محمد بن القاسم الثقفي

أ. محب الدين الخطيب

الاتجاه نحو الشرق:

كانت للإسلام في صدره الأول سياسة عليا فيما يتعلق بالتوغل في الشرق، بعد أن قوّض سعد بن أبي وقاص عرش الأكاسرة، وأطفأ نار المجوسية إلى الأبد، وكان مردّ هذه السياسة إلى أحاديث نبوية جديرة بطول الدراسة والتفكير، منها حديث أم المؤمنين زينب في صحيح ِالبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من النوم محمر الوجه وهو يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من سدّ يأجوج ومأجوج مثل هذه....إلخ) وحديث سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب في صحيح مسلم:

"إن الفتنة تجيء من هاهنا - وأومأ بيده نحو المشرق –". وقد تكلم الحافظ بن حجر عن ذلك في فتح الباري (13:88) وهو موضوع لا يزال إلى الآن في حاجة إلى طول التفكير فيه، وبعد النظر في مراميه. ولذلك كتب أمير المؤمنين عمر إلى القائد الحكيم الأحنف بن قيس - فيما ذكره ابن الأثير في فتح خراسان من حوادث سنة 22هــــــ فأمره بأن يقتصر على ما دون النهر ولا يجوزه، وقال له بالحرف: (وددت لو أن بيننا وبينها بحراً من نار) وقبل ذلك في سنة 15 هـ أراد الأمير القائد المرشد عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو من شيوخ سعيد بن المسيب ونافع بن جبير ومحمد بن سيرين وقال عنه الحسن البصري: ما رأيت أفضل منه، أراد هذا الأمير الداعية وهو وال لعمر على البحرين وعُمان والخليج العربي أن يوجه دعاة الإسلام - من ناحيته - إلى الهند، وبالفعل أرسل أخويه، الحكم بن أبي العاص إلى بروص، والمغيرة إلى خور الديبل، فظفرا وانتصرا، وأرسل جيشاً خفيفاً إلى تانة مستكشفاً، ثم كتب إلى عمر بخطة حربية تبدأ الخلافة بالجري عليها في هذا الوجه. فلامه عمر وكتب إليه : " يا أخا ثقيف، حملت دوداً على عود، وإني أحلف بالله لو أصيبوا لأخذت من قومك مثلهم".

وأنا لا أزعم أن موقف عمر تفسير قطعي للأحاديث التي أشرنا إليها، فعمر كان يحب التأني والتثبت، ولعل من تأنيه وتثبته التوقف في تفسير هذه الأحاديث إلى أن يستنير له طريقها، ولكنها بلا شك كان لها حساب كبير في خطة عمر وسياسته، ولذلك كان قوله فيما يتعلق بالباب وما وراء الباب، وما يتعلق بما وراء النهر وما دون النهر: "وددت لو أن بيننا وبينها بحراً من نار". أما أندونيسيا والهند والسند والأفغان فقد أثبت التاريخ أن في الاتصال بهن وبأمثالهن خيراً كثيراً، ولله الحمد والمنة.

استكشاف المسلمين للهند وفي خلافة أمير المؤمنين عثمان أرسل واليه على العراق – وهو عبدالله بن عامر بن كريز - مستكشفين إلى الهند بإشارة من أمير المؤمنين، وكان يرأسهم حكيم بن جبلة العبدي. فلما عادوا وجههم والي العراق إلى أمير المؤمنين عثمان في المدينة، فقال له حكيم بن جبلة وهو يذكر الهند: "يا أمير المؤمنين قد تعرفتها وتنحرتها".

قال عثمان: فصفها لي؟

قال حكيم: ماؤها وشل، وتمرها دقل، ولصها بطل. إن قل الجيش فيها ضاعوا، وإن كثروا جاعوا.

فقال له عثمان: أخابر أم ساجع؟ قال: بل خابر، فلم يُغزها عثمان أحداً.

