حسن البنا في عيون العلماء والأبناء والمريدين

سيف الإسلام حسن البنا

الإمام الشهيد حسن البنا

جوانب شخصية يرويها "سيف الإسلام حسن البنا"

(1)

كان الأب والمربي والزوج والإنسان..

الأستاذ (أحمد سيف الإسلام حسن البنا).. هو الابن الوحيد الذكر لوالده، ولد في 22 من نوفمبر سنة 1934م، وحصل على ليسانس الحقوق سنة 1956م، وليسانس دار العلوم سنة 1957م، وتربطه بوالده – كما يقول فضلاً عن رابطة البنوة التي يعتز بها – رابطة الأبوة في الدعوة والجندية، ويقول عن نفسه: إنني – والحمد لله – جنديٌ في دعوة (الإخوان المسلمين) قبل أن أولد.

يقول (سيف الإسلام).. إن ما يعلمه الناس من أمر الإمام الشهيد "حسن البنا" أقل بكثير من حقيقته، وباطنه أفضل آلاف المرات من ظاهره، هو شخصية واحدة داخل بيته وخارجه، قدوة حسنة لكل أفراد أسرته ولكل إخوانه في جماعة (الإخوان المسلمين).

الرجل المؤمن

من أقوال الإمام الشهيد "حسن البنا" رحمه الله: "إذا وُجد الرجل المؤمن وُجدت معه عوامل النجاح"..

يقول الأستاذ "سيف الإسلام" معلِّقًا: إن هذه الجملة أشدُّ ما تنطبق على الإمام نفسه؛ لأن وقته - رضي الله عنه- كان فيه بركة كبيرة، وإن العمل الذي يُستغرق في ساعات كان الله ييسره له في دقائق، ومع توافر الإخلاص يستطيع كل أخ أن يقوم بأعمال جمَّة في وقت يسير.

كان- رحمه الله- مثلاً أعلى في كل ما يصدر عنه؛ لإتقانه وحسن دراسته للقرآن الكريم، ولتمسكه الشديد بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ نشأته الأولى في بيئة دينية وعلمية، وكأنما هيأه الله- سبحانه وتعالى- للدور الذي رسمه له في حياته بعد ذلك.

ونستطيع بعد هذه المقدمة أن نقول إن الإمام "حسن البنا" قد خُلق ليكون قدوةً صالحةً في كل أمر من أموره بما أخذه على نفسه من إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

***

اهتمامه بأبنائه

وعن اهتمام الإمام الشهيد بأبنائه ورعايته لهم يقول الأستاذ "سيف الإسلام":

(.. لا أزيد أو أبالغ في أمر من الأمور حينما أذكر أن الإمام "حسن البنا" كان رب أسرة مثالياً.. منذ أن وعيت لم أشعر يوماً- سواء في طفولتي أو صباي- بأنه قصَّر في العناية بنا أو الاهتمام بأمورنا، بل لعلنا نعجب حينما نشعر أننا لم نصل إلى درجة في مثل هذه العناية.

كان لكل ابن منا من أبنائه حينما يولد (دوسيه) خاص، يكتب فيه الإمام بخطه على وجه الدقة تاريخ ميلاده، ورقم قيده، وتواريخ تطعيمه.

ويحتفظ بجميع الشهادات (الروشتات) الطبية التي تمت معالجته بها، بحيث إذا أصيب أي منا بمرض استطاع أن يقدم للطبيب المعالج هذه الشهادات مسلسلة بتواريخها، ويرفق مع كل شهادة ملحوظة عامة، ثم ما أخذه من دواء ولمدة كم يوم؟ وكم استغرق هذا المرض؟ وهل أكمل الدواء أم لم يكمل؟

وكذلك شهادات الدراسة كان والدي- رحمه الله- يضعها أولاً بأول في هذا الدوسيه مسجلاً عليها بعض الملاحظات، مثل: "سيف" يحتاج إلى التقوية في كذا، وضعيف في كذا.. "وفاء" تحتاج إلى المساعدة في مادة كذا.. وهكذا وبالجملة كان ما يختص بأحد أبنائه.

***

حسن البنا رب أسرة

كذلك كانت عناية الإمام الشهيد "حسن البنا" بأمور بيته عناية ممتازة، كان يكتب بنفسه الطلبات التي يحتاج إليها المنزل شهرياً، ويدفعها في أول كل شهر إلى أحد (الإخوان)؛ وهو الحاج "سيد شهاب الدين" صاحب محل البقالة الشهير ليوفر هذه الطلبات في كل شهر.

كان - رحمه الله- عطوفاً إلى أقصى درجة، يراعي مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير، كانت لديه القدرة على جعلنا نطيعه دونما حاجة إلى أمر، وكنا نعتبره - بلا شيء- له هيبة دون رغبة في مخالفته.

وأذكر أنه عرض لي بأن دخول السينما أمر لا يليق بالمسلم، فلم أحاول أن أدخل السينما قط، بل ظللت حتى اليوم لم أدخلها، وهذا من قوة تأثيره وجاذبيته.

