الاتجاه الإسلامي في شعر أنور العطار

عمر محمد العبسو

شاعر من سورية ، بحتري الأسلوب ، تعرض للإهمال والنسيان من القريب والبعيد ، ومن العدو والصديق ، ويدلل على هذا النسيان أن أعماله الشعرية لم تر النور ، وديوانه في ظلال الأيام لم يطبع منذ 1948م ، ولم يتناول النقاد شعره بالدراسة ، فضلاً عن تأليف الرسائل الجامعية عن حياته ، ودراسة شعره ، وعندما رأيت هذا الإهمال المتعمد ، أشهرت حسام الفكر ، وجردت القلم من غمده ، ورحت أخط هذه الكلمات عن شاعر الطبيعة والجمال أنور العطار ، رغم شحّ المصادر وندرة المراجع ، ولكن حسبي قول علمائنا : ما لا يدرك كله ، لا يترك جله .

- ولادته :

ولد أنور بن سعيد العطار : في (( دمشق )) عام 1908م ، وقيل : إنه من مواليد 1913م .

ونشأ إبان الحرب العالمية الأولى في ظل أسرة دمشقية مسلمة ، وشهد حياة دمشق في عهد الدولة العثمانية ، والحكم الفيصلي ، و من ثم عاش فترة الانتداب ، حيث هجم المستعمر الفرنسي بقضه وقضيضه ، فاحتل درّة الشرق ، وأرض الرباط ، وموطن المحشر والمنشر ، وبسط سلطانه على ربوع سورية الحبيبة .

- دراسته :

- درس الشاعر أنور العطار في ( مكتب عنبر ) في دمشق ، إبان أزمة الصراع بين الإمبراطورية العثمانية والأمة العربية ، وكان في مطلع حياته ولوعاً بالرياضيات .

- الوظائف التي تقلدها :

عمل معلماً ومدرساً للغة العربية وآدابها في سورية ثم في العراق ، ثم عين مديراً لمدرسة قرية منين

، وأصبح مفتشاً للأدب العربي بوزارة التربية في سورية  .

- اتصل بالكاتب والمفكر محمد كرد علي ، ومعروف الأرناؤوط ، ومجلة الزهراء التي كان يرأس تحريرها العلامة محب الدين الخطيب ، ورافق علي الطنطاوي في دمشق ، وفي بغداد أثناء التدريس . أحدهما يكتب والثاني ينظم .

- وفاته :

و توفي عام 1972م عن عمر ناهز 64 عاماً .

- وله من الدواوين :

1-             ظلال الأيام – صدر في دمشق عام 1948 م . وانطوى على الشعر الحماسي والوصفي والوطنيات .

2-             البواكير .

3-             الأشواق .

4-             منعطف النهر .

5-             الليل المسحور .

6-             وادي الأحلام .

- وله من الكتب :

1- الوصف والتزويق عند البحتري .

2- أسرة الغزل في العصر الأموي .

3- خير الدين الزركلي : دراسة .

4- نثر أحمد شوقي : دراسة . (1 )

-شاعريته :

وأنور العطار أشبه الشعراء بالبحتري من حيث رقة أسلوبه ، وميله إلى الوصف .

فقد امتاز بوصف الطبيعة ، والتغني بسحر دمشق ، وحسن غوطتها بروح غنائية محببة .

وهو يحرص على حلاوة الجرس ، وجمال الإيقاع أكثر مما يعنى بطرافة المعنى وجدة الصورة .

يعدّ من المدرسة المحافظة التي تشربت الشعر القديم ، ودأبت على النسج على منواله .

وأنور العطار كشعراء وطنه محب للطبيعة . متطلع إلى الحياة . حفظ في مطلع حياته أكثر من عشرة آلاف بيت من جياد أشعار العرب ، فجاء أسلوبه كالماء الصافي ، فيه عذوبة ولين ، وفيه تدفق ومضاء ، أحب الطبيعة وبردى وأحب لبنان ، وقال فيها فنوناً من الشعر كما أحب دمشق وبغداد ودجلة والبصرة وغوطة دمشق ، ونظم فيها شعراً جيداً .

أحب في أول عهده الأراجيز ، ونظم فيها كثيراً من شعره .

حالف العطار الحزن والأسى في أغلب شعره ، وخلد مظاهر الأسى في النفس ، قال من قصيدة:

قلم صاغ رائعـات المعاني      وجلاها مثل الضحى اللماحِ

يطرف النفس الجديد ابتداعاً     ويحامي عـن النهى ويلاحي

هو من نفـح خافق عبقريٍّ      وهـو من فيض خاطرٍ سماحِ

تتهامى من سنه صيحة الحق         فيزهى بذوده والكفـاحِ – ( 2 ) تاريخ الشعر العربي الحديث : ص 204 ، 205 .

