الشاعر الشهيد محمد عواد

هو رابع الشعراء الذين قتلتهم ثورة يوليو.. الشاعر محمد عواد

هذا نموذج بارز لنمط نادر من الفداء عرفته حركتنا الوطنية ثم الإسلامية، آثر كل واحد من أبطاله أن يموت من التعذيب على أن يفشي سر التنظيم الذي ينتمي إليه، وهو في حالة هذا الشاعر العظيم محمد عواد كان التنظيم هو تنظيم الإخوان المسلمين.. وقد مات هذا الشاعر وسر الإخوان معه.

المولد، والنشأة:

  ولد الشاعر محمد عواد بقرية الزوامل، إحدى قرى بلبيس الشرقية، وعمل بالتدريس في إحدى المدارس الابتدائية بالقرب من قريته، تعرف على الإخوان المسلمين في فترة الدراسة، وكان أحد الأعضاء البارزين في تنظيم الإخوان (الجديد) بعد إحيائه على يد عبد الفتاح إسماعيل في منتصف الستينيات، وكان الأستاذ مصطفى الخضيري أحد رموز هذا التنظيم قد اكتُشف اسمه بعد أن اعترف أحد الإخوان عليه جراء تعرضه لتعذيب رهيب.. وبدأ الأمن في البحث عن مصطفى الخضيري.. فتم تهريب الخضيري إلى الشرقية ليكون في رعاية الشهيد محمد عواد.. الذي كلفه التنظيم بحراسة الخضيري كما أسندت إليه في ذلك الوقت مهام التنظيم في محافظة الشرقية مع أمين سعد والشيخ نصر عبد الفتاح. وكان من أبرز مهامه تنظيم المعسكرات الإخوانية.

  ذهبت الشرطة العسكرية بعد مقتل محمد عواد إلى منزله فقبضت على والده وأخبرته أن ابنه قد هرب وأنه سيظل رهن الاعتقال حتى يسلم الابن نفسه وبقي الأب شهوراً طويلة في السجن ثم أفرجوا عنه

"

  وقد شاركته جهاده زوجته السيدة ثناء محمد منصور.. وكانت هي الأخرى من قرية الزوامل.. وظلت ثابتة صامدة بعد اعتقاله وبعد اعتقال أبيه وأخيه واستمر أهلها يلحون عليها بالمقام معهم حتى يعود.. فلما تزايدت عليها ضغوط أهلها عادت بعد فترة إلى بيت أبيها، وكانت بين الحين والآخر تذهب لزيارة أهل زوجها، حتى علمت باستشهاده وقد نالها هي الأخرى قسط من الاعتقال.

  لما ألقي القبض على الأستاذ محمد عواد ذهبوا به إلى السجن الحربي حيث التعذيب.. واستمر التعذيب يومين، ثم بدأت رحلة النهاية التي رواها سليم العفيفي وآخرون شهدوها بأنفسهم ونقلتها مصادر متعددة وهي رحلة قاسية يشيب المرء من مطالعتها وقد انتهت بأن امسك صفوت الروبي بنفسه براس عواد ورواح يضرب به جدار فسقية المياه حتى هشمه تماماً، ثم أخرجوه من الفسقية فاكتشف الجميع أنه قد مات، وفاضت روحه في صباح الجمعة 20 أغسطس 1965، وبعد أن مات حملوه ودفنوه في الصحراء.. بلا جنازة ولا تجهيز.

  ثم ذهبت الشرطة العسكرية بعد مقتله إلى منزله فقبضت على والده وأخبرته أن ابنه قد هرب وأنه سيظل رهن الاعتقال حتى يسلم الابن نفسه وبقي الأب شهوراً طويلة في السجن ثم أفرجوا عنه بعد أن أوهموه أن ابنه قد هرب إلى المملكة العربية السعودية.. وعاشت أسرة عواد سنوات معتقدة أن أبنها قد هرب إلى المملكة العربية السعودية حتى عرفت حقيقة استشهاده بعد وفاة عبد الناصر.. وهكذا أصبح عواد من شهداء بطش عبد الناصر شأنه شأن سيد قطب ومحمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل وإسماعيل الفيومي ورفعت بكر ومحمد منيب.