كان أقصى ما يعاقب به الواحد منا هو قرص الأذن، وفي ذات مرة قرص أذني، وهذا أكبر عقاب وقعه عليَّ - رحمه الله- قرص أذني في الصباح لخطأ ارتكبته، ولكنه اتصل بي تليفونياً في الساعة الحادية عشرة صباحاً ليطمئن علي، وصالحني، وكان لهذا أثر كبير في نفسي.

كان كريماً مع أبنائه.. أذكر أن كل واحد منا كان يأخذ مصروفاً في سنة 1942م، وسنة 1943م ثلاثة قروش، وهذا مبلغ كان يعتبر كبيراً في هذا الوقت؛ لأن زملائي في المدرسة لم يكن الواحد يأخذ مصروفاً إلا ربع قرش أو نصف قرش.

تذكرت هذا حينما قرأت في إحدى المجلات واسمها (مسامرات الحبيب) الحديث الذي أجرته مع والدي، ولا زال هذا العدد عندي.. فقد سألته: هل تدخر شيئاً من مرتبك؟

فقال: إني لا أدخر شيئاً لأنني أنفق كل مرتبي.

فسأله المحرر: كم تعطي لأبنائك من مصروف؟

فقال: ثلاثة قروش للواحد.

هذا بالإضافة إلى بعض المبالغ التي كان يعطيها لنا في يوم الجمعة، ويطلب منا توزيعها على بعض الفقراء في المسجد، وقد يكون هذا خمسة قروش أو عشرة قروش لا أذكر هذا بالضبط.

ولعلي أدركت بعد مرحلة معينة من السن أنه - رضي الله عنه وأرضاه- كان يتابع كل تصرفاتي متابعة دقيقة، ولكن دون أن ألاحظ ذلك إلا عندما كبرت.

***

طريقته في التربية

(.. ذكر أنه في إحدى السنوات نقل جزءاً من مكتبة البيت إلى مقر مجلة الشهاب، واشترى عدة مكتبات جديدة للمنزل، وكان نصيبي من هذا التغيير أن فزت بمكتبة صغيرة أهداها إليَّ الوالد، ومنحني مصروفاً زيادة قدره خمسون قرشاً كل شهر لشراء الكتب بمعرفتي وتكوين مكتبة خاصة بي.

وبحكم سني في ذلك الوقت، فقد اشتريت عدة كتب من (درب الجماميز)، ومنها روايات عن المغامرات البوليسية لـ "أرسين لوبين" و"شارلوك هولمز" وغيرهما، وحينما جاء الوالد متأخراً بالليل وجدني ساهراً أقرأ في هذه الروايات باهتمام شديد.. تركني ولم ينهني عن قراءتها، ولكن حينما انتهيت من قراءة هذه الروايات قال: سأعطيك شيئاً أحسن منها، وبدأ يغذيني ببعض الكتب، منها: سيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، وبعض روايات البطولة الإسلامية، ثم بعد ذلك دفع إليَّ بكتاب سيرة عمر بن عبدالعزيز- رضي الله عنه وأرضاه- وغيره من الكتب المفيدة، وشعرت في هذه الأثناء أنه يتابع قراءتي بدقة رغم انشغاله بأمور الدعوة.

وكان من عادته - رحمه الله- أن يعتمد في تربيتنا على الأسلوب غير المباشر؛ أسلوب التعريض دون الطلب.. وكان في كثير من الأوقات، وخصوصاً في رمضان، إذا حضر المنزل واستراح قليلاً يستيقظ قبل المغرب بساعة تقريباً، ويدعوني أنا والأخت الكبرى "وفاء" بدعوى أن نُسمِّع له القرآن الكريم.. فكنا نمسك المصحف، وننظر فيه، ووالدي يُسمعنا.. وكان قد يسهو علينا أن نتابعه، فكان يشير إلى الصفحة التي يقرأ فيها ويقول: "أنا أقرأ هنا".. وقد أدركت لما كبرت أن غرضه - رحمه الله- من هذا العمل هو تعليمنا من حيث لا ندري ولا نشعر كيف نتلو القرآن!

وأذكر وأنا صغير في المرحلة الابتدائية أن والدي- رحمه الله- قال: "على كل فرد أن يتقن حرفة، وكان- رحمه الله- يتقن إصلاح الساعات، فأخذني ذات مرة في الإجازة الصيفية، ودفع بي إلى مطبعة (الإخوان المسلمين)، وطلب من مديرها الأخ "سيد طه" أن يتولاني برعايته، ويعلمني شيئاً؛ وذلك لحرصه على تطبيق السنة: "إن الله يحب المؤمن المحترف"، ولا أتجاوز إذا قلت: "إن هذه الفترة القصيرة نفعتني كثيراً في حياتي العملية بعد ذلك".

