العلاَّمة الشيخ محمد بن صالح العثيمين

المستشار عبد الله العقيل

(1347 - 1421ه / 1927 - 2001م)

مولده ونشأته

هو الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وُلد في بلدة (عنيزة) في 27/9/1347ه 1927م، وحفظ القرآن الكريم على يد جده لأمه عبد الرحمن آل دامغ في سن مبكرة، وتلقى بدايات علمه على يد الشيخ عبد الرحمن السعدي، ثم التحق بالمعهد العلمي في الرياض، ودرس على المشايخ: محمد الأمين الشنقيطي، وعبد العزيز بن باز، وغيرهما، وكانت دراسته على شيخه الأول عبد الرحمن السعدي علوم التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والفرائض ومصطلح الحديث والنحو والصرف، وكان خلال ملازمته لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، قد قرأ عليه صحيح البخاري، وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الكتب الفقهية الأخرى.

سيرته العلمية والعملية

مارس التدريس في المعهد العلمي في عنيزة، وفي المعهد العلمي بالرياض بعد تخرجه مباشرة، في الوقت الذي انتسب فيه للدراسة بكلية الشريعة التي تخرج فيها سنة 1957م، وعندما توفي شيخه الأول عبد الرحمن السعدي، خَلَفه في إمامة الجامع الكبير في عنيزة، وفي التدريس فيه، ثم التحق بالتدريس في كلية الشريعة، وهو إلى جانب ذلك، عضو في هيئة كبار العلماء، وقد عرض عليه منصب القضاء فاعتذر.

ألَّف الشيخ ما يزيد على 35 كتابًا ورسالة، سدَّت جانبًا مهمًا في المكتبة الإسلامية، وأضافت الكثير من العلم الذي يحتاجه المسلم من علوم الدين، وقد اختير بعض هذه المؤلفات ضمن مقررات المعاهد العلمية في المملكة العربية السعودية. ولم يدَّخر وسعًا في سبيل الدعوة إلى الله، فكرَّس حياته كلها لهذه الرسالة بإلقاء المحاضرات العامة في سائر مناطق المملكة، ولم يتوقَّف عن تبصير الناس بدين الله بالإفتاء عن طريق الهاتف أو الكتابة أو التسجيل أو الإذاعة أو الصحف والمجلات ومن خلال البرنامج الإذاعي (نور على نور)، والمشاركة في المؤتمرات الإسلامية الكبيرة داخل المملكة، مثل مؤتمر رسالة المسجد، ومؤتمر الدعوة والدعاة، ومؤتمر الفقه الإسلامي، ومؤتمر مكافحة المخدرات وغيرها.

والشيخ ابن عثيمين منذ نشأته كان محبًا للعلم، ويحرص على ملازمة العلماء، فبالإضافة إلى شيخه السعدي، وابن باز، والشنقيطي، تتلمذ على المشايخ بالقصيم، أمثال الشيخ علي حمد الصالحي، والشيخ محمد عبد العزيز المطوع، والشيخ عبد الرحمن بن عودان، والشيخ عبد الرحمن آل دامغ وغيرهم.

وكان أسلوب الشيخ ابن عثيمين في التدريس أسلوبًا متميزًا في إيصال المعلومة بأسهل طريقة إلى المتعلمين والسامعين، فلم يكن من أنصار أسلوب التلقين، بل كان يتَّبع أسلوب التفاعل عبر السؤال والجواب، الأمر الذي يشدّ انتباه الطلاب، ويضمن دوام المتابعة.

يروى أن الملك خالد بن عبد العزيز أهدى إليه عمارة، فجعلها الشيخ وقفًا لسكن طلابه مجانًا، وافتتح لهم مطعمًا، وفرَّغ لهم عاملاً يعدّ لهم الطعام، وهيأ لهم مكتبة للكتب، وأخرى للأشرطة.

وكان مجتهدًا يتبع قوة الدليل، ولا يُقيّد نفسه بمذهب معين، بل إن له اجتهادات خالف فيها المذهب الحنبلي، وخالف ابن تيمية، وقد ذكر الأستاذ سليمان الضحيان أن الشيخ ابن عثيمين خالف المذهب الحنبلي في 89 مسألة في باب الطهارة فقط.

