْبَ الـــــــذِينَ خَلَوْا

وكُنَّـــا ظَنَنَّـا دِمَـــــــانَا تَجِفُّ

فَيَــــــا أَيُّهَـــــــا الْــــــواقِفُونْ عَلى

إِذَا لَـمْ يَكُـــــنْ جَمْعُنَا وَاعِيًا

وَمَــــا لَـــــمْ يَكُـــــــنْ سَــــيْفُنَا قَاطِعًا

فَلـَنْ يَرْويَ الأرْضَ بَعْضُ الدِّمَاء

ولَنْ يُظْهِر الـله أَعْــــــلامَنَا

نَرُوحُ وَنَغْـــــــدُو حَــــيَارَىَ سُكَارَى

ونَــــــنْدَمُ أَنَّــــا أَضَـعْنَا الْجِهَادَ

تُحــدِّثُ قَـــارئهـــــــا بالخـــــــَبَرْ

وفــــــي صَـدْرهِ هَمَسَــــــاتُ وَتَـرْ

وَشَــوْقٌ لِعَـــــــالَمِه المُنتَــظرْ

وَعُــدْنَا نَـــجُرُّ بَقَــايَا العُمُرْ

تُشــيِّعُ حَــــــيًّا حَبَـــــاهُ القدَرْ

تُحَـاصِرُنَا سُـــخْرِيات أُخَرْ؟

ونَغْمــسُ آذَانَنَـــــا فِي الـــــــدُثُرْ

فَيَخْبُوْ مَعَ الدَّمْعِ ومْضُ الشَّرَرْ

فَنَــزْوِي وَيَعْــــــطُبُ فِينَا الْثَمَرْ

ليـكْشِفَ عَــنَ زَيْفِنَا الْمُسْتَتِرْ

يَشُـــــــقُّ الْسُّـــدُودَ لِكَي نَنهمِرْ

ويَنْـــــزِع عَــن نَاظِـرينَا الْسُترْ

وكُنَّــا ظَـــنَنَّاهُ فِيــــنَا انْدَثَرْ

عَلَـــى شَاطِئِ اليَـــــأس أو تَنْحَسِرْ

شَفَـــــا قَبْــــــرِهِ تُمْـــــعِنُونَ النَّظَرْ

ذَكِيّـًا حَـــصِيفًا عَظِيمَ الخَطَرْ

يفــــــلُّ الْحَــــدِيدَ وَيَفْرِىْ الْحَجَرْ

ولَنْ يَنْشُرَ الظلَّ بَعْضُ الشَّجَرْ

ونَـــحْنُ وُقُــــوف عَـــلَى الْمُنْحَدَرْ

تَهِيـمُ خُــــطَانَا وَلا نَعْتــــــَبِرْ

فَحَلّتْ بِـــــنَا عَاقِبَاتُ النُّذُرْ

 

نسأل الله (رحمه الله) أن يتغمد شهيدنا الغالي صلاح حسن وإخوانه الشهداء معه وقبله وبعده برحمته، وأن يوفق شباب الإسلام للالتزام بمنهج الإسلام الحق كتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وأن يكتب لنا حسن الختام، ويلحقنا بالصالحين من عباده، وأن ينزلنا وإياهم منازل من أحب من عباده، فرضي عنهم ورضوا عنه، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 854