   أما شاعرية محمد عواد فشاعرية فريدة ومتميزة على الرغم من أنها قد تبدو وكأنها تعالج أفكارا مطروقة بصياغات مألوفة لكن تفردها وتميزها يأتيان من الموسيقى الداخلية الصادقة التي تحفل بها فضلا عن صياغاتها الصادقة لمقاربات إيمانية مباشرة المعنى تبدو وكأنها من حقائق العلم المطلقة.

   في إحدى قصائده يعبر الشاعر الشهيد محمد عواد باقتدار ووضوح عما نذر نفسه له من الدعوة مستشرفا نهايته الحقيقية التي جاءت نتيجة لهذا التمسك باليقين الذي رباه على الإيمان فيقول في شعر سلس بسيط حافل بالمعاني الجميلة والموسيقى الداخلية المغبرة:

يا دعوة الإسـلام لَنْ أنساكِ

لا لَنْ أميـل على هَـوَايَ هَـواكِ

يا دعوةَ الإسـلامِ نُورُكِ عمَّنَا

والصُبحُ والإشراقُ بعضُ سناكِ

يا دعوة الإسـلامِ إنكِ مَجدُنا

وسبيلُنـا بـالرغـم مِنْ أعـداكِ

أين الأمين أبـو عٌبيدةَ فاتحاً

بابَ الـعـدوّ بجيـشـه الفتـاكِ

فالعدلُ والإحسانٌ فيكِ شريعة

والسِّلمُ والإسـلام من أسمـاكِ 

  وقد قدم الشاعر محمد عواد وصفا مؤثرا لصور مروعة من مذبحة السجن الحربي الأولى في 1954على يد جمال عبد الناصر في شعر ملحمي مؤثر حافل بالانفعال من قسوة البطش وهمجيته القاتلة وكان مما قال فيه:

عُراة من مـــلابسنا

لنار الحقد تغشانـا

فمنا معشر هلكـوا

ومــاتـوا تحت مرآنـا

ومنا من على نصب تعانقها وحيانـا

سيــــاط الطير ترقبنا

لتنهشن لحم موتـانا

قطيع اليـوم يسمعنــا

من الألحــــان أحـــزانـــــا

  وفي قصيدة ميمية بعنوان "شهيد" يعبر الشاعر محمد عواد عن أمنيته الصادقة والملحة في نيل الشهادة فيقول:

ناداه طيف يا عشيق رحابنا أو ما تحب بأن تنال الأنعما؟

 أو ما تريد بأن تكون جوارنا في جنة الفردوس تحيا طاعما؟

هذا ابتلاء كي نميز جندنـا ونرى المنافق فيهم والمسلمـا

هتف الشهيد بعزة وبسالة سأخوض أوراد الردى متقدما

 سأزود عن صرخ الكتاب بعزة، باسم الإله أصول لا باسم الحمى

وإذا الشهيد مضرج بـدمـائـه لمح الخلـود بقلبــــه فتبسما

  وفي قصيدة أخري يراوح الشاعر الشهيد محمد عود في الحديث عن تساميه عن الحياة الدنيا التي لا تحقق منال عاشقها على حد تعبيره: منتظرا ما كان يحس به من اقتراب أجله وقرب نواله للشهادة وهو يعرض بطاغية عصره تعريضا قاسيا لا يدركه إلا من يتأولون النصوص بذكاء:

ومـا الدنيـا وإن خطرت دلالا بمعطية لعـاشقهــــا منالا

فلا تغررك أيـام عـذاب ففي الأيـام حبـالى

 أجنتهــا ستقـذفهــا سمومــا ومقبحهــا ستنصبـه جمالا

 وإن بسمت لمغرور فغـدر وإن أعطتـــه شيئــا فالخبالا

 ومن يركن لـزخرفها يــذقها على الأيـام قطرانــا مسالا

 ومن يهجر لذائـذها جهــاداً يجد في الخلد جنـات ظلالا

ومن ينفق لدعـوتـه متـاعـا يـزده الله مكرمـة ومالا

  وفى قصيدة رائية عذبة الألفاظ وكأنها من شعر الغزل والوجدانيات يناجي الشاعر الشهيد محمد عواد نفسه ويعبر عن عقيدته مشبها نفسه بالنسور التي لا يتطلب كثيرا من طعام الدنيا فيقول تحت عنوان " تجرد": 