وفي أواخر سنة 38 وأوائل سنة 39 توجه إلى ثغور الهند مستكشف آخر من بني عبد القيس أيضاً وهو الحارث بن مرة متطوعاً بإذن من أمير المؤمنين علي، وكان اتجاهه إلى أرض قيقان من بلاد السند عن طريق خراسان، فظفر وأصاب مغنماً، وقسم في يوم واحد ألف رأس. لكن الأمر انتكس عليه بعد ذلك فقتل ومن معه بأرض قيقان إلا قليلاً، وكان مقتله سنة 42.

الطلائع الأولى:

وفي سنة 44 وجه معاوية بن أبي سفيان إلى تلك الجهات قوة منظمة أكثر رجالها من الأزد معقودة اللواء لزعيمهم المهلب بن أبي صفرة، فدخل أرض بنّة - بين كابل والملتان - فشهدت تلك الأودية والجبال من بطولة رجال هذه الحملة ما يعد نموذجاً لأمثالها، الفتوح الإسلامية الأولى، وفيها يقول أحد المجاهدين الذين ساهموا في وقائعها:

والظاهر أن حركات الإسلام العسكرية احتاجت بعد ذلك إلى المهلب في مواطن أخرى، فأرسل معاوية إلى ثغور الهند عبد الله بن سوار العبدي، وهو من سراة الدولة الأموية وكرمائها وشجعانها، فكان معسكره يتنقل في البلاد، وقد أعدّ

فقال فيه أحد شعراء معسكره:

 و(السغب: الجوع) فكانت الآفاق التي ينزلها ابن سوار جيشه لا تعرف الجوع ولا الجبن ولا التردد في الحق والخير. وقد منع ابن سوار أن توقد في آفاقه نار للطعام غير ناره، فكان في مسيرها مبشراً بهداية الإسلام، وكرم أخلاق العرب، ومحققاً للمثل العليا في الحركات العسكرية النبيلة، ولم تطل مدة هذا المحارب للجوع وللباطل، فقد قتله بعض الترك غيلة، وكانت منيته في بلاد الديار، رحمه الله ورضي عنه.

الآن ولما بلغ معاوية خبر اغتيال ابن سوار، أمر زياداً بأن يسير جيشاً من العراق إلى الهند، فبعث بقوة على رأسها سنان بن مسلمة بن المحبق الهذلي، وكان فاضلاً متألهاً، ففتح مكران عنوة ومصرها وأقام الشرع وضبط البلاد. ثم تولى هذه الجهة بعده راشد بن عمرو الجديد من الأزد. ثم جد الجد في ثغور الهند فأرسل زياد ابنه عباداً وجعل طريقه إلى الهند من " سناروذ" إلى " كهز" حتى " روذبار" من أرض سجستان، ومنها دخل الهند فنزل " كش" وأتى " قندهار" ففتحها، وقد سجل الشاعر العظيم يزيد ابن مفرغ بطولة هذا الجيش بقوله:

وأردف زياد بعد ابنه عباد قوة بقيادة أبي الأشعث المنذر بن الجارود العبدي، ففتح " قصدار" ومات بها، فقال أحد شعراء جيشه:

وتولى القيادة والولاية بعده على فتوح الهند أيام عبيد الله بن زياد حري بن حري الباهلي، فاتسع في الفتوح.