الاتجاه الإسلامي في شعر أنور العطار :

أنور العطار شاعر إسلامي ، نشأ في أسرة متدينة ، ورافق العلماء ، وتربي في مساجد دمشق ، لذلك لا نستغرب أن تشغل الموضوعات الإسلامية مساحة واسعة من شعره ، ومن ذلك :

- مولد نبي الهدى ونشأته المباركة  :

- تتراءى ليلة المولد النبوي الشريف للشاعر أنور العطار من خلال سبحاته الشاعرة مهرجاناً من الأنوار ضم الوجود أرضه وسماه احتفاء بولادة النبي – صلى الله عليه وسلم – ونفحات بشرى تشرق بنور الهدى ، فتمسح عن النفوس مظالمها وأوصابها ، وتنقي الروح الإنسانية من الأحقاد والضغائن :

حفلت بالطيوب فالعالم الواســع حقـل من الأزاهير فاغم

والنجوم المفضضات عيون        شاخصات والكائنات مباسمْ

طفح الكون بالهدى والمروءا       ت وماجت رحابه بالمكارم

فمن الحامل البشائر للأر         واح من ذلك الحبيب القادمْ

وهب البرء للنفوس الوجيعا      ت ونحّى عن الحيـاة المظالمْ

وأعاد الإنسان روحاً نقيّاً        خالصاً من أحقاده والسخائمْ

- وتبعثه روحه الشاعرة أن يتوجه إلى النبي بالنجوى ، فيغمس قريضه في سنا نداه ليصوغ منه الملاحم والأناشيد ...

صفـوة الخلق أي نور على الأفـــــق بهي جمّ التلاميع حائم

سطعت من سناك هذي السموا          ت ورفّت بك الدّنا والعوالم

أنت نجوى الأرواح في كل جيل        وشعاع الهدى وروح النواسمْ

لأصوغنّ من نداك الأناشيـــــد وأفتنّ في ضـروب الملاحمْ

- ويطيب للشاعر وهو يرعى نشأة النبي أن يتوقف عند غار حراء ، حيث كان النبي يخلو إلى ربه ، بعيداً عن شرور الحياة ولوثاتها ، فإذا بالغار منضج نبوة ، ومبعث وحي ، ومنطلق نور ، ويختال بمكانه على النجم سمواً وإشراقاً :

لذتَ بالغار تتقي شرّة النا          س وتنسى العدوان من كل ناقمْ

وتناجي ربّ السموات لهفا         ن و تعنــو لحافظ لك عاصم

وحراء بك استطال على النجــــم وتاهت به الصخور الجواثمْ

يشتهي الخلدُ لو تغلغل فيه            حلـماً فاتن المسـرات ناعمْ

ضمّ في ساحتيه نوراً من الله                أضـاءت به الليالي القواتمْ – ( 3 ) ديوان ظلال الأيام : البرهاني ، دمشق ، 1948 ، ص 93 .

- آفاق البعثة المحمدية :

- يولي أنور العطار اهتمامه ،ويغمس ريشة فنه في تصوير آفاق البعثة المحمدية ما يجلو صفحات الوجود ، وقد عطرت بها السماء ، وأمرعت الصحراء ، وأزهر القفر :

الصحارى تفتحت أحلاما             كرياض تفتحت أكمـاما

عبقت هذه السموات بالعطـــر ورفّ السـنا عليها وحاما

أزهر القفر ، وازدهى الصخرُ الصلد وفاضت منه العيون سجاما

نضرته خلال أحمد ، فاهتزّ              ربيعـــاً مزوّقاً بسّاما – ( 4 ) ديوان ظلال الأيام : ص 85 .

- قيم البعثة الإنسانية :

- يفضي الشاعر أنور العطار إلى بعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم - من خلال إطار من الأطياف ، والرؤى العذبة ، فيجدها قد فتحت العقول والبصائر ، ومسحت عن القلوب الأحقاد ونوازع الشرور ، وسمت بالنفوس صعداً حتى باتت أشف من النقاء ، وأصفى من النور :

يا حبيب الأرواح أنت المرجّى          أنت سر النجوى ، وأنت الصفاءُ

شعّ منك الهدى ففاض على الكو      ن وضـــاءت بنورك الجوزاء

وصقلت العقول صقـلاً عجيباً          حار فيه الهـــداة والحكماء

وأعدت النفوس أصفى من النو          ر تباهى بها الســـنا والنقاء

نقيتْ كالنمــير حتى كأنْ لم           تمتلكها الحقـــود والأهواءُ

رحمة تنعش القــلوب ونعمى          بعثتْها الرســـالة الزهـراءُ

- ثم يطيب له أن يرسم ملامح الإنسان المؤمن الذي صنعته البعثة النبوية عقلاً نيّراً ، ونفساً نقية ، وعزيمة صلدة ترجف الجبال :