وكان واسع الصدر، يستمع لآراء مخالفيه، ولا يضيق ذرعًا بهم، ولا يجعل من الخلاف الفقهي سببًا للتشاحن والبغضاء، بل إنه يقول رأيه مستندًا إلى الدليل من الكتاب والسنَّة، وما آتاه الله من فهم لهما، وينهى عن تجريح المخالف، أو انتقاصه، فلكل مجتهد أجر عند الله.

كما كانت حياته المعيشية في غاية البساطة، بعيدة عن المظاهر والتكلّف، فهو زاهد في الحياة الدنيا، قضى معظم حياته في بيت من الطين، ولم يكن يلبس الملابس الفاخرة، ولا يركب السيارات الفارهة، بل التواضع ديدنه في كل شؤونه.

وهو يتمتع بمحبة الناس على مختلف مستوياتهم من الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، وطلبة العلم من المواطنين والوافدين، ويعاملهم جميعًا على حد سواء.

ومن الطرائف التي تروى: أن الشيخ ركب سيارة أجرة في مكة المكرمة بعد الصلاة في الحرم، قاصدًا مكانًا معينًا، ودار بينه وبين السائق حوار في بعض المسائل الشرعية، وكان السائق أعرابيًا يجيب على سجيته، فسأله السائق:

- من الشيخ؟

فرد الشيخ: أنا محمد بن عثيمين.

فتعجب السائق وردّ مستفسرًا: الشيخ؟

فأجاب الشيخ: نعم الشيخ!

فهزَّ السائق رأسه مشككًا لما اعتبره جرأة في تقمُّص شخصية الشيخ ابن عثيمين، وسأل الشيخ السائق: من الأخ؟

فأجاب السائق: الشيخ عبد العزيز ابن باز.

فضحك الشيخ ابن عثيمين وسأله: أنت الشيخ عبد العزيز بن باز؟

فرد السائق: كما أنت الشيخ ابن عثيمين.

ولقد كانت له مواقف في أعمال الخير والبر أكثر من أن تُحصى، سواء من ماله الخاص، أو مما يتقدم به المحسنون، فكان يساعد الراغبين في الزواج من غير القادرين، ويدفع لهم نصف المهر، ويساعد الفقراء والمحتاجين، ويسهم في إنشاء المساجد ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، وحفر آبار الشرب، والإغاثة للمنكوبين حيثما كانوا، بداخل المملكة أو خارجها، وكذلك دعم المراكز والمؤسسات الإسلامية في ديار الغرب للمهاجرين المسلمين والطلبة المغتربين.

وكان منظمًا في حياته الخاصة، ودقيقًا في مواعيده، وبرامج حياته، مع أهله وأولاده، ومع طلابه وعامة الناس بحيث لا يطغى جانب على آخر، ولا تتتشتت فيه الجهود، بل يسير الأمر حسب النظام والجداول المحددة، والمواعيد المنضبطة.

ويروي بعض أبنائه: أنه في مراحل حياته الأخيرة، وكان في المستشفى التخصصي في جِدة، وكانت آخر ليلة من رمضان، فأصرَّ على الذهاب إلى الحرم المكي، وقال: «إنها آخر ليلة في رمضان، فلا تحرموني من أجرها».

فنزلنا عند رغبته، وأخذناه إلى مكة محمولاً على نقالة، وأنابيب الأوكسجين موصولة به، ودخلنا الحرم، فتوضأ وصلى المغرب والعشاء، وما إن انتهت التراويح حتى قال:

- أعطني مكبر الصوت.

وبدأ يلقي درسه، وكان الأطباء قلقين على حالته الصحية، وأيديهم على قلوبهم، ولكن هذا الدرس من أيسر الدروس وأعظمها، وهذا الموقف في آخر أيامه، إذ انتقل يوم العيد إلى المستشفى.

وكان الشيخ قد حصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام في عام 1994م، وذلك تقديرًا للجهود العلمية والعملية التي كان يبذلها في خدمة الإسلام والمسلمين في كل مكان.

