ناصر خان وكتيبته الهندسية المينائية

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

عرفناه مديراً لقسم الشؤون الهندسية في الزمن الذي كان فيه هذا القسم يحتل الجناح الأهدأ من أجنحة البناية التي صممها والده, وأشرف على مراحل بنائها بنفسه.

في هذا الجناح يبسط الهدوء سلطته المطلقة على الأروقة المشغولة بمتابعة تنفيذ المشاريع المينائية الثقيلة, بينما تتوزع الدوائر الأخرى التابعة للقسم بين (أم قصر) و(خور الزبير), و(الفاو), و(الجبيلة), و(الموانئ النفطية), حيث ينتشر المهندسون في كل المحاور الميدانية.

كان رئيس المهندسين (ناصر خان) هو المايسترو المختص بقيادة الكتيبة الهندسية الساهرة على توفير الدعم والإسناد لكل العمليات المينائية والملاحية في قاطع الموانئ العراقية.

جودة الأعمال تفصح عن الأصالة

تعود جذور والد الأستاذ (ناصر خان) إلى إقليم البنجاب في الهند, فوالده هو رئيس المهندسين (محمد خان) من مواليد إقليم البنجاب في الهند عام 1901, من أسرة معروفة بالتزامها الديني, وتوجهاتها العلمية والفقهية, وهو ابن السيد (محمد علي خان) المولود في الهند عام 1881, وهو بريطاني الجنسية, من أشهر تجار السكر في البنجاب. متزوج من الأميرة (سرور) أحدى بنات الوالي البنجابي وتحمل الجنسية البريطانية أيضاً.

ولهذه الأسرة تفرعات واسعة, موزعة على الرقعة الجغرافية الممتدة من البنجاب إلى أفغانستان, حتى تصل إلى عربستان, وديالى في العراق.

كان الجد الأكبر (محمد علي خان) يريد من أبنه (محمد خان) التفرغ لدراسة الفقه, لكن الابن اختار الدراسات الهندسية التطبيقية, التي كان مهووساً بها, فشد الرحال إلى لندن, عاقداً العزم على نيل أرفع الدرجات العلمية في هذا المضمار, واستطاع بصبره ومثابرته أن يحقق رغباته الدراسية معتمداً على مواهبه الرياضية, وما أن حُسمت الحرب العالمية الأولى لصالح الحلفاء, حتى كان المهندس الشاب (محمد خان) أول الوافدين على العراق, وفي طليعة المهندسين العاملين في الشركات البريطانية المكلفة بمد خطوط السكك الحديدية بين بغداد وتركيا, فاتخذ من مدينة (كركوك) محطة مؤقتة لإقامته.

ارتبط هناك بصداقة وثيقة مع (الملا علي أخوان) صاحب أول صيدلية في كركوك, وهو الذي قام بتزويجه من ابنة الدفتردار التركماني (علي أفندي), فعقد قرانه على الآنسة (خيرية), ورزقا في كركوك بابنهما البكر (مصطفى كمال), ثم انتقل مع أسرته الصغيرة إلى جنوب العراق حيث المشاريع الهندسية والمعمارية الجديدة.

سافر بعدها إلى عربستان, وحط الرحال في مدينة الناصرية ( ونعني بها ناصرية الأحواز المناظرة لناصرية العراق), فتعمقت علاقاته بأمراء قبيلة كعب, وكان من المرحب بهم في بلاط الشيخ خزعل, وقيل انه كان يرتبط به بوشائج القربى البعيدة, إلا أننا لا نعرف حتى الآن صلة القرابة بينهما.

رًزق (محمد خان) في الرابع عشر من شهر شباط (فبراير) عام 1931 بابنه الثاني (ناصر), الذي حمل أسم (الناصرية), لكن محل ولادته مسجل رسميا في محلة القشلة بالبصرة, ورُزق فيها بابنته البكر (بدرية).

غادر الأحواز بعد مقتل الشيخ خزعل, فعاد إلى البصرة, وأستقر في بداية الأمر في المنازل القريبة من سوق (بن دانيال) اليهودي, والذي يطلق عليه عامة الناس (سوق بندانير) القريب من مدرسة (المربد) الابتدائية في العشار.

سافر (محمد) إلى إمارة البحرين تلبية لدعوة خاصة من حاكمها الشيخ (حمد بن عيسى بن علي آل خليفة), لوضع اللمسات الحضارية لأول مطار في البحرين, فخصص له الشيخ جواداً يتنقل على صهوته في موقع المشروع.