ومن تلك الأيام رسخ الإسلام في البوقان، وافتخر أحد مجاهدي جيش ابن حري بمواقفه في الدفاع عن الحق فقال:

الحجاج بن يوسف وجهاده في الهند:

ولما صار أمر العراق والمشرق إلى رجل الدولة الحجاج ابن يوسف الثقفي، كان ميدان الهند قد تحول من ساحة استكشاف واختبار عسكري، إلى أرض استقر الإسلام ببعض زواياها وصار له رجاء بالازدهار فيها، فاستعمل الحجاج على هذه الجبهة العسكرية سعيد بن أسلم بن زرعه الكلابي، وقتل هذا في حادث فردي، فأرسل الحجاج مجاعة بن سعر السعدي، ففتح طوائف من قندابيل وخلدّ الشعر العربي جهاده بقول أحد المجاهدين معه:

ولكن المنية لم تمهل هذا المجاهد غير سنة واحدة، فدفن بمدينة مكران وخلف على القيادة في الهند بعده محمد بن هارون بن ذراع النمري، وكان في جزيرة الياقوت من جزائر الهند نسوة مسلمات ولدن في تلك الجزيرة من آباء من العرب المسلمين قدموا إلى الهند تجاراً ودعاة قبل أن يصلها المجاهدون والفاتحون فأراد ملك جزيرة الياقوت أن يتقرب إلى القائد العربي محمد بن هارون النمري وإلى أستاذه الحجاج بن يوسف، فأحضر سفينة ووضع فيها هؤلاء النسوة المسلمات وقال لمحمد بن هارون: هذه هديتي إلى أميرك الحجاج بن يوسف.

ومخرت السفينة متجهة نحو سواحل العرب، فخرج قرصان من ميد الديبل في بوارج، فأخذوا السفينة بمن فيها، فنادت امرأة منهن، وكانت تميمية من بني يربوع:

- يا حجاج!

وطار الخبر إلى الحجاج باستغاثتها، فأجابها من وراء البحار والجبال:

- يا لبيك؟

وكتب إلى الراجه داهر أمير الجهة التي وقع الاعتداء في ساحلها يسأله تخلية النسوة، فكتب إليه الراجه: إنما أخذهن لصوص لا أقدر عليهم.

فأغزى الحجاج عبيد الله بن نبهان بلاد الديبل، فقتل فيها شهيداً. واستطال الحجاج المسافة بينه وبين الهند؛ فأمر والي عُمان بديل بن طهفة البجلي بأن يسير بنفسه وبكل من عنده من رجال الحرب حتى يأتي الديبل ويؤدب طغاتها وعلى رأسهم الراجه داهر، وأسرع إليهم بديل بن طهفة فحطمهم بخيله وسيوف المجاهدين

معه، إلا أن فرسه نفر به وهو في معمعة القتال فأطاف العدو به وقتلوه، فكان الشهيد الثاني من القادة السادة المدفونين في تلك الأرض.

أصغر قادة الجيوش سناً:

