الممتحنة المهاجرة : (أم كلثوم بنت عقبة )

في البيت الذي اشتدت خصومته للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولدعوته عاشت أم كلثوم ؛ لتشهد نار العداوة المتأججة على الإسلام والمسلمين . فقد وقف أبوها ( عقبة بن أبي معيط ) مواقف العداء والإيذاء والتربص . وكان أحد الذين يجهدون لطمس أنوار النبوة التي أضاءت شعاب مكة وما حولها . فإن طلب القوم رجلا يبحث عما يردون به على محمد ودعوته ، كان عقبة ثاني اثنين مع النضر بن الحارث يركب إلى يثرب ليٍسأل اليهود عن محمد – صلى الله عليه و سلم - ، و يتجشم مشاق السفر  من أجل أن يعود بكلمة يستعين بها على تكذيب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . و إن كان الإيذاء الذي يتعدى حسن الجوار فإن عقبة أحد الخمسة الذين يتولون كبر هذه القبيحة برمي الأقذار أمام بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- !.

وحين تثور ثائرة المشركين حمية لتجارتهم التي اعترضها المسلمون ، يكون عقبة على رأس المحرضين لقتال محمد – صلى الله وعليه وسلم- و أصحابه ، يهزأ بأمية بن خلف ، لما فكر هذا بالقعود عن الخروج بنفسه .

و لم تنته تلك العداوة إلا بقتله صبرا، بعد أن وقع أسيرا في يد المسلمين يوم بدر. فهل في مثل هذه الأجواء المدلهمة بظلمة الشرك ، وعداوة العصبية الرعناء ، يمكن للنور أن يتغلغل في بيت عقبة ؟!وعت أم كلثوم كثيرا من هذه الأحداث ،وتسرب نور الإيمان إلى قلبها ، فلامس منها فطرة نقية غطتها زيوف الجاهلية ، فكتمت ما في صدرها ، و استخفَتْ بإيمانها حتى يأتي أمر الله .

بدأ المسلمون يخرجون مهاجرين إلى يثرب فرارا بدينهم ، وقد جعل الله لهم دارا وأنصارا و خلت مكة من المسلمين ، أو كادت ، ولم يعد فيها ما يرغب بالبقاء ! أي حياة قاسية – اليوم – في مكة ؟.

رؤوس الكفر التي تحطمت قد أنبتت رؤسا أخر .... و أخبار المدينة تتسرب إلى مكة ،  فتنتعش لها قلوب المستضعفين ، ولكن كيف السبيل، وعيون قريش تترصدهم ؟.

أعدت أم كلثوم العدة ، و لم يدر أحد من الناس بما عقدت العزم عليه . أفلم يأن لها ، و قد مر سبع من السنين عجاف ، أحست خلالها أن أيامها تنقضي ضياعا ، وأن سنوات عمرها تشتت بددا ، أن تهاجر و تلحق برسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟! لقد عزمت على أن تحسم الأمر، و تتغلب على ضعف المرأة التي لا ناصر لها ! فهي لم تعد تطيق الحياة بمكة ، ودون يثرب عقبات كثيرة …

و لكن هل تقوى المرأة منفردة على السفر من مكة إلى يثرب ؟ وهل من مهاجر تكون في رفقته، و تهاجر معه؟.

حزمت أم كلثوم أمرها ، و أسكتت نداء التردد ، و عزمت على الخروج متوكلة على الله .

كانت "خزاعة" قد دخلت في حلف النبي صلى الله عليه و سلم- فركبت أم كلثوم الطريق بصحبة رجل منها، وليس لها ما يحملها إلى يثرب !.

 وكان الناس قد تسامعوا بشروط الحديبية ، و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وفى لقريش بما اتفق معها عليه ، فرد عددا من الفارين من مكة بإيمانهم ، ولم يخل بشروط الحديبية !.

لم تكن أم كلثوم تعير ذلك اهتماما ، فحسبها أن تصل إلى المدينة، ثم يقضي الله أمرا كان مفعولا …

أيردها رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهي امرأة – يعلم ما في ردها من فتنة لها؟.

و لكن ... ألم يرد أبا جندل و غيره بحسب الشروط ؟!.

كان شوقها إلى موطن الإسلام الجديد، و إلى رؤية المسلمين و العيش معهم ، يبدد تلك المخاوف . فعسى أن يجعل الله لها في يثرب أهلا و قرابة ، بعد أن تقطعت كل صلة بينها و بين ذويها .

لقد أقدمت على الهجرة ، وهي تعلم ما لعملها من أثر على سمعة آل معيط ، حملة لواء العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و من ضعضعة لصفوف المشركين ، حين تفر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ابنة أحد كبرائهم الذين دفعوا حياتهم ثمنا لهذه العداوة .

تسامع الناس في مكة بفرار أم كلثوم ، و اشتعل الغضب في صدر أخويها ، و لم يجدا في الأمر متسعا للبحث و المشاورة ، فهما يعرفان طريق يثرب ، و لا بد أنها لم تجز فيه إلا قليلا ..

                          

                                 *       *      *

استوقفهما أحد المشفقين عليها ، يريدهما ليتريثا ، فهل هي إلا امرأة لا تنقص في قريش عددا ، ولا تزيد في أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قوة ؟؟.