كافأته الحكومة العراقية, فأصدرت مرسوماً ملكياً بمنحه الجنسية العراقية في الثامن من شهر شباط (فبراير) عام 1942 تقديراً لخدماته الجليلة في أرض الرافدين, وكان من خيرة المهندسين الرواد الذين أسهموا في نهضة الموانئ العراقية, وفي تشييد مقرها الجديد في المعقل, وكانت له إسهامات أخرى في بناء المساجد والجوامع التي ظلت شاخصة في منطقة المعقل حتى يومنا هذا.

اجتمع به مدير عام الموانئ في عصرها الذهبي (الأستاذ مزهر الشاوي), وطلب منه استنفار جهوده الهندسية وتوظيفها في تنفيذ مشروع ميناء (أم قصر) بأرصفته وسقائفه ومعداته, وتعبيد الطرق المؤدية إليه, في الزمن الذي كانت فيه هذه المنطقة عبارة عن صحراء جرداء مهجورة. يحاصرها البحر من شرقها وجنوبها, ويطوقها البر من غربها وشمالها, فكان رئيس المهندسين (محمد خان) أول من خيم  هناك ليفتتح نافذة جديدة للعراق على بحار الله الواسعة.

أكتمل مشروعه على الوجه الأكمل, لكنه لم يكن متواجداً في اليوم المقرر لافتتاحه على يد الزعيم عبد الكريم قاسم, فقد توفاه الله, وكان الميناء الجديد خاتمة أعماله الجليلة, فحزنت البصرة على فراقه, وودعته إلى مقبرة الحسن البصري في موكب مهيب شارك فيه وجهاء المدينة, وشاءت الأقدر أن يأتي من بعده أبنه (ناصر خان) ليكمل مسيرته المينائية في بناء الأرصفة الشمالية.

أما أولاده وبناته فهم: مصطفى كمال, الذي توفاه الله في طفولته, ثم الأستاذ ناصر, ثم الأستاذة بدرية, وهي من المربيات الفاضلات, وزوجة الأستاذ علي التميمي ومديرة لمدرسة ابتدائية, ثم الأستاذ قاسم, الذي كان مديراً لإدارة شركة نفط البصرة, ثم الأستاذة فوزية, وهي زوجة المهندس عادل الشاطي, ومديرة لمدرسة ابتدائية, ثم اللاعب العراقي الدولي والمدرب الوطني الكفء في ملاعب كرة السلة الأستاذ (علي خان), ثم خبير المعادن والسباكة الفنان (أكرم خان).

على خطى والده

عاش (ناصر بن محمد بن محمد علي خان) في البصرة ودرس في مدارسها الابتدائية والثانوية, ثم التحق بجامعة بغداد, وأكمل دراسته الجامعية في كليتها الهندسية عام 1952, ثم سار على خطى والده في المسارات العلمية الشاقة, متغرباً في المملكة المتحدة لإكمال دراسته العليا في الهندسة.

حصل على شهادة الماجستير, والدبلوم من جامعة (أمبيريل) في لندن عام 1955, متخصصاً في أعمال الأرصفة البحرية, ثم باشر عمله كمهندس أعلى بالموانئ العراقية عام 1956. عمل تحت إشراف والده في بناء الأرصفة التجارية  لميناء أم قصر عام 1961, وهو المشروع الأول والأخير الذي اشترك فيه الأب والابن في مضمار واحد. ارتقى بعد اكتمال ميناء أم قصر إلى درجة (رئيس مهندسين), وحصل على الزمالة العليا (FICE) من نقابة المهندسين البريطانيين عام 1975.

أصبح في العام نفسه عضواً أصيلاً في مجلس إدارة الموانئ, ومديراً عاماُ لخدماتها المهنية, فتحمل مسؤولية تنفيذ التصاميم الهندسية, والمشاريع المينائية بكل تفاصيلها المرتبطة بالاتصالات السلكية واللاسلكية, وأعمال صيانة السفن والمعدات الآلية, وإصلاح عطلات الرافعات المينائية, ومعدات المناولة والأجهزة الالكترونية, وإصلاح السقائف والمخازن وواقيات الأرصفة وأنظمة الحماية الكاثودية, وبناء أبراج الاتصالات وأبراج السيطرة الملاحية, ثم أصبح مديراً لدائرة الشؤون الهندسية بكل أقسامها وشعبها وتفرعاتها, وظل في منصبه العالي حتى عام 1992 عندما أُحيل إلى التقاعد بناءً على رغبته الشخصية, ثم غادر العراق عام 1996, واستقر مع أولاده (محمد وفراس) في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية.

