الأستاذ علي بن مصطفى الطنطاوي، شيخ الأدباء وأديب الشيوخ !

رجال في ذاكرتي

علماء - أدباء - دعاة

كنا نستمع إليه في الخمسينيات من المذياع ، وكأن ضيفاً وقوراً يجلس بيننا ، فلا أحد صغيراً أم كبير اً  يتكلم حتى ينهي حديثه !

وكانت الإذاعة السورية تنقل خطبته في فترات ، فيُتابع بحرص واهتمام ، ولم يكن ثمة تلفزيون في مناطقنا نتعرف به على شخصه ، أو نستزيد ، سوى ماكان ينشره في الصحف والمجلات على قلتها بين أيدينا !؟

نشأ جيل في سورية وغيرها على كتاباته وقصصه ، وكان أساتذتنا يوصوننا بقراءتها ، وأوصينا من بعد تلاميذَنا بقراءتها كما في كتابه : رجال من التاريخ !

ثم قدّر الله أن ينقطع عن الإذاعة السورية ، وعن البلد بعد استيلاء عساكر البعث على السلطة بانقلاب آذار ١٩٦٣ .

ثم جاء إلى الرياض لعام واحد ، وانتقل بعد ذلك إلى مكة المكرمة فاحتفلوا به عالماً وواعظاً ومحدثاً ومدرساً ، فتابع الكثيرون أحاديث وكتبه الجديدة .

لم يكن - رحمه الله -  ينتمي إلى أية جماعة دينية أو سياسية ، وقد ذكر ذلك في مقابلة قديمة مع مجلة المعرفة السورية التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة حين سئل عن الأحزاب والجمعيات التي انتسب إليها ؟ فكان جوابه يحمل شيئاً من الدعابة : لم أنتمِ لأي حزب أو جماعة ؛ لأنني ثقيل ، ولاأحد يحتملني !؟

ومع ذلك فقد كُتب عليه وعلى الكثيرين من أمثاله الشاميين أن يُحرموا من العودة لوطنهم بكلام صريح أو تهديد مبطن !؟

******              ****        ****

كانت أحاديثه الإذاعية والمتلفزة تجذب السامع والمشاهد بعلميتها وعفويتها ومن ذلك أنه في حديثه عن البنات تذكر ابنته الشهيدة بنان التي صرعتها رصاصات غادرة في ألمانيا كانت تتقصد زوجها الداعية الإسلامي المعروف الأستاذ عصام العطار !!؟ فلم يتمالك الشيخ دموعه فانفجر حزنه فبكى وأبكى من سمع ومن شاهد !

كان - رحمه الله- يمتلك أسلوباً خاصاً  في الكتابة ، وأسلوباً متفرداً في الحديث والخطابة ! وقد كتب الدكتور أحمد بسام ساعي عنه في كتابه : الواقعية الإسلامية في النقد والأدب ، وأفرد له فصلاً كاملاً تحت عنوان ( علي الطنطاوي : حركية الحديث الإذاعي والبعد الرابع للأدب ) ومما جاء فيه : البساطة العجيبة التي يواجه بها الطنطاوي جمهوره تتناسب تناسبا عجيباً مع البساطة التي تطبع لغته وأفكاره ، ومعالجته الهيكلية الشاملة للموضوع .... فكيف لو أضفنا إلى المظهر الشخصي تاريخه العجيب الحافل بالوقائع الجريئة التي لاتصدر إلا عن مثله ! إن تاريخ الرجل مضافاً إلى حاضره ، وإلى شخصيته ، وإلى خلقه المتفرد ، وأسلوبه المميز ، وفكره العميق ، ومنهجه العقلي ،و تجربته الإنسانية الفريدة تتعاضدجميعاً لتمنح أحاديثه عند المستمع أو المشاهد قوة تأثيرية نافذة عجيبة ! ماكان ليصل إلى ما وصل إليه من مكانة رفيعة في فن التحديث ، لو لم يكن ملتصقاً بواقعه أشد التصاق !  كان من أهم العناصر التي يغذي بها الطنطاوي حركيته عنصرُ المفاجأة الفكرية اللغوية ، فيثيرنا بلفتة لغوية جديدة ، أو تفجير فكري غريب ، أو خطفة خيالية مدهشة ، ويحقق بهذا الحركةَ الفنية المطلوبة !!