قمت كي أرضى ضميري لن أُذل إلى حقير

 لن أخــاف من المنـايـا أو أبـــالى بـــالمصير

 لن أضن على كتـــاب الله بـــــالمال الـوفير

 ســـأجلجل في الأعادي والأذلال كالهصور

 إن نفـوني في الحرور فــــــأنــــا نبت الصخور

أبــوا أكلى وشربي فــــأنــــا مثـــــل النسور

 قـــوتها شيء قليــل لا تروم إلى كثير

   رثاه الشاعر محمود عبد الخالق الشريف فسماه بشهيد المقطم نسبة إلى المكان الذي يغلب الظن أنه دفن فيه، فقال في قصيدة عصماء ما يشير به إلى طريقة قتله بتحطيم رأسه: 

شـهيد الثبات دفين المقطمْ

بـقلب تسامى ورأس تحطمْ

تـعلمت من قمة في رسوخ

"هـضيبي" جيل كريم مُعلمْ

عايشت "قطبا" فألهمت منه

وخـلفت شعرا صدوقا منغمْ

فـهل خلف الظلم شيئا لباغ

وإن مـجـدوه ونـادوه ملهمْ

وقـالـوا له أنت رمز وعز

وكالوا له من صفات المعظمْ

وضـل الزعيم وراء الأديم

وظـل النعيم لمن كان أسلمْ

فـقدتك يا رفيق الشعر لكن

يظل الحب في الآماد معْلمْ

محمد عواد .. الشاعر الشهيد:

  الشاعر محمد عواد .. الذي تقرأ له هذه القصائد هو أول شهداء الإخوان المسلمين فى مذبحة السجن الحربي، التى أقامها جمال عبد الناصر وزبانيته عام 1965 .. كان محمد عواد واحداً ضمن شباب الإخوان المسلمين الذين لم يرهبهم طغيان عبد الناصر ولم يقعدهم عن مواصله المسيره الإسلامية التى أسسها الإمام الشهيد حسن البنا وخلفه فى قيادتها بعد استشهاده الإمام حسن الهضيبي، الذي واجه طغيان دكتاتور العصر جمال عبد الناصر طوال حكمه، فلم يحن هامته، ولم تلن عريكته، ولم يهن ولم يضعف حتى أراه الله مصرع الطاغية، وهو ثابت كالجبل الأشم رغم بلوغه الثمانين من عمره قضى منها أكثر من عشرين عاماً فى المحنة ..

  كان محمد عواد مدرساً إلزاميا .. يعمل فى إحدى المدارس الإبتدائية بالقرب من قريته الزوامل شرقية .. ولم يكن قد تجاوز العقد الثالث من عمره ، حين انضم إلى التنظيم السري للإخوان المسلمين الذى كان يقوده الشهيد سيد قطب بعد خروجه من السجن عام 1964 ، والذى اكتشفته أجهزة الأمن المصرية قضاء وقدراً (انظر مذابح الإخوان في سجون ناصر جابر رزق) ، واستغلته أبشع استغلال كمبرر لإقامة مذبحة للإخوان المسلمين ، لعلهم يستطيعون أن يستأصلوا شأفة الدعوة التى استغلظت شجرتها واستوت على سوقها واستعصت على الإستئصال فى المذبحة التى أقيمت عام 1954 بعد تدبير حادث المنشية الذي دبرته أجهزة أمن عالمية ومحلية (ملف حادث المنشية .. للمؤلف .. تحت الطبع) ، وقبض على الشاعر محمد عواد فى بداية الأسبوع الثالث من شهر أغسطس 1965 وكان من أوائل من قبض عليهم وممن عذبوا عذاباً شديداً .. وقصة تعذيب الشاعر محمد عواد تعطيك الصورة الوحشية الضارية لمذبحة السجن الحربى 1965 ، ولكنها فى نفس الوقت تعطيك مثالاً رائعاً لثبات الشباب المؤمن المجاهد .. وصلابته وصبره وصموده وتصميمه على الوفاء لدعوته، وإصراره على هذا الوفاء، حتى ينال إحدى الحسنيين النصر .. أو الشهادة..

