في حضرة نلسون مانديلا

في حضرة نلسون مانديلا

طارق الهاشمي

العظماء علامة فارقة في سفر البشرية، لذا اكتفيت بالإشارة إلى اسمه للدلالة على سيرته، وربما عنوان يغني عن كتاب، وقد أطنب الكتاب في الحديث عن فكر وفلسفة نلسون مانديلا الذين استهوتهم خياراته في الحزم متصدياً للتمييز الظالم وطلب العدالة مقرونة ليس كما هو متوقع في إقصاء الآخر والثأر منه، بل على العكس في الاقتراب منه والتصالح معه ونسيان مظالمه اختصاراً للزمن في التماس الاستقرار والعيش المشترك في ظل مجتمع تتكافأ فيه الفرص.

ميزتان ما اجتمعتا في تاريخنا المعاصر في قلوب الرجال إلا ما ندر، سواء ممن سبقه أو ربما ممن سيلحق به في ما بعد. هناك الكثير بالطبع من رواد حركة التحرير الوطني في العالم الثالث الذين تصدوا لظلم المحتل وقهروه لكنهم فشلوا - حيث نجح مانديلا - في كبح غريزة الثأر والانتقام. وهي مهمة ليست سهلة.

أعلم، ليس جميع ما احتواه سجل مانديلا هو ما يميزه أو يقتدى به، بل هناك نقاط سود وشبهات مثيرة للجدل طبعت سني حكمه خلال الأعوام 1994 - 1999، أولها أن السود الذين خلصهم مانديلا من تعسف الفصل العنصري عجز عن أن يوفر لهم فرصاً متكافئة للعمل لهذا بقيت البطالة في أعلى معدلاتها مقارنة بالبطالة عند البيض، تفاقمت الجريمة المنظمة، البغاء، الإصابة بمرض الأيدز، المخدرات... إلخ، وهو ما دفع سبعمئة وخمسين ألفاً من البيض غالبيتهم من ذوي الكفاءات إلى مغادرة جنوب أفريقيا بسبب سوء الأوضاع والقلق حول المستقبل، كما اتهم مانديلا أيضاً بأنه كان ليّناً في مكافحة الفساد.

سمعت أيضاً أن مانديلا المسيحي لم يكن متديناً ورفض مراراً المشاركة في مناظرة تجمعه مع الداعية الإسلامي المشهور في جنوب أفريقيا الراحل الطيب الذكر أحمد ديدات. والحديث في هذا المجال يطول، لكن هدف مقالتي ينحصر في التركيز على قضايا المصالحة وقبول الآخر ومانديلا بشهادة الجميع هو في هذا المجال علم.

في مرافعته أثناء محاكمته المشهورة في 20 نيسان (أبريل) 1964 قال مانديلا: «طول حياتي كرست نفسي لكفاح الشعب الأفريقي فقد حاربت ضد سيطرة البيض كما حاربت سيطرة السود. أعتز دائماً بمجتمع ديموقراطي حر نعيش فيه جميعاً في تناغم ونحظى بفرص متساوية، إنه نموذج أتمنى أن أعيش من أجله، بل وأن أحققه، وأن أموت فداء له».

ما كان مانديلا طوباوياً، بل كان واقعياً يتقن جيداً اختيار أدوات الصراع، ويتوفق في اختيار التوقيت المناسب لاستعمالها وهذا ما دفعه وهو المعروف بنزعته إلى السلم واللاعنف، إلى النزوع لاستخدام القوة بتشكيل منظمة «رمح الأمة» برئاسته قامت بأول هجوم على مصالح حكومية في كانون الأول (ديسمبر) 1961، بعد أن بات مقتنعاً بأنه لم يعد أمام «المؤتمر الوطني الأفريقي» خيار ثالث، إما الاستسلام أو القتال. لكنه حتى وهو يختار العنف تجنب استهداف الإنسان. حيث لم تسجل هذه الهجمات خسائر بشرية، لأنها تركزت على ضرب مصالح حكومية ومحطات توليد الطاقة.