ووصل النذير إلى الحجاج بمقتل قائده فنشر كنانته بين يديه، واختار منها أصغر قائد في الأرض يومئذٍ، وهو تلميذه وابن عمه محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل بن عمرو بن مسعود الثقفي، وكان محمد بن القاسم هذا عندما وقع عليه اختيار الحجاج لهذه المهمة صبياً في السادسة عشرة من عمره، ولم يكن الحاج يعبث أو يهزل ساعة توسم هذا الغلام بفراسته، فالحجاج لا يعرف العبث ولا الهزل، بل كان ملتهب القلب بنداء تلك العربية من بني يربوع يوم هتفت " يا حجاج"! وزاد قلبه سخطاً وغضباً، جواب الراجه داهر بأن البغاة على النسوة العربيات لصوص، وزعَمه أنه لا يقدر عليهم، ثم تحول الحجاج نقمة إلهية على الشر وأهله لما جاءه خبر استشهاد قائديه عبيد الله بن نبهان وبديل بن طهفة، فكان اختياره لهذا القائد وهو في ميعة الصبا اختيار الخبير الذي يكتشف الرجولة في قلوب أصحابها من قبل أن يعرفها أصحابها في أنفسهم. وهكذا رمي الحجاج الراجه داهر بهذه الصاعقة القاصمة لظهور المبطلين، الرحيمة بالوادعين والآمنين ووقف في دار إمارته فيما بين دجلة والفرات يترقب نجاح فراسته في فروسية ابن عمه الصغير، فكتب إليه - وكان بعيداً عنه في أرض إيران - يأمره بأن يتخير من أبطال الحاميات العربية في الأصقاع الإيرانية من يقع اختياره عليهم، واختط له خطة السير أولاً إلى مدينة الري، وهي مدينة طهران الآن، وجعل رياسة أركان حربه إلى أبي الأسود جهم بن زحر الجعفي، وأمرهما إذا وصلا إلى شيراز أن يتريثا لأنه سيلحق بهما نجدات أخرى، ولم يبلغا شيراز حتى دنت منهما قوة انتخبها الحجاج من أشجع أبطال جيوش الشام، وكانت لا تزيد على ستة آلاف فارس لكنهم يظنون بأنفسهم أن فيهم القدرة على افتتاح الكرة الأرضية وبسط سيادة الإسلام على كل من فيها لو أمرهم خليفتهم بذلك. فانضم الجيش الصغير إلى ذلك القائد الطفل وحرص الحجاج على أن يجهزهم بكل ما يحتاجون إليه، حتى الخيط والإبرة، وحتى الخل احتال الحجاج عليه فأتي بالقطن النظيف المحلوج فأمر بغمسه في الخل الحاذق وجفف في الظل حتى تبخر ماؤه وبقيت فيه مادة الخل مجففة، وعلمهم إذا احتاجوا إلى الخل أن يغمسوا القطن الجاف في الماء فيكون منه بعد تصفيته أحسن الخل وأجوده. وهكذا طارت هذه الحملة العسكرية بعددها، المستوفية لحاجتها، القوية بعزائمها التي تهد الجبال، حتى اجتاز محمد بن القاسم حدود إيران إلى الهند وانتقل من " مكران" التي كانت بيد المسلمين إلى " قنذبور" ففتحها، ثم إلى " أرمائيل" فاستولى عليها، ثم وصل إلى " الديبل" التي وقع منها العدوان على نساء العرب، فوجد الحجاج قد أرسل إلى سواحلها سفناً بالرجال والسلاح والأداة والمؤن، فخندق محمد بن القاسم حول الديبل، وركز جيشه رايات الإسلام على الرماح على طول الخندق الذي تحصن وراءه الأبطال الذين لم تر الدنيا بطولة أعظم من بطولتهم. وكان مما بعث به الحجاج إلى هذا الجيش منجنيق عظيم يسمونه (العروس) بلغ من ضخامته أن كان يحتاج إلى قوة خمسمائة رجل لقذف الصخور الضخمة منه إلى الحصون لتحطيمها. وكان في مدينة الديبل (بد) عظيم هو صنم ذلك البلد يقوم عليه شبه منار يعلوه دقل طويل تخفق عليه راية حمراء عظيمة جداً إذا هبت عليها الريح أطافت بالمدينة. وكان الحجاج قد تلقى من محمد بن القاسم وصف ذلك من اليوم الأول الذي وصل فيه إلى الديبل، فكتب إليه الحجاج رسالة يأمره فيها بأن يقصر من المنجنيق قائمة وأن يوجهه إلى المشرق، ويقصد برميه الدقل القائم على الصنم، ولما فعل المجاهدون ما أشار الحجاج به عليهم في رسالته، تكسر الدقل من القذيفة الأولى، وسقطت راية البد ذليلة ممزقة، فحنق الوثنيون على الجيش المحاصر، وخرجوا لقتاله، وكان ذلك ما أراده الحجاج من توجيه قذيفة المنجنيق إلى منارة (البد) والراية القائمة عليه، فلقيهم محمد بن القاسم بأبطاله، وأخذهم بالسيوف فمزقهم الله كل ممزق. وفيما كان الوثنيون في رعب الهزيمة، كان المجاهدون يتسلقون سلاليم نصبوها على الأسوار، فدخلوا المدينة عنوة، وبقي الدقل المكسور على منارة البدّ في مدينة الديبل من أيام الحجاج بن يوسف إلى خلافة المعتصم بالله، ثم هدمت المنارة وما تحتها زمن المعتصم واتخذ مكانها سجن للبلد.