  والشاعر محمد عواد .. كان أول شهداء مذبحة السجن الحربي ، ولا مانع أن أروى لك قصة استشهاد الشاعر محمد عواد إذا كنت لم تقرأها فى كتاب " مذابح الإخوان فى سجون ناصر " . وقد جمعتها من الذين رأوا بأعينهم محمد عواد وهو يعذب منذ اللحظات الأولى التي وصل فيها إلى السجن الحربي ، وحتى اللحظات الأخيرة من حياته، التي هشمت فيها رأسه فى جدار الفسقية أمام مكاتب التحقيق فى السجن الحربى، بعد أن يئس الزبانية فى استنطاق محمد عواد وانتزاع أي كلمة منه عن التنظيم الذى كان عضوا فيه ..

  عندما ذهبت الشرطة العسكرية لإلقاء القبض على محمد عواد فى منزله بقرية الزوامل بالشرقية كان عند محمد عواد مصطفى الخضيري أحد أعضاء التنظيم المطلوب القبض عليهم ، فأراد محمد عواد أن يفوّت الفرصة على الشرطة العسكرية فى القبض على مصطفى الخضيري، ويعطيه فرصة للهرب فحاول الهروب بأن جرى أمامهم في الحقول، مما جعل أفراد الشرطة العسكرية يجرون خلفه حتى استطاع مصطفى الخضيري أن يهرب .. وأخيراً استسلم محمد عواد للقبض عليه بواسطة أفراد الشرطة العسكرية وصحبوه معهم فى السيارة، وحملوه إلى السجن الحربي .

  وقد قال لي الأستاذ سليم العفيفي، أحد الذين قبض عليهم وشاهدوا الشاعر محمد عواد عندما وصلت به الشرطة العسكرية إلى ساحة التعذيب فى السجن الحربي..

  بعد إلقاء القبض عليّ صحبوني إلى السجن الحربي وساقوني مع غيري إلى ساحة التعذيب أمام مكتب العقيد شمس بدران وزبانيه السجن الحربي وبدأ الجلادون يمزقون أجسادنا بالسياط وكان الوقت ليلاً .. وفجأة رأينا صفوت الروبي جلاد السجن الحربي الشهير يسوق أمامه شاباً عرفنا أن اسمه محمد عواد يعمل مدرساً بوزارة التربية والتعليم .. ومن قرية الزوامل محافظة الشرقية . تقدم الجلاد صفوت الروبي من قائد الشرطة العسكرية العميد سعد زغلول عبد الكريم قائلاً فى زهو :

هذا هو المجرم محمد عواد .. يا أفندم ..

  فأوقفوا تعذيبنا وساقونا جميعا وأعادونا إلى السجن ولم يبقوا سوى محمد عواد .. أخذوا يعذبونه ونحن نسمع صراخه .. واستمر تعذيبه يومين وهم يعذبونه فى حضور شمس بدران وحمزة البسيوني والرائد رياض إبراهيم ورأيت صفوت الروبي ينزل إلى الفسقية ممسكاً رأس محمد عواد يخبطها فى حائط الفسقية حتى هشمه، لقد كان محمد عواد صلباً ، عنيداً ، صبوراً ، محتسباً تحداهم بإيمانه، فلم يحصلوا منه على كلمة واحدة فصنعوا به ما صنعوا، إنتقاماً منه وإرهاباً لغيره وكان تعذيبه أمام عدد كبير من الإخوان الذين كان يحقق معهم فى نفس الوقت .