من يعـش في ظلالها يحي قلباً        لم تضعضـع إيمـانه البأساء

لا يهاب الخطوب إمّا ادلهمت      وهو في الخطب صخرة صلداءُ

قاصـم لم ترعْه غُلبُ الرزايا        تتـدجّى ولم يهـــله عناءُ

همّة ترجف الجبــال ورأيٌ         ملؤه البأس والعـلا والمضاء

ذلك المؤمـن الذي أطلعته           لهدى الخلـــق آية غرّاءُ – ( 5 ) مجلة التمدن الإسلامي : المجلد 7 ، عام 1941م ، ص 69 .

- من وحي التاريخ الإسلامي :

- ويتابع أنور العطار خطا تأليق أمجادنا فتشوقه جزيرة العرب ، مهد الإسلام ، ومربض أبطاله ، بنقاء فجرها ولآلئ أنوارها وعسجد رمالها ، تلد الهدى والنور على مدى الأزمان ، فهي مهبط الوحي ، ومشرق النبوة وساح الندى ، فيها درجت البسالة ، وشبّ الغطارفة الغرّ ، وترعرع المجد على إيقاع ترنيمات الكماة وأمانيهم في ظلال السيوف :

الصحارى يا سحر هذي الصحارى     آية لله في كتاب الوجود

أشرق اليمـن من محاريبها الزهــــر ومحرابها محط السجودِ

ها هنا يا صحابتي معبد اللــــــه على غابر الزمان الأبيدِ

ها هنا مشرق النبوة مهوى الــخير مجلى العيش الرخيِّ السعيدِ

ها هنا البأس والجراءة والحز          م ومستعصم الفخار الوطيدِ

ها هنا معقل الغطارفة الغرّ            ومستوطن العــلاء التليدِ

ها هنا السيف صورة الأمل البكـــر وترنيمة الشجاع النجيدِ

- هذه البيد المائجة بالكماة الصِّيد تبلغها عناية الله ، فتدركها رسالته ، فتتجاوب أرجاؤها شادية مسبحة ، فينطلق هؤلاء الكماة جنودا للحق ، يعزّون الحنيفية السمحة ، ويجوبون تحت راية الفتح الإسلامي ديار الأرض ، يحررونها من الظلم والطغيان ، فاتحين القلوب لهدي الله :

طوّف الدين ساحها ثم أسرى    يغمر الكون بالضياء الجديدِ

اسمعِ الرمل يملأ الأرض تسبيــــحاً بشدو محبّب مودود

هدهـدته قيثــارة تتغنى           بلحـون قدسية الترديد

أذن الله للصحارى فماجت          ساحتاها بقاحمين أسـودِ

يا جنود الحقّ المبين سلامٌ             أنتمُ للعـلاء خير جنودِ

بكم عزّت الحنيفة في الكو         ن ونالت شأو المرام البعيدِ

فتحوا الأرض فاستفادت لفتح     ناصع كالسماء هادٍ رشيدِ

غيرهم يفتحون للذل والعا          ر وهـم للعلاء والتشييدِ

- ولكن ما لهذه السيوف التي أعلت كلمة الحق حقباً قد قرّت في أغمادها ، وأغفت حتى أصدأها السكون الطويل ؟ إنه يهيب بها أن تعود في روح الفاتح الأبي السمح ، تطهر الأرض من شيطان الاستعمار وأساوده الرقط :

ثم دال الزمان من ناسه الغرّ        فقرّت سيوفهم في الغمودِ

واستكانت إلى الكرى فعليها       صدأ الدهر من طويل الهمودِ

ارجعي يا مجـادة الفاتح السمــــح ويا عزة الأبيين عودي

طهري الأرض من أساودها الرقـــط وشيطانها الخبيث المريدِ

- ويتمنى الشاعر على الأيام أن تعيد عهد العزة والمجد ، يضم شتات الأمة ، ويبعث في الأرواح الهاجعة يقظة الحياة ، عندئذ تتحرر الديار من الغاصبين ، وتعود الوحدة الجامعة في ظل حياة رفيعة ناهضة :

أيعاد المجد الرفيـع المعلّى      فيعـود البديد غيرَ بديدِ

وتهب الأرواح بعد وناها      ويفيق النؤوم بعد السهود

فتصان الديار من كل باغٍ      شــرّد العزّ أيما تشريد

فإذا الملكُ باسط الظل ناءٍ     ماج في غمرة من التجديدِ – ( 6 ) ظلال الأيام : ص 102 .