***

حسن البنا.. الزوج وإكرامه لأهل زوجته:

ولقد كان والدي - رحمه الله- يحرص على تطبيق السنة تطبيقاً متناهياً، وحينما تزوج حرص على أن يعرف أقارب زوجته فرداً فرداً، وكل من يربطه بزوجه صلة رحم، وأحصاهم عدًّا، وزارهم جميعاً، ووصلهم جميعاً رغم بُعدِ أماكنهم، أو بعدهم بعضهم عن البعض بسبب الظروف العائلية المتوارثة كأن يكونوا ليسوا أشقاء مثلاً.. ولكن الوالد- رحمه الله- كان يفاجئ والدتي بأنه اليوم قد زار (فلاناً)، وهذا يمت لها بصلة القرابة عن طريق (فلان) لأنه ابن فلان، وهذا يرجع إلى دقته المتناهية في الالتزام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان - رحمه الله- رقيق المشاعر.. كان يعود للمنزل دائماً متأخراً بعد انتهاء العمل مع (الإخوان)، وأذكر أن مفتاح المنزل كان طويلاً.. وكنت أسهر في بعض الليالي للقراءة، فكان- رحمه الله- يفتح الباب بالمفتاح الذي معه بمنتهى الدقة والهدوء؛ حتى لا يزعج أحداً من النائمين، فكنت أفاجأ بدخوله.

كان يدخل البيت فيطمئن على غطاء كل الأبناء، وقد يتناول عشاءه الذي يكون معداً على المائدة ومغطى، دون أن يحرص على إيقاظ أمي أو أحدٍ من أهل البيت لحضوره في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

***

معاملته مع الخادمة

كان يتواجد في المنزل خادمة صغيرة تساعد الوالدة في شؤون المنزل.. وكان لكل منا سرير مستقل ودرج مستقل في دولاب واحد.. وكان للخادمة أيضاً سرير مستقل ودرج في نفس الدولاب، وكان أبي يكلف الشقيقة الكبرى الأخت "وفاء" بأن تعلم هذه الخادمة في المساء القراءة والكتابة، وأن تعلمها الصلاة.

وأذكر أن أبي في إحدى المرات قد ذكر لنا- عندما عاد إلى المنزل- أنه قد زار (فلانة) إحدى الخادمات بمنزلها بعد زواجها، وكانت قد خدمت بمنزلنا فترة من الزمن، وذلك حينما كان يزور بلدتها في المنوفية.

***

حوار مع الوالد

ويختتم الأستاذ "سيف الإسلام" ذكرياته عن حياة والده الخاصة بقصة حوار دار بينه وبين والده على الغداء فيقول:

لقد عاصرت والدي الإمام الشهيد - رحمه الله- لمدة عامين وأنا طالب بالمرحلة الثانوية، وكان دخول المرحلة الثانوية هو الميلاد السياسي للشاب في ذلك الوقت؛ لأنه يستطيع أن يشترك في الجمعيات أو الأحزاب، وأن يطبع كارت يكتب عليه اسمه وتحته لقب طالب ثانوي، وأن يشترك في المظاهرات، وقد انضممت إلى قسم الطلاب في هذه المرحلة، وأذكر أن الذي كان يرأسه في ذلك الوقت الأستاذ "فريد عبد الخالق"، وكان زملائي في القسم مجموعة من طلاب مدرسة ثانوية، وكان مقرها بشارع إلهامي بالجمالية بالقرب من المركز العام للإخوان المسلمين، وكنت بطبيعة الحال أشارك مع الإخوة في هذه المدرسة في نشاط قسم الطلاب، وكنا ندير بالمدرسة مناقشات حول قضايا، معظمها في المسألة الوطنية، وقضية وادي النيل، وإخراج الإنجليز من مصر والسودان، والوحدة بين مصر والسودان.

وحينما كنت أعود للمنزل وأتناول الغداء مع الوالد كنت أسأله عما يجري ويحدث في المدرسة من مناقشات.

وأذكر أنني سألته مرة سؤالاً صريحاً: وماذا سنفعل مع الإنجليز إذا لم يخرجوا من مصر؟ فقال الوالد: سنرسلك مع كتيبة لإخراجهم بالقوة، وقد رددت عليه حينئذ ببيت عنترة بعد أن غيَّرت فيه الضمير، وقلت له:

وسيفك كان في الهيجا طبيباً     يداوي رأس من يشكو الصداع

وقد نلت في ذلك الوقت قبلة على جبيني لا زلت أتحسس موضعها حتى الآن.

فقد كنت على وعي تام بما يجري في هذا الوقت من أحداث وأمور سياسية، من واقع النضج السياسي الذي كانت تعيشه المدرسة الثانوية آنذاك، والتي كانت تتمثل فيها كافة طوائف الأحزاب الموجودة على الساحة في ذلك الوقت، وأبرزهم (الإخوان) والوفد..

لقد كان طلاب المدارس الثانوية في ذلك الوقت يتجاوبون بشدة مع الأحداث التي تجري في مصر والعالم الإسلامي، حتى تسارع المدرسة الثانوية التجاوب معه بالإضرابات والمظاهرات.