  وقال لى الدكتور محمود عزت، واحد ممن شاهدوا استشهاد الشاعر الشهيد :

  لقد رأيت محمد عواد وهم يعذبونه، أمام مكاتب التحقيق فى السجن الحربى ، وكان محمد عواد مُجهداً .. عيياً لا يقوى على السير ممزق الجسد عارياً إلا من سرواله .. لقد طلب مني صفوت الروبي أن أبصق على وجه محمد عواد فرفضت .. لقد القو به فى حوض الفسقية التى كانت أمام مكاتب التحقيق ، ورأيت صفوت الروبي ينزل بنفسه إلى الفسقية ويمسك رأس محمد عواد ويحطمه فى جدران الفسقية ثم أخرجوه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة لقد استمر ذلك طوال الليل وفاضت روحه مع أول ضوء فى صباح الجمعة 20 أغسطس 1965 .

وقال لى المهندس طاهر سالم :

  لقد رأيت محمد عواد وهم يعذبونه ، وهو يتحداهم أن يخرجوا منه كلمة .. كان يعذبه الرائد رياض إبراهيم ، والرائد حسن كفافي والصول صفوت الروبي .. كانوا يعذبونه بضراوة ووحشية ويضربونه بقسوة كي يجيبهم على أسئلتهم ويعترف بما يريدون لكنه لم يتكلم ولم يحقق لهم ما أرادوا فأحنقهم ذلك عليه فأنزلوه إلى الفسقية ، وأغرقوه فيها ، ونزل العسكري " خردشوف " وركب على أكتاف محمد عواد وأمسك برأسه يغطسه فى الماء حتى حد الموت ، ثم يخرجه ويكيل له الصفعات واللكمات .. ثم أخرجوه من الفسقية وهم يتميزون غيظاً من صلابته وعناده و " نشوفية دماغه " على حد قولهم وزادهم غيظاً عندما أخرجوه من الفسقية ، ورغم شدة إعيائه وإشرافه على الموت أفزعه أن الماء كاد أن يسقط سرواله فتنكشف عورته فأمسك سرواله ورفعه حتى لا تنكشف عورته فأنفجر الزبانية فيه قائلين :

حتى وأنت فى هذه الحالة .. تتمسك بدينك ؟ !!

  وأمسك به الجلاد صفوت الروبي ونزل به مرة ثانية إلى الفسقية بنفسه وأخذ يضرب رأس محمد عواد فى جدار الفسقية ، حتى هشمه وسالت منه الدماء بغزارة ووقع عواد مغشياً عليه يسبح فى مياه الفسقية التى تلونت بلون دمه ثم أخرجوه وألقوا به على الأرض وقالوا عنه :

إنه سافر خلاص ...

فعرفت إنه فارق الحياة ...

  لقد ذهبت الشرطة العسكرية وقبضت بعد ذلك على والد الشاعر الشهيد ، وأحضروه إلى السجن الحربي رهينه حتى يحضر ابنه الذى هرب من السجن الحربي !! وبقى الوالد فى السجن حتى أفرجوا عنه وأوهموه أن ابنه هرب إلى السعودية. .

  وبقيت عائلة الشاعر الشهيد تصدق كذب الشرطة العسكرية ، في دولة دكتاتور العصر جمال عبد الناصر وتظن أن محمد عواد قد هرب حقاً ولم تعرف الحقيقة إلا بعد هزيمة يونيو 1967 ، عندما أنتقلنا من السجن الحربي إلى ليمان طره وسمح لنا بالزيارة بعد أكثر من عامين ، وأثناء إحدى الزيارات أخبر واحد من الإخوان أهله بأن محمد عواد استشهد تحت التعذيب ، ودفن فيمن دفن فى جبل المقطم مع غيره من شهداء الإخوان المسلمين في مذبحة السجن الحربي .