- من أعلام أبطالنا :

- يجمل بنا أن نعيش تجربة الشعراء الذين جسدوا هذه القيم والبطولات في نفر من أعلام تاريخنا مجاهدين ومجاهدات ، فأصفوهم مشاعرهم وعكسوا لنا ملامح بطولتهم ، ومن هؤلاء أنور العطار وهو يعرض لموضوع ذي دلالات موحية في التاريخ الإسلامي ، فقد قلّد الرسول – صلى الله عليه وسلم – في السنة الحادية عشرة للهجرة قبيل وفاته ، قيادة الجيش الإسلامي أسامة بن زيد – رضي الله عنه - وهو دون العشرين ، وفي الجيش كبار الصحابة من مثل أبي بكر الصديق – رضي الله عنه - ، وعمر بن الخطاب – رضي الله عنه ، فكانت قيادة أسامة ترجمة لما عناه الرسول بقوله : اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة .

- وكان هذا التقليد تعليماً رائعاً للعربي الصعب القياد ، وتدريباً للأجيال المسلمة لتميز آفاق الإسلام من مواصفات الجاهلية .

- وفي إطار رفيف من أديم الصحراء المترامي يلتمع بنور الهدى ، ويسيل أفقه بنضار الأحلام ، يرسم لنا الشاعر جيش أسامة ينساب عبر البيد نهر هداية مترع ، يحف شاطئيه الكماة الصيد ، ترفرف فوق هام أميره الفتى راية النبي – صلى الله عليه وسلم – قد رعاها الله بالنصر :

ضجّ مهد الصحراء بالتغريد         وسرى النور في رمال البيد

هو ذا في غيابة البعـد خط         ينجلي من سـرابها المعقود

سال ذوب النضار في مصـحف الأفق فزان الدنيا بحلم رغيدِ

نهر من هــداية يتلوّى         في فضاء رحب المطاف مديدِ

ضمّ في شاطئيه صُيّابة العر      ب وبأس الممــرّسين الصِّيد

والأمير الفتي يدّرع البيـــد بجيش مـن الكماة عـديدِ

رفرفــت راية النبي عليه      ورعته بالنصــر والتأييـدِ

- ويتساءل الشاعر : من القائد الفتي الذي أفزعت زحوفه القفر وهزت النجود ؟ ثم ما يلبث أن ينساب قريضه يجلو سيرة ابن العشرين يقود الأسبقين في عزماته جراءة الأسود وتحديقة العقاب الصيود ، قد باع روحه لله ، فما يبالي بعد ذلك خطوباً ولا أهوالاً ..وقد استعار له الشاعر صورة العزوف عن الدنيا من كلمة علي – رضي الله عنه - : ( يا دنيا ...غرّي غيري ) :

يا صحابي هذا أسامة يختا       ل يبرد من الشــباب نضيدِ

رأسَ الأسبقين وهو ابن عشريـــن بعزم ماض ورأي سديدِ

وعليه جراءة الأسد الور          د وتحـديقه العُقاب الصّيود

يتخطى بعزمه كل هول          ويخوض الوغى بقـلب حديدِ

هاتفاً بالحياة غيري غرّي        صارخاً بالخطوب غيري كيدي

قلبه راكض إلى الموت يهفو      غير ما جازع ولا رعــديدِ

يا له قاحمــاً نمتْه البطولا         ت وألقــت إليه بالاقليدِ

والبطولات شعلة الأمل السا      طع في ظلـمة الليالي السودِ

- وينفذ الشاعر إلى دخيلة الأمير الفتى ، تداعب نفسه أحلام نصر داني القطوف ، وطريق النصر محفوف بالمنايا ، أفتفزعه ؟ ولكن هل كانت إلا أمنية المجاهد الصنديد ؟ وتسبح بالفتى الذكرى نحو الثاوي بمؤتة ، والده الغالي الشهيد زيد بن حارثة – رضي الله عنه - الذي باع روحه لله في موقعتها ، فتنتشي نفسه ، فيرودها طريق الجهاد ونصرة كلمة التوحيد حيث تسعد الدنيا بشرعة الرسول ، ويظفر بفرحة النعيم المرجّى :

حدّث النفس وهو يحلم جذلا       ن بنصر داني القطوف عتيدِ

إيه يا نفس لا ترعـك المنايا         فالمنايا أمنية الصنـــديد

اطلبي المطمح القصيّ مـداه      ودعي الضعف للجبان الرقودِ

واذكري نائماً بمؤتة باع النفـــس زلفى مـن العزيز الحميدِ

وانهضي للجهاد في نصرة الحق       وبثي رســـالة التوحيد

من يرد فرحة النعيـم المرجّى        يصدق الله في ظلال البنود

ودعي اسم النبي تعبق به الدنيا       وترتع في عالم مـن سُعودِ – ( 7 ) ظلال الأيام : ص 100 .