إنهما ليعلمان ذلك ، و لكن فرارها لم يكن بأهون عليهما من قتل أبيهما في بدر ! إنها فرت إلى قاتل أبيها ، فهل بعد ذلك من عار ؟.

كان الطريق إلى يثرب يطوى أمام أم كلثوم ، وهي تغذ السير ،ماشية على قدميها ، و كان شوقها يمهد لها الدروب، و يسهل لها ما عسر منها.

                             *         *            *

لم يخطر ببال أخويها ، وهما يحثان الخطى خلفها أن يعودا إلا وهي معهما ، كما عاد غيرهما من أهل مكة ، فشروط الحديبية واضحة ، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – لم يخل بها .

كل ذلك كان يدور في خلد أخويها... أيام قليلة ستمضي ، و ستلاقين – يا أم كلثوم – عقبى ما صنعته يداك .... وستسمع قريش بأن آل عقبة قد قيدوا فتاتهم و رموها في زاوية من زاوية بيوتهم ، لتموت أو ترجع عن إيمانها بمحمد – صلى الله عليه و سلم - ....

أم كلثوم في المدينة ، و المسلمون يهنئونها بسلامة الوصول ، ويحيطونها بالمحبة و التقدير . ولم يمض على وصولها غير يومين حتى انتهى إلى مسامعها أن أخويها قد وصلا إلى المدينة قادمين لملاقاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .

و وقف الوليد و عمارة غير مسترحمين ، ولا خائرين ، وقد شد عضدهما أن شروط الحديبية لم تزل قائمة ، و أن محمدا صلى الله عليه وسلم رد أبا جندل وغيره ، ولم يشفع لهم إيمانهم عند التمسك بما عاهد عليه محمد صلى الله عليه وسلم القوم .

فقالا ، و هما في ثقة من أمرهما : يا محمد !أوف لنا بشروطنا ، وما عاهدتنا عليه .

                              

                         *          *        *

لم  يكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لينكث بوعد ، أو ينقض عهدا أعطاه .

كانت أم كلثوم تعلم ذلك كله ، ولم يمنعها علمه بهذا الأمر أن تستنجد به، فقالت : أتردني – يا رسول الله – إلى الكفار يفتونني عن ديني ، و لا صبر لي . وحال النساء من الضعف ما قد علمت ؟.

و ضاقت الدنيا على أم كلثوم بما رحبت ، و اشتد عليها الهم و الكرب ، و الله تعالى يسمع و يرى ، فجعل لما علم من صدقها مخرجا ، و أنزل على رسوله آيات بينات ... ومرت الساعات عصيبة – و تنزل الوحي، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –لأخويها : "كان الشرط في الرجال ، لا في النساء " .

وتنفست أم كلثوم الصعداء ، و انجاب عن صدرها من الهم ، ما الله تعالى أعلم به ! و لو أعطيت الدنيا بتلك الآيات لما رغبت عنهن .

(يا أيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) / الممتحنة :10/.

بشراك – أم كلثوم – فإن الله تعالى قد فصل في الأمر ، و رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قد امتحنك بما أنزل الله تعالى ، فصدقت القول أنك ما خرجت من أجل زوج و لا مال ، و إنما خرجت حبا في الله و رسوله – صلى الله عليه وسلم- .

و تطلع الصحابة إلى الزواج من المرأة التي أنزل الله تعالى فيها قرآنا ، و هاجرت في سبيله ، إيثارا للإسلام على ما سواه ، و تحملت في سبيل ذلك المخاطر و المشاق فتقدم أربعة منهم لخطبتها ، فاحتارت من تختار، وبمن ترضى ...

كان عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أخاها لأمها ، فاستشارته في ذلك ، ولم تشأ أن تقطع أمرا دونه ، فهو أعرف منها بالرجال ، وأعلم بصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . ولكن عثمان أشار عليها أن تأتي النبي – صلى الله عليه وسلم - . فأتت النبي – صلى الله عليه وسلم -

 فأشار عليها بزيد بن حارثة ، و كان أحد الأربعة الذين تقدموا لخطبتها.

                         *          *         *

و ظللت السعادة بيت الزوجية ، فقد كان كل منهما لائقا بصاحبه، فزيد حب رسول الله - صلى  الله  عليه وسلم - ، آثر الرسول – صلى الله عليه وسلم – على أبويه ، يوم أن جاءاه يفتديانه ، ليعودا به إلى قومه بعد غيبة طويلة ، و لكن زيدا لم يستبدل أحدا بصحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخدمته .

و إنها لجديرة برجل مثل زيد ، فهما المؤثران الله و رسوله – صلى الله عليه وسلم – على ما سواهما من أهل و قرابة .

و لكن أم كلثوم لم تهنأ طويلا بهذا الزواج ، فقد خرج زيد إلى مؤتة و لقي الله شهيدا ، ولم  يكن مضى على زواجهما أكثر من عام .

المراجع :

1           - السيرة النبوية لابن هشام :ج-1

            2- طبقات ابن سعد :ج -8

            3- المستدرك :ج -4

            4- سير أعلام النبلاء : ج-2

            5- أعلام النساء :ج-

           6- صفوة التفاسير: ج-2

وسوم: العدد 978