في عام 1985 كانت جنوب أفريقيا في قلب العاصفة بسبب العنف المتفاقم من جانب حكومة البيض من جهة والأفارقة من جهة أخرى وكانت نجاة البلد تتوقف على حدوث تغيير سريع ساهم في تحقيقه ضغط المجتمع الدولي، إضافة إلى الضغوط الأمنية ما دفع حكومة الفصل العنصري إلى التفاوض مع مانديلا عام 1986، على رغم بقائه نزيلاً في السجن حتى شباط (فبراير) 1990.

كانت مخاوف حكومة البيض تتلخص في: أن الأفارقة هم الغالبية في هذا البلد، وبالتالي فإن التمثيل النيابي العادل الذي يطالبون به سيعني أن السلطة ستكون بأيديهم.

رد مانديلا على الفور: تكون سلطة مشتركة، حيث كانت الديموقراطية المتعددة الأعراق هي هدفنا دائماً.

رد المفاوض الأبيض: إذاً، أنت لا تطلب أن يحظى المؤتمر الوطني الأفريقي بالسيطرة الكاملة؟

أجاب مانديلا: لا، نحن لا نطلب ذلك يا سيد دي كليرك، وإنما نقترح تسوية بين جميع الأطراف.

انتهت المفاوضات بنجاح في بداية عام 1993. وكانت جنوب أفريقيا مستعدة لأن تصبح أمة حرة. وفي أيار (مايو) 1994 حلف نلسون مانديلا اليمين القانونية ليصبح بذلك أول رئيس أفريقي لدولة جنوب أفريقيا واحتفظ برئيس وزراء آخر في حكومة الفصل العنصري هو دي كليرك كأحد نواب الرئيس. اكتفى مانديلا بفترة رئاسية واحدة، على رغم أنه كان مقبولاً أن يترشح لأخرى.

ترأس مانديلا الانتقال من حكم الأقلية بنظام الفصل العنصري إلى الديموقراطية المتعددة الثقافات، ورأى في المصالحة الوطنية أنها المهمة الأساسية في فترة رئاسته. وبعد أن شاهد كيف تضررت الاقتصادات الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار برحيل النخب البيض، عمل مانديلا على طمأنة السكان البيض في جنوب أفريقيا بأنهم ممثلون في «أمة قوس قزح».

على رغم الجدل المثار، أشرف مانديلا على تشكيل «لجنة الحقيقة والمصالحة» للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت في ظل نظام الفصل العنصري من جانب كل من الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وعين ديزموند توتو رئيساً للجنة. منحت اللجنة عفواً فردياً لكل من يدلي بشهادته حول الجرائم التي ارتكبت في حقبة الفصل العنصري. في شباط 1996، سلم مانديلا تقريراً عن التفاصيل وعقدت جلسات الاستماع التي دامت عامين حول عمليات الاغتصاب والتعذيب والتفجيرات والاغتيالات. أثنى مانديلا على ما أنجزته اللجنة وأشار إلى أنها ساعدته في نسيان الماضي والتركيز على المستقبل، وهكذا أسدل الستار نهائياً على حقبة مظلمة في تاريخ الدولة.

فضيلة مانديلا في خياراته أنها نجحت وأسست لدولة ناجحة. لذا، بات نموذجاً إنسانياً في التعايش يمكن أن يحتذى في مناطق أخرى من العالم، خصوصاً تلك التي لا زالت تعصف بها مشاكل مشابهة في التمييز الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو العدلي. وهنا بيت القصيد، إن مجرد الوقوف عند التجربة نقداً وتحليلاً لا يكفي بل لا بد من إسقاطها على أرض الواقع واختبار مدى صلاحيتها في تعافي شعوب في مناطق أخرى من العالم تعاني من أمراض مشابهة، وأقصد الظلم والتمييز والعنف.