كثيرة هي القصائد التي تناولت أعلام العرب الماضين على هذا النحو ووجدت فيهم السمات التي ينشدها العرب ، من ذلك قصيدة صقر قريش - للزركلي ، وخالد بن الوليد - لعمر أبي ريشة . وكان اهتمام جماهير العرب بأمر هذه القصائد مظهراً من الحنين إلى تلك النماذج البشرية الخالدة ، إذ ليس ما يهز الروح القومية والإسلامية مثل استعادة سير العظماء ، وكما يقول أنور العطار :

نشوة الذكريات أفعل في الأنفس من نشوة ابنة العنقود

والبطولات شعلة الأمل الساطع في ظلمة الليالي السود

ولم تكن هذه القصائد تتغنى بالماضي لذاته ، بل كانت تربط بين الماضي المجيد بحاضر الأمة وواقعها ، وهذا ما نجده في قصيدة أنور العطار التي عنوانها ( جيش أسامة ) ففيها يشيد بأول جيش عربي في الإسلام ، وببطولة قائده الشاب ، ثم يقول :

ثم دال الزمان من ناسه الغرّ        فقرّت سـيوفهم في الغمود

واستكانت إلى الورى فعليها      صدأ الدهر من طويل الهجود

صرخ الجرح بالمواجع ثوري        وأهاب الأسى بعيني جودي

ارجعي يا مجادة الفاتح السمــــح ويا عزة الأبيين عودي

وهكذا كان الماضي الزاهر سبيلاً ممهداً لمعالجة حاضر الأمة والثورة على واقعها ، ومنطلقاً ركيناً للشاعر نحو الغاية المنشودة التي تتركز في بعث العرب من جديد .

 على أن شعر البطولة والفداء لم يكن يبقى دائماً في نطاق شهيد بعينه ، أو بطولة فرد في ذاته ، فهناك قصائد كثيرة كان ينزع فيها أصحابها إلى التعميم ، كأن يبرزوا ملامح الإقدام وعناصر التضحية في جملة الشهداء المجهولين الذين سقطوا في فلسطين أو سورية أو مصر أو العراق أو المغرب أو في شهداء العرب كافة ، وطبيعي أن تغلب على هذا النمط من القائد الروح القومية المتمردة وأن تخفت فيها رنة البكاء والأسى ، لأن الشاعر يجنح فيها بصورة عامة للتعبير عن عواطف الجماعة قبل عواطفه أو عن عاطفته من خلال عواطف مجتمعه ، وعلى هذا الصعيد الشامل يصور أنور العطار بأس قومه وصمودهم كالطود تجاه الغاصبين :

يا بلادي ويا مهاد الضحايا       أحسن الله للشباب الحصيد

يتبارون في ارتشاف المنايا       حوّماً كالعطاش يوم الورود – الاتجاه القومي في الشعر العربي : ص 431 .

- الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي :

- الشاعر أنور العطار يجد في دعوة الإسلام رسالة الحضارية البشرية ، ويرى أن من نعمة الله على الإنسانية أن بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وهادياُ ، صاغ من العرب العقد الإنساني الذي أنار الوجود بإشراق سجاياه ، وغسل القلوب بنور الشمائل الوضاءة فطهرها من الأضغان  ، و ابتعث فيها الصفاء والإخاء الإنساني ، وأفعم القلوب محبة ، وأصّل فيها الإحسان ، وغرس فيها الفطر النقية ....

يا نبـيّ الهـدى مننت علينا           مننا مـن ندى الإله جساما

صغت منا العقد الذي زين الكو       ن وأضفى على الوجود وئاما

وغسلت القلوب من عنت البغـ      ـض وفجرتها هوىُ يتسامى

وبعثت الصفاء في عالم الروح           وجنبتها القلى والخصــاما

وملأت النفوس حباُ وإحساناُ          وروضت الأرواح والأجساما

- لقد وحّد العرب بعد فرقة ، ووكل إليهم برسالة الإسلام تحرير البشرية من الجور والجهل ، فكانت نقلة هائلة من جاهلية وشتات إلى ريادة البشرية وقيادتها ..