من أقواله

- «تأثرت بالشيخ عبد العزيز بن باز من جهة العناية بالحديث، وتأثرتُ به من جهة الأخلاق أيضًا، وبسط نفسه للناس، وتأثرت بالشيخ عبد الرحمن بن سعدي في طريقة التدريس، وعرض العلم، وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني، وكذلك تأثرت به من ناحية الأخلاق، لأن الشيخ عبد الرحمن كان على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة، وكان على قدر في العلم والعبادة، يمازح الصغير، ويضحك إلى الكبير، وهو من أحسن من رأيت أخلاقًا».

ومن أقواله أيضًا:

- «إن الفتن تسري إلى القلوب فتصدُّها عن ذكر الله وعن الصلاة، وتفتك بها كما يفتك السم بالجسم حتى يهلكه، وسهام إبليس نافذة، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وإن الرجل أمام الفتنة لا يضمن لنفسه العصمة، ولا يأمن على نفسه من شر تلك الفتنة، إننا في عصر كثرت فيه أسباب الفتن، وتنوَّعت أساليبها، وانفتحت أبوابها من كل وجه، وبدأت تدب شبهات البدع إلى قلوب السذج من الناس، فأرْدَتْهم، وكثرت الفتاوى والنشرات الخالية من التحقيق، فذبذبت أفكار الناس وأقلقتهم، وانتشرت الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الداعية إلى المجون والفسوق والخلاعة، وصار الناس فريسة لهذا الداء العضال.. نسأل الله السلامة لنا ولهم».

قالوا عنه

يقول د. عبد الله بن عبد المحسن التركي:

«لا شك في أن التحصيل العلمي للشيخ محمد بن صالح العثيمين الذي وفقه الله إليه، كان له أثر كبير في حياته، فلقد انتفع الشيخ أيما انتفاع بما يسّره الله له من نهل للعلم، وفهم لمقاصد الشريعة الإسلامية حتى صار علمًا من أعلامها، يدرس ويحاضر في علوم القرآن الكريم والحديث النبوي والفقه والفروع، وفي سيرته العلمية مثال فذ وشاهد كبير على أهمية طلب العلم والجد في تحصيله، وقد استفاد الناس داخل المملكة وخارجها من علمه الغزير، حيث كانوا يتحلقون في حلق العلم التي كان يقيمها في المساجد وفي الجامعات والمعاهد والمدارس والمؤسسات الإسلامية والهيئات الدعوية، ومن الفتاوى والإرشادات التي كانوا يستمعون إليها في المذياع، ويقرؤونها في الصحف والمجلات والنشرات الدعوية، ثم في كتبه ورسائله القيمة، وله العديد من المواقف التي انبثقت عن فهم صحيح للإسلام ووسطيته ومنهاجه العادل، وعن فهم سليم لمهمة العالم الداعية. فقد انتهج منهج علماء السلف في أعماله العلمية، ومنهجه الدعوي، وطرق التربية والتعليم.

ولعل أبرز الملامح في منهاجه:

- حرصه الشديد على التقيد بما كان عليه السلف الصالح في الاعتقاد.

- الحرص على صحة الدليل وصواب التعليل ووضوحه ومناسبته.

- الربط بين العمل الدعوي والتقعيد الفقهي.

- العناية بمقاصد الشريعة الإسلامية وقواعد الدين.

- الاعتدال والتوسط في المنهاج والسلوك والفهم والتقيد بمنهج السلف.

- الاهتمام بالتطبيق والعناية بالأمثلة والتخريج.

- التيسير الذي يبعد الداعية عن التعقيد، والتعصب والتقليد الأعمى، والحرص على التوفيق بين النص والمصلحة».

ويقول الأستاذ زين العابدين الركابي: «إن وفاة العالم الجليل الشيخ محمد بن صالح العثيمين خسارة فادحة لكل محب للإسلام. لقيت الفقيه العظيم غير مرة في مخيمات جامعية وفي بيته بالقصيم، وفي مكة المكرمة، وفي الرياض، وكان آخر لقاء رأيته فيه في اثنينية الشيخ عثمان الصالح في الرياض، وكان حديثه عن «نعمة الأمن ومسؤوليتنا في المحافظة عليها» فقد تحدث عن الركيزة الكبرى للأمن، وهي الإيمان بالله وتوحيده، واستشهد بالأصل في ذلك، وهو قول الله جل ثناؤه: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82).