مناطق عدة في العالم لا زالت تعاني، لكني بالطبع لن أستثني بلدي العراق، إذ تنامت لدينا بعد غزو العراق عام 2003 ثقافة تمييز طائفي لم يسبق أن شهدها العراق في تاريخه الحديث. صحيح لم نرَ حتى الآن مطاعم وحدائق ومرافق عامة ودور سينما ومكتبات... إلخ كتب على مداخلها (لا يسمح بدخول السنّة)، لكن الصحيح الواقع فعلاً ومن دون الحاجة إلى هذه العبارة أن التمييز أصبح ظاهرة في مجالات عدة من الحياة، في التعيين في الوظيفة العامة، في تخصيص مشاريع التنمية بين المحافظات، في البعثات الدراسية، في مناقصات المشاريع، في المناسبات الدينية، في القرار السياسي، بل حتى في عبور نقاط السيطرة المنتشرة في طول البلاد وعرضها، حيث التعامل مع المارة يجرى على الهوية، بين أبناء العامة وهم السنّة وأبناء الخاصة وهم الشيعة، هكذا يسمونهم! الأول قد لا يسلم من سخرية أو شتم أو تهديد أو أقلها سب سيدتنا أم المؤمنين عائشة أو سيدنا الفاروق رضوان الله عليهما، بينما الثاني باعتباره من أتباع آل البيت يعبر بسهولة ويسر ومن دون منغصات. أثناء فترة الفصل العنصري لم يكن يسمح للأفارقة السود بالتصويت والترشح للانتخابات أو للمناصب الحكومية العامة، أما في حالة العراق، يسمح للسنّة بالمشاركة في الانتخابات لكن غير مسموح لهم بالفوز ومتى فازوا لا يسمح لهم بتشكيل الحكومة، أذكر بنتائج انتخابات عام 2010.

سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مرفوضة، لأنها تميز بين البشر من دون مبرر منطقي أو حضاري وتحط من كرامة الإنسان وتحرمه من حرية الاختيار والفرص، لكنها تبقى أرحم مما يجري في العراق اليوم، إذ ما يجري أشد وأخطر. إنه يتجاوز التمييز إلى التطهير، اختطافات وقتل بالجملة من مواقع العمل، أعضاء اللجنة الأولمبية وموظفو دائرة البعثات ومعهد النفط مثلاً. قتل متظاهرين سلميين، الحويجة مثلاً. استهداف قيادات سياسية وحرمانها من العمل السياسي، الدليمي والدايني والكربولي وأسعد الهاشمي والجنابي والعيساوي وبالطبع كاتب المقال. قتل رموز دينية بالمئات كان آخرهم الشيوخ خالد الجميلي وقاسم المشهداني. تفريغ الجامعات والمؤسسات التعليمية من خيرة كوادرها على أساس الانتماء مثلاً، والأجهزة الأمنية على خلفية خضوعها لقانون المساءلة والعدالة بينما يستثنى الشيعة لمبررات مصطنعة. مصادرة مساجد بالمئات، مداهمات تفتيش تجرى ليل نهار، اعتقالات على الشبهة وفق المادة 4. إرهاب للشباب لا يتوقف، يرافقه تعذيب واغتصاب النساء وحرمان من الحرية خلافاً للدستور والقانون، إذلال وتضييق لأغراض التهجير القسري، إعدامات لأبرياء، سياسة قطع الأعناق تترافق مع سياسة قطع الأرزاق... إلخ. هذا بالتأكيد أكثر من كونه تمييزاً طائفياً. إنه تطهير طائفي.

أسأل هل كان مانديلا سينجح في العراق كما نجح في موطنه جنوب أفريقيا؟ هل مشروعه للمصالحة يصلح للعراق؟ إم إن العراق في حاجة إلى معجزة كي يخرج من هذا النفق؟