يا نبيّ الهدى رعيت حمى العُر       ب وأترعتَ ساحهم إنعاما

فتلاقوا بعد التنائي ونحـوا       عن سماء الحجا سحابا جهاما

وأماطوا عن البرية ..جوراً        وأزاحوا البغــاة والظلاما

وأضاءوا غياهب الجهل بالحق    وصـاغوا العقول والأحلاما

أي خير اوليت قومك يا طــــه فسالت نفوسهم إسلاما

قد نمتهم رسـالة الحقّ والخيـــر فمروا بذا الوجود عظاما

- ويفتقد الشاعر عظمة قومه ، وقد كانوا شموساً تضيء البشرية قوة وهدياً فاستسلموا للرقاد ، والعالم قافز نحو الرقي ، فلينهض أحفاد ألئك الأمجاد الذين كانت تلوذ الدنيا بعدلهم وتنعم في ظل ملكهم الوارف بالسماحة والبرّ ، وتستنير بنظامهم وفكرهم ونهضتهم :

أين قومي كانوا الشموس ضياء     والهداة الرعاة تهدي الأناما

هدؤوا في الغيوب إلا شعاعاً          عبقريّ الرفيف عاماً فعاما

قد ركنّا إلى الرقاد مليّاً                 وأفاق الورى وظلْنا نيـاما

ولقد آن أن نهب سراعاً             فإلام الونى الطـويل إلامَا

نحن رمز الحقوق تحتكم الدنــيا إلى عـدلنا العميم احتكاما

قد ملكنا الأرض الفضاء سماحاً  وجعلنا الأخلاق فيها الدعاما

ونثرنا على الوجود عقوداً       حسنت حكمة وطابت نظاما – ( 8 ) ديوان ظلال الأيام : ص 89 .

-       العقيدة والشعر الإلهي :

-       أكثر الشاعر أنور العطار من الابتهال والمناجاة وامتازت تلك الابتهالات بطابع الحبّ والفناء في الله يستهلها بنهدات القلب الخاشع المشوق يلوذ بمصدر الوجود والبقاء حينما جذبته ثقلة طينه الفاني إلى آثام الأرض :

-       يا إلهي قلبي الرقيق تنهد            مذ صداك الحبيب فيه ترددْ

-       يا إلهي طيف العفاء يناجيــــك ،  ونجــواه أنّة تتصعّدْ

-       غاب لما دعاكَ عن وهدة الإثـــم وعن طينةٍ من الإثم أوهدْ

-       يا إلهي أنا الفناء أناديـــــك وأنت البقاء ترجى وتقصدْ

ويجوز الشاعر مرحلة التأثم والندم ، وقد ذاق حلاوة النجوى ، فاستهواه التأمل في ألاء الله ، فإذا القلب رجع التقى والصفاء والهدى ، فاضت مشاعره بالمواجد فتفانت نفسه بحب بارئه ، وسهّد الهوى فؤاده وشفه الوجد فسعد بذلة المحبّ واستشرف الشهود ، فحارت روحه في سعة هذه العوالم المستشرفة ، ولكن عذوبة التجربة أترعت أجفانه بالأحلام الوضيئة ، وأطلقت نفسه ألحان صبابة ووجد ، أحالها ملائك الحب مهرجاناً للوجود :

أي ألطافك العِذاب تجلّى        أي آلائك العظام تعــدّدْ

حفل القلب بالتقى فتصفّى      وجلاه الهدى فصلّى ووحّدْ

فنيتْ مهجتي بحبك يا ربّ       وغلغلتُ في الفناء لأشهـدْ

أجد الفرحة العظيمة في الذلّ    لربي ، وفي انكساري سؤددْ

شفّني الحب فاستحلتُ نداءً    ومن الحبّ أن تذوب وتُسهَدْ

يا إلهي روحي تولّه حيرى       لا تعي أمـرها وتغريَ يحمَدْ

طيّ جفنيّ عالم لك حـلو         وبنفسي قصيدةٌ لك تُنشدْ

أترعتها ملائك الحبّ بالســـحر فغنّى بها الوجود وغرّدْ

ويستأنف مواجده وابتهاله تقبس من نفحة نور الله التي أودعها الإنسان فتنكشف له من آلاء الله رفافة بالجمال ، فهذا جدول النور المتدفق من غلائل الفجر يغمر القلب سنا ويفعمها اتصالاً ، فترفده ذكاء الصباح تنير الدنيا بالرؤى المشعة ..إنما خلق الله الإنسان ليعبده ويشكره . لقد استيقن الشاعر هذا فطاب به إيماناً ...

أنا في هيكلي اللهيف دعـاءٌ       فاض من سرك اللطيف الممجّدْ

ساهدُ الجفن خاشعُ القلب باكٍ     ذاهـلُ الروح مستهامٌ مشـرّدْ

أرقب الفجر في غلائله البيــــض وقد شفّ عـن غبار مبدّدْ

جدولٌ رائعٌ يرف من النو              ر وأمــواهه تكاد ..تورّدْ

وأطلت ذكاء في الموكب السا           حر دنيا من الرؤى تتوقّدْ

أنا آمنت يا إلهي بنعما                  ك يقيناً وما خلقتُ لأجحدْ – ( 9 ) ظلال الأيام : ص 80 .