بصماته في الموانئ العراقية والعربية

ترك الراحل ناصر خان بصماته الهندسية على واجهات الموانئ العراقية والعربية, والتي ظلت شاهدة على براعته الهندسية حتى يومنا هذا, نذكر منها تصاميمه الذكية لمشروع الأرصفة العشرة في ميناء أم قصر, وتصاميمه لأرصفة الحاويات, وتنفيذه لمشاريع محطات تحلية المياه, وشبكات مياه الشرب, ومجاري الصرف الصحي, ناهيك عن مجموعة كبيرة من المباني الحكومية والمدرسية والمراكز الخدمية.

شارك أيضاً في تصميم الأرصفة التخصصية لميناء خور الزبير, وترك لمساته الهندسية على منظومات الأحزمة الناقلة لحبيبات الحديد الأسفنجي, وأكياس اليوريا والأسمدة الكيماوية, ومواد الفوسفات والكبريت الصب, وهو الذي صمم المنطقة الحرة بمكوناتها الهندسية المرتبطة بالأرصفة.

أما أعماله في الموانئ العربية فقد أبتدئها بتأسيس مكتب (المربد) الهندسي في عمان, وقام بإعداد دراسة لتطوير حوض بناء السفن في ميناء عدن, ودراسة الجدوى الاقتصادية لتعميق المسارات الملاحية المؤدية إلى الأرصفة العدنية, وإنشاء الحواجز البحرية في الميناء, وبناء صوامع الغلال في المنطقة الحرة بعدن بتكليف من شركة سعودية, واشترك بمجموعة من الأعمال والمشاريع الهندسي لبعض الموانئ العربية والأجنبية تميزت بدقتها وموسوعيتها.

أنشطته العلمية والتطويرية

شارك الراحل في معظم المؤتمرات الهندسية والبحرية المقامة في العراق, وأنجز مجموعة كبيرة من البحوث والدراسات, نذكر منها مؤتمر مكافحة التلوث البحري المنعقد عام 1971 في الدانمارك, والمؤتمر الدولي حول إدارة الموانئ والمرافئ المنعقد في اليابان عام 1980, والمؤتمر المينائي الدولي المنعقد عام 1997 في أمستردام هولندا, أما دراساته المكتوبة باللغة الانجليزية فهي:

·        An Experimental Investigation of Shear  Strength of Plastic hinge in Reinforce Concrete 1955

·        Port Management and Cargo Handling 1986

·        Design High Strength Concrete  1990

طلائع الكتيبة الهندسية الثالثة

لقد قاد المهندس الجد (محمد خان) كتيبته الهندسية الأولى في الربع الأول من القرن الماضي, وجاء من بعده المهندس الأب (ناصر خان) ليكمل المسيرة الإبداعية ابتداءً من منتصف القرن الماضي وحتى نهايته, ثم جاء المهندسون (محمد خان), و(فراس خان) ليواصلوا السير في الألفية الثالثة على النهج الذي خطه الأجداد والآباء.

أسرة نموذجية أسسها الراحل (ناصر) في البصرة بزواجه الموفق من بنات إحدى العوائل الكريمة في الرابع والعشرين من الشهر الأول عام 1959.

رزقه الله بابنه الأكبر (محمد), الذي درس الهندسة في جامعة (ساوث هامبتون), يعمل حالياً في السعودية, ثم أبنه الثاني (فراس), الذي درس الهندسة أيضاً في جامعة البترول والمعادن بالظهران, ثم التوأمان (بان وأحمد), اللذان اختارا دراسة الطب, فتخرجا في جامعة البصرة, وأكملا دراستهما في أمريكا.

انتقل الأستاذ الكبير (ناصر خان) إلى رحمة الله في الثامن عشر من تموز (يوليو) من عام 2006, وكانت وفاته بمدينة جدة في السعودية, وبموته انطفأت شعلة أخرى من مصابيح فناراتنا المشرقة التي أضاءت أبراج الموانئ العراقية ردحاً من الزمن.