وانتقل محمد بن القاسم من " الديبل" إلى مدينة " بيرون" التي نبغ منها أيام الأمير محمود بن سبكتكين حكيم الإسلام أبو الريحان البيروني أعظم البشر عقلاً فيما يعتقده المستشرق الألماني سخاو، فكان من أثر دخول " بيرون" في ملة الإسلام على يد محمد بن القاسم الثقفي افتخار الحكيم الأعظم أبي الريحان البيروني بعربيته وإسلامه، إلى درجة أنه كان يفضل أن يهجى بالعربية على أن يمدح بالفارسية.

مقتل الراجه داهر:

وجعل محمد بن القاسم لا يمر بمدينة إلا فتحها، حتى عبر نهراً دون "مهران" فأيقن داهر من استسلام البلاد لهذا القائد الفتى، وأن الملك قد خرج من يده إن لم يجرب حظه للمرة الأخيرة فيجمع جميع قواه ويلقى المسلمين بوقعة فاصلة، وكانت تلك الوقعة، فحضرها وهو على فيل وحوله الفيلة، فاقتتل الفريقان قتالاً لم يسمع بمثله على ما يقول أبو الحسن البلاذري - وهو من أقدم مؤرخي الفتوح وأدقهم وأصدقهم - فما كان المساء حتى بات السيف العربي في أحشاء الطاغية داهر، ويقول المدائني إن قاتله من بني كلاب، وسماه ابن دريد في كتاب الاشتقاق (ص 236) القشعم ابن ثعلبة الطائي، ونقل البلاذري في فتوح البلدان (ص 426) عن ابن الكلبي أنه القاسم بن ثعلبة بن عبد الله بن حصن الطائي، وهو القائل:

ويروي البلاذري عن منصور بن حاتم أن الهنود صوروا داهر وقاتله، وصورتهما كانت في بروص وأنهم صوروا بديل بن طهفة وصورته كانت في قند، وقبره بالديبل.

فلما تم لمحمد بن القاسم قتل داهر غلب على بلاد السند، وانضمت السند إلى الوطن الإسلامي من ذلك اليوم، ولذلك كانت نسبة الإسلام في أهلها الآن أعظم من نسبته في أي قطر من أقطار "دولة باكستان"، التي كتبت هذا الفصل احتفالاً بمرور الأسبوع الأول على قيامها ابتهاجاً بهذا الحادث العظيم في تاريخ الإسلام الحديث.

الاستيلاء على ملتان:

ومضى محمد بن القاسم يطهر أرض السند من سلطان الكفر والشرك، إلى أن قطع نهر "يباس" إلى "الملتان،" فقاتله أهلها قتالاً شديداً، وأبلى في ذلك زائدة بن عمير الطائي، وانهزم المشركون فتحصنوا في المدينة، ونفد زاد محمد بن القاسم وجيشه فأكلوا الحمير، واستعانوا بالله فهداهم إلى مدخل الماء إلى المدينة، فقطعوه عنها فاضطر المشركون الذين فيها إلى الاستسلام، وكان فيها (بد) تُهدى إليه الأموال وتنذر له النذور ويحج إليه أهل السند، فجمع محمد بن القاسم ما هناك من الذهب والأموال وجعل يودعها في بيت مساحته عشرة أذرع في ثماني أذرع، وكان جباة الأموال يلقونها فيه من فوهة في سطحه، فسميت الملتان (فرج بيت الذهب) وأحصوا ذلك المال فبلغ مائة وعشرين مليون درهم، ولما أرسل به إلى الحجاج حسب ما أنفقه على حملة محمد بن القاسم، فبلغ ستين مليوناً، فقال الحجاج "شفينا غيظنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر".