الجهاد والوحدة :

راحت الكلمة الهادفة تساند رصاصة المجاهد في أرض المعركة ، وكان لشاعرنا مواقف ألهبت الحمية في النفوس المؤمنة ، ففي مناسبة مولد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو موسم ثرّ لاستلهام البطولات الإسلامية يناشد أنور العطار معشر العرب ، وهم مادة الإسلام ، أن يحطموا غياهب الظلم والاحتلال بصوارمهم التي لم تصدئها الأعوام والدهور فلتنطلق مفارقة غمودها حتى تحرز النصر والتحرير ، فإلى يقظة لا غفوة بعدها ، حتى تحطم أصفاد الشعب وتلين الحياة ...من جديد :

يا صحابي ومعشري وقبيلي      آن أن تستفيق تلك الصوارمْ

صدأ الدهر لم ينل من ظُباها       فهيَ مسنونة الشفار حواسمْ

فامنعوها غمودها وكراها        واستثيروا بها دفين العـزائمْ

لا تناموا على الإسار وتغفوا      فلقـد ملّت القيودَ المعاصمْ

وانفضوا عنكمُ الرقاد  وهبوا    لم تلن هــذه الحـياةُ لنائمْ

قد ضججنا من البكاء كأنا      قد سلبنا النواح هذي الحمائم ْ

ويعجب الشاعر لاستغراقنا في غيبوبة الأحلام زمناً ، أضعنا في كراه مجدنا ، ولانت صلابة أبطالنا ، لهونا عن إدراك التقدم بالخلافات وأفقنا ونحن نهبة لكلّ مستعمر :

يا لحلم ٍ ملفقٍ قد أضعنا              في رؤاه تيجاننا والعواصمْ

فنيتْ في دجاه قافلة المجــــد وماتت فيه النفوس القواحمْ

ولهونا عن العلا ..بحزازا           ت جسام ٍ لهنّ فعلُ الأراقمْ

وأفقنا نهبى لكلّ ... أثيم ٍ         وحمانا والســاكنوه غنائمْ

وبعد أن يستجيش ذرا مجد رفيع زين مفرق الزمان وتاهت به حوالم النجوم ، ينادي في هذه الذكرى الغراء أمته المسلمة المكافحة أن توقد الثورة ضد المستعمر وتسقيها دماءها وتمهرها أرواحها في سبيل الله عربوناً لا ستئناف السيادة والعزة :

يا بقايا السيوف ، رمز الأضاحي    وشعارَ الفِدى ، وسرّ العظائمْ

أوقدوها حمراءَ تلتهم الأفــــق فتشوي بها اللظى والسمائمْ

وامنحوها دماءكـم تتنزّى         وامهروها أرواحكم والجماجم ْ

واملكوا الأرض أنتم سادةُ الأر     ض وأنتم بنو الليث الضراغمْ

أنتم الأسبقون في حلبة العزّ        بكم تنجلي العوادي الغواشمْ – ( 10 ) ظلال الأيام : ص 96 .

فهو لم يشف كل ما في نفسه من حرقة على استكانة قومه فتراه يعود بعد مناجاة الرسول ، وافتقاده مجد العرب إلى إلهاب نيران الثورة في النفوس .

- الملامح الاجتماعية الإسلامية :

كان المواطن العربي يعاني ظاهرة الازدواج بين الحياة الغربية الوافدة والحياة الإسلامية الأصيلة ، فقد عالج الشعراء موقف الأسرة والمرأة بخاصة من الحضارة الغربية مستوحين نظرة الإسلام الاجتماعية والخلقية ، فالشاعر أنور العطار يعبر عن تماسك الأسرة المسلمة التي تجلّ الأم وتشيد بفضلها على خطا تكريم الله للوالدين ، والأم بخاصة في قوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير . سورة لقمان : 14 .

وفي حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم - : الجنة تحت أقدام الأمهات . رواه الخطيب في الجامع الصغير : 3 /361 . وهو حديث حسن .