***              ***      ***

وأما في كتاباته ومنها كتابه { الذكريات } فيتحدث فيه دون تكلف أو تصنع ! وقد استعرضت في مقالة لي ماكان جمعه حفيده مجاهد مأمون ديرانية في كتاب ، من مقالات وأحاديث إذاعية تحت عنوان ( نور وهداية) تيمناً ببرنامجه الشائع الصيت بين الناس ! فكتبت معلقاً : وإذا رحت تدقق في كل مقالة ، أو حديث مذاع ، أو خطبة فإنك لاتدري بماذا تعجب ! أبأسلوب الكاتب ، وهم يتحدث إليك بلا كلفة ، أم برجاحة عقله وصفاء فكره ، وغنى تجاربه ! ولانبالغ إذا قلنا إن علياً الطنطاوي مدرسة في أحاديثة المذاعة ، وكتاباته المتنوعة الرائعة ! مدرسة قائمة لاتغلق أبوابها في وجه أحد ، ينجذب إليها ، وينتفع منها العامي والمثقف ؛ فهي لاتخص طبقة دون طبقة ..... فهو إن حلّق في موضوعاته وبأفكاره وسمق لايقطع الصلة بالواقع ولو كان الواقع متردياً ! وإن صاغ معلوماته على السجية فهو لاينزل بها إلا ليرتفع بقارئ قليل المعرفة ، أو سامع ضئيل التجربة !

إن القراءة لمثل علي الطنطاوي كما أنها تسر النفس، وينشرح لها الصدر ، فهي تربي وتعلم وتثقف وتنور وتبشر وتصلح ! !

ولازلت أذكر مقالتيه القصصيتين  :أعرابي في السينما - وأعرابي في الحمام ، على كثرة ماقرأتهما فقد  تأثرت بأسلوبه ، فكتبت عن هذا الأعرابي البائس : أعرابي في البرلمان ،  ذات نقد سياسي مغلف بسذاجة ذلك الإنسان البسيط ، وفطرته السليمة !

كما كان لقصصه نصيب في كتابي ( موسوعة القصص التربوي ) ككتابه قصص من الحياة ، فقد استطاع الكاتب أن يوظف القصة فيما يدعو إليه من إصلاح ، وهذا التوجه قد يدفعه إلى الخروج عن موضوعية القصة ، أو يهدد البناء الفني في بعض الأحيان ، وقد أشار إلى ذلك في خاتمة الكتاب بالقول : لم أكتبها على أنها قصص ، أسلك فيها المذاهب المسلوكة للقصة ، وأستوفي فيها شرائطها الفنية ، ولم أفكر في ذلك ......... فإن وافقت أسلوب القصة الذي تعرفونه فبها ، وإلا فسموها مقالات أو صوراً ؟!

ومع اهتمامه بالواقع فقد كان له اهتمام بالتاريخ وعرضه في أصح الروايات  كما في كتابه ( قصص من التاريخ ) إذ جاب الكاتب مختلف عصور التاريخ الإسلامي مبرزاً صفحات ناصعات،ومآثر  باقيات !  هذه القصص لم تكن تاريخاً فحسب ، ولم تكن فناً خيالياً كذلك ، فقد مزج بينهما ، فكانت الحقائق التاريخية تخطر في ثوب فني قشيب ، تشد القارئ بمضمونها وأسلوبها !

وكذلك كان للناشئة نصيب من اهتمامه ، فقد صاغ سبع حكايات مستمدة من التاريخ ! وليس معنى هذا أنه نقلها من كتب التاريخ ، واكتفى بذلك ، بل أخذ الخبر التاريخي أو الواقعة المروية ، فأخرجها إخراجاً فنياً ! وربما زاد قليلاً أو كثيراً ، وقد كان بعضها في أصله سطوراً معدودات ، فأغناها المؤلف بأسلوبه الفني ، ولكنه لم يخرج في جوهر القصة عن الأصل !!

***            ***      ***

وقد قدّر الله لنا زيارته قبل أربع سنوات  تقريباً من وفاته  التي كانت عام ١٩٩٩ م  مع الصديق الأخ عبد الله زنجير ،  ونحن نتصور وقد تقدمت به السن أننا لن نجد عنده شيئاً جديداً ؟ وكان الأمر على خلاف ماقدرنا ؛ فهو حاضر الذهن ، سريع البديهة ، يلون حديثه بفكاهة أو تعليق ولا يغيب عن واقع المسلمين وقضاياهم !!

لم يكن اللقاء طويلاً - أو هكذا أحسسنا - فهو هو في أحاديثه المذاعة ، وفي ذكرياته التي  جُمعت في عشرة أجزاء !

لقد كانت ساعة لاتنسى ! ولكم رجونا أن تكون ساعات ! إذ لم نحتج إلى جهاز تسجيل ؛ لأن كل ماتحدث به الشيخ انتقش في ذاكرتنا ونفوسنا !!

    رحم الله أديب الشيوخ و شيخ الأدباء ، فهو شخصية لايحجبها النسيان !

اقرأ له لتشعر أنه يكلمك من خلال أسلوبه السهل الممتنع ،ومن خلال صدقه فيما ينقل لك من صفحات حياته !!

وسوم: العدد 927