  والذي يعرف الشهيد محمد عواد ، لا يجد أية غرابة فيما أراده الله له من الشهادة فقد كان محمد عواد يتوقع كل ما حدث له وكانت نفسه مهيأة لذلك ، وكثيرا ما تحدث عن مذبحة السجن الحربي الأولى التى أقامها جمال عبد الناصر للإخوان المسلمين عام 1954 ، وجعل من مسرحية المنشية الوهمية التى أطلق عليها حادث المنشية ، مبرراً للقضاء على جماعة الإخوان المسلمين ليحقق هدفاً من أهداف نشاط المخابرات الأمريكية في مصر ، لقطع الطريق به أمام جماعة الإخوان المسلمين في القيام بثورة لإقامة الإسلام فى مصر! !

  وكان الشاعر الشهيد محمد عواد وجيله من " أشبال " جماعة الإخوان المسلمين وقت المذبحة الأولى عام 1954 ولكنهم لصغر سنهم لم يدخلوا المحنة ، ولم ينلهم ما نال إخوانهم الكبار من العذاب الرهيب ولكنهم عرفوا كل الذي حدث عن طريق الآلاف الذين حضروا المحنة ولم تصدر ضدهم أحكام بالسجن وبقوا معتقلين لمدة عامين تقريباً ثم أفرج عنهم عام 1956 .. لقد روى هؤلاء الذين أفرج عنهم لأشبال الإخوان ما شاهدوه من صور المذبحة وامتلأت نفوس أشبال الإخوان الذين شبوا وأصبحوا رجالا بتلك المذبحة وكانوا يعرفون "الكذبة" الكبيرة التى افتراها جمال عبد الناصر وأجهزة أمنه وسموها مؤامرة الأعتداء عليه فى ميدان المنشية بالاسكندرية .

  لقد كان هدف جمال عبد الناصر من مذبحة الإخوان المسلمين عام 1954 هو القضاء على جماعة الإخوان المسلمين وزرع الخوف في قلوب الشعب المصري بصفة عامة ، وأصحاب الاتجاه الإسلامي على وجه الخصوص لأنهم وحدهم الذين يملكون القوة والشجاعة في أن يقولوا للظالم يا ظالم .. وهم وحدهم الذين يقلقون القوى الخفية العالمية التي تطمع فى المنطقة وثرواتها ومصر فى مقدمتها لأن الذى يسيطر على مصر يسيطر على العالم العربي والإسلامي . ولكن هل أدت مذبحة السجن الحربي التى أقامها جمال عبد الناصر للإخوان المسلمين عام 1954 الغرض وحققت الهدف الذي كان يهدف إليه وهو القضاء على جماعة الإخوان ، وإرهاب الشعب المصري ؟! العكس هو الذي حدث فى جيل أشبال الإخوان المسلمين الذين أدركوا الجماعة قبل المحنة ورأوا فيها سفينة نوح التي يحاول الظالمون إغراقها وإغراق من فيها من المؤمنين !!.. لقد امتلأت نفس الشاعر الشهيد عواد شبل الإخوان المسلمين وامتلأت نفوس جيله من أشبال الإخوان المسلمين عزماً ، وتصميماً ، وإصراراً على مواصلة المسيرة وعلى الصبر والثبات مهما كانت التضحيات في سبيل بقاء هذه الدعوة حية في النفوس وبقى الإخوان تربطهم ببعضهم رابطة الأخوة ويجمع بين قلوبهم الحب حتى في أحلك سنوات الظلم والإرهاب !!

  ولم تكن صلابة الشاعر الشهيد محمد عواد وثباته وصبره وجلده ومصابرته على ما لقيه من جلاديه وما سلكوه معه في تعذيبه من أساليب جهنمية فاقت في وحشيتها وخستها كل ما روته كتب التارخ بدءاَ من اضطهاد الرومان للمصريين قبل الفتح الإسلامي وأنتهاء إلى أساليب الشيوعيين التي انحطت إلى أسفل الدركات !!

  لم تكن هذه الصلابة وليدة ساحة التعذيب في السجن الحربي وإنما كانت وليدة " العقيدة " الفاعلة والمؤثرة التي تمكنت في قلب الشاعر الشهيد وملأت قلبه عزماً وتصميماً وإصراراً