بما في ذلك من أنسام المحبة والتعاطف التي تسري من الأسرة إلى المجتمع الإسلامي ، فالأم مخلوق يوزع الحنان على البشر ، ويخفي شجون نفسه ، كما يقول الشاعر أنور العطار في قصيدة ( النبي اليتيم ) :

إنما الأم ومضة من سنــا اللــه وقيثارة همتْ أنغاما

من يصنها يصن كتاباً من الخلــد ودنيا تفجّرت أحلاما

طيفها الحلو مرّ بالنفس أصدا     ء وغنّى فبـدد الآلامـا

صاغها الله من سماح ورفق        ودموع على الليالي تهامى

رحمة هينت على القلب حتى      ملأته هوًى يثور احتداما

طبعته على البشاشة والبشــر وزانته بالوفـاء اعتصاما

خُلُقٌ كالندى إذا توّج الزهــر وعطفٌ مخلّدٌ لا يسـامى

وحنان يرف كالزنبق الطهـــر وكالروح جائساً حوّاما

فإذا ردّها التراب إليه            كان فقدانها أسىً وضراما – ( 11 ) ظلال الأيام : ص 87 .

- آفاق التأمل والوجدان الإيماني :

- يتأمل الشاعر أنور العطار في آلاء الله وبديع صنعه :

فيقف  بغوطة دمشق فيوحي له جمال طبيعتها بتوحيد الله وتمجيده ، وتتجلى من عوالم النضارة وفاتن الوشى في الغوطة دنيا من الجمال والطلاقة والبشر عند أنور العطار ، رأى فيها آيات من الجمال العلوي أبدعتها يد الله ، تروع البصر في نسق من مفاتن الطبيعة يصبي النفوس ، ويندى الأرواح بالأعطار ، ويجدد الحياة :

عالمٌ من نضـارة واخضرارٍ       فاتن الوشي عبقري الإطارِ

ضمّ دنيا من البشاشة والبشـــر وما تشتهي من الأوطارِ

وأشاع الجمال في المورق الفينــان والطير والغدير الجاري

في ازرقاق السماء يغري بها الطرف وفي روحها الرقيق العاري

في فضاء كأنه حلم الشا               عر بالبشر والرضا موّار

بهرتنا هذي الطبيعة بالحـــــسن وجادت بأروع الآثار

معبد للجمال أبدعه الســـــحر ووشّته قدرة الأقدار

هو دنيا الفتون ملء حوافيــــــه رواء مجددُ الأعمارِ – ( 12 ) ظلال الأيام : ص 14 .

- ويعرض الشاعر لوحة أخرى مقابلة ، تتراءى له فيها الصحراء آية الله في سفر هذا الوجود ، تتلظى فيها الشمس تموج في خضم من النور ، وتقذف باللظى والجحيم الذي لا يطاق ، للمحب ملاذ ، وللغاصب حمم ونار :

الصحارى يا سحر هذي الصحارى   آية الله في كتاب الوجـودِ

ثورة الشمـس في خضّمٍ من النو      ر سحيق نائي المـرام عهيدِ

يا لهـــا الله من جحيمٍ تلظّى       تخطف الروع من جَنان الجليد

هي للائذ المحـــبّ أمــانٌ   وهي للغاصبـين نارُ الوعيدِ – ظلال الأيام : ص 104 .

- ويزهى الشاعر بالبيد ، ففي نفسه لها رصيد إعجاب ينبع من جمالها ووحيها ، الفجر فيها لوحة كونية من السناء النقيّ الفريد ، أين منها اللآلئ والدراري ؟ وهي مهبط الوحي ، ومشرق النبوة ، وأرض الهدى ، ومحراب العالمين :

أيّ زهوٍ تثيره هذه البيـــــــد بقلبٍ بحبّها معمود

نهض الفجر في مداها ، بهيّاً         حافلاً بالسنا النقيّ الفريدِ

عانقتها الأضواء في هبة الصبـــح فأزرت باللؤلؤ المنضود

سكبت في فضائها العسجد الصر   ف وزانت أفياءها بالعقود

أشرق اليمن من محاريبها الزّهــــر ومحرابها محطّ السجود

ها هنا يا صحابتي معبد اللــــه على غابر الزمان الأبيدِ – ( 13 ) ظلال الأيام : ص 104 .

- وبعد :

- ما أقبح وجه النسيان ، ولاسيما عندما يلقي ظلاله ويسدل أستاره على العظام من الأدباء والشعراء ، فنحن أمة ترفض أن يعيش عظماؤها على هامش التاريخ ، لذا يجب على أبنائها أن يعملوا على تكامل الأجيال لا صرع الأجيال ، فسلسلة الذهب يجب أن لا تنفصم عراها ، وهل نكون خير خلف لخير سلف ؟.

المراجع :

1-  أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية : محمد عادل الهاشمي ، مكتبة المنار – الأردن – ط1 – عام 1406هـ / 1986م .

2-  تاريخ الشعر العربي الحديث : أحمد قبش .

3-  فنون الأدب المعاصر في سورية : عمر دقاق ، دار الشرق العربي –بيروت ، ص  424 .

4-  الأدب العربي المعاصر في سورية : د. سامي الكيالي – دار المعارف – مصر .