عاقبة محمد بن القاسم:

إذا كان من حسنات الحجاج أنه رجل دولة من الطراز الأول إلى حد أن الخلفاء الأولين في دولة بني العباس كانوا يحسدون عليه خلفاء بني أمية من صميم قلوبهم، فقد كانت له سيئات لا يجوز لغير عمر بن عبد العزيز وأمثاله أن يشهروا بها، لأن الساسة والمؤرخين - من غير طراز عمر بن عبد العزيز - لو كانوا في مركز الحجاج لا يبعد أن يصدر عنهم الكثير من سيئاته، ولا يستطيعون شيئاً من حسناته. وكان من حسنات الحجاج اكتشافه رجولة الرجال، وتعهده الرجولة فيهم بالتربية والتشجيع، فكانت الدولة في زمنه غنية بالرجال الذين تتمنى مثلهم أعظم دول الأرض في كل عصر. إلا أن من سيئاته الإسراف فيما يحسن الاعتدال فيه، من ذلك تدخله في شؤون لا يسامحه التاريخ بالتعرض لها، كإقحامه نفسه في أمر ولاية سليمان بن عبد الملك العهد بعد أخيه الوليد، فكتب إلى قائدنا البطل الفتى محمد بن القاسم أن يخلع سليان باسم الجيش الذي تحت قيادته، وما كان لمحمد بن القاسم أن يخالف الحجاج، وهو أميره من جهة، ورأس أسرته من جهة، فضلاً عن كونه مديناً له بوجوده السياسي والعسكري في الدولة.

وبعد أن أعلن محمد بن القاسم خلع سليمان بن عبد الملك من ولاية العهد مضت الأيام وحلت سنة 96 فتبوأ سليمان الخلافة ومن بديهيات الأمور معاقبة كل من له يد في الخلع، فصدر أمر الخلافة من دمشق بولاية يزيد بن أبي كبشة السكسكي على السند، وحمل هذا الفتى البطل - محمد بن القاسم - مقيداً مع معاوية بن المهلب، فقال محمد متمثلاً:

قال البلاذري: فبكى أهل الهند على محمد بن القاسم، وصوروه بالكيرج - الجص - ولما وصل من السند إلى العراق كان الأمير على خراجها صالح بن عبد الرحمن، وهو من موالي تميم، وكان الحجاج قتل أخاه آدم بن عبد الرحمن، لأن آدم كان يرى رأي الخوارج، فانتهز صالح التهمة الموجهة من الخلافة إلى محمد بن القاسم فحبسه في واسط وأساء إليه فقال محمد:

وتغنى مرة وهو يتقلب في محبسه:

وأصدق ما وصف به محمد بن القاسم الثقفي قول حمزة بن بيض أحد شعراء بني حنيفة:

وقول غيره من معاصريه:

ذكرى محمد بن القاسم:

وبعد فإني إذا ذكرت قراء العربية محمد بن القاسم لا أذكرهم ببطل تستم ذروة البطولة وهو في ميعة الصبا، ولكني أذكرهم بحامل رسالة الإسلام إلى الهند، حتى كان منهم للإسلام ربع عدد أهله في هذا العصر أو خمسهم على أقل تقدير. وأجمل ما نذكر به هذا البطل عندما توجى الله الدعوة التي حملها إلى الهند بإقامة دولة للإسلام في الهند لعلها - إذا أحسنت السير في طريق الإسلام الصحيح - أن تكون خير دولة عرفتها تلك البلاد العريقة في القدم. وقد عرفنا مسلمي الهند أوفياء للإسلام، ومن حسن وفائهم أن يحسنوا تأسيس دولتهم على قواعده لنخجل نحن من أنفسنا فنعود إلى قواعد الإسلام، ونتخذ منها أساساً لأوضاعنا ومستقبل كياننا، والله الهادي.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وسوم: العدد 855