وقال: إن الانضباط المروري في السير، والتوقف والاتجاه يمينًا أو يسارًا وفق الأنظمة الموضوعة، ذلك كله من القربات إلى الله، لأنه من الطاعة في المعروف التي أمر الإسلام بها فيما يتخذه ولي الأمر ويسنه من أنظمة ترعى المصلحة العامة، وتضبط تصرفات الناس، حتى لا يبغي بعضهم على بعض، وهذا فقه حسن في المصالح المرسلة.

والشيخ عالم متبحر في علوم العقيدة والفقه والتفسير والفتيا، وله عشرات الكتب والرسائل، وألوف الأشرطة الصوتية، ومن منهج الشيخ: الدوران مع الدليل حيث دار، والتمتع بحقه العلمي في النظر إلى الدليل فهمًا واستنباطًا».

ويقول د. جاسم مهلهل الياسين:

«تلقينا ببالغ الأسى وعميق الحزن، وفاة علاَّمة الجزيرة، وشيخ الفقه والعقيدة والأدب، وجامع الفنون: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فللَّه در الشيخ عالمًا، فكم أفاد وأجاد وكشف عن دقائق الفقه، وجلّى عن أصول عقيدة السلف، وأخرج فيها قواعد مثلى، ولآلىء حسنى في توحيد الله سبحانه.. نفع الله بها العباد والبلاد.

ولله در الشيخ قامعًا للبدعة. مقيمًا لبناء السنَّة، وذابًا عنها، وباعثًا لمعالمها، وحاميًا لجنابها، وباسطًا لرحابها.

ولله در الشيخ من عابد زاهد، معرضًا عن اللهو والمفاسد، مخبتًا لربه، منيبًا وقافًا عند حكمه، مستجيبًا، نحسبه عند الله كذلك.

ولله دره من معلم ومربّ له مريدوه ومحبوه الذين نهلوا من فيضه، وعبّوا من نبع علمه.

ولله دره من صاحب مؤلفات حسان، علت به شريعة الرحمن، ما بين مقال وكتاب ورسالة ومحاضرة تشهد بعلو قدمه، وثقابة ذهنه، وبعد غوره، وسداد فكره».

 

معرفتي به

حين زرت الشيخ عبد الرحمن السعدي في موسم الحج سنة 1375ه، مع زملائي أساتذة مدرسة النجاة، ونزلنا في ضيافته، عرفنا عددًا من تلامذته ومنهم: الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكان في العشرينيات من عمره، ثم تكررت لقاءاتي به في المؤتمرات التي حضرتها بالمملكة كمؤتمر رسالة المسجد بمكة المكرمة، ومؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض، ومؤتمر الدعوة والدعاة بالمدينة المنورة وغيرها من اللقاءات في موسم الحج والعمرة في رمضان.

وبعد التحاقي بالرابطة، كنت أشترك معه في إلقاء محاضرات في التوعية الإسلامية للحجاج بإشراف سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، كما سعدتُ بسماع دروسه في الحرم المكي في العشر الأواخر من رمضان كل عام طوال مدة عملي في الرابطة، ثم سماعي لدروسه وفتاواه التي كان يلتزم فيها الحكم الذي يعضده الدليل دون الالتزام بمذهب معين، بل كانت له اجتهاداته الكثيرة، وفتاواه المسموعة والمقروءة التي ينفرد بها خلافًا للمذهب، منزلاً الحكم الشرعي على واقع الحال، وسالكًا مسلك التيسير والتسهيل على العامة الذين يجهلون الكثير من أمور الأحكام المرعية، ومترفقًا بالشباب المندفع، ليردهم إلى جادة الصواب، وهدايتهم لالتزام الطريق الوسط، للوصول إلى الهدف بالحكمة والموعظة الحسنة.

وفاته

في مساء يوم الأربعاء 5/10/1421ه - 10/1/2001م)، انتقل إلى رحمة الله سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في المستشفى التخصصي في جدة بعد إصابته بمرض السرطان الذي لازمه مدة عامين.

وصُلِّي عليه في الحرم المكي ودُفن في مقابر مكة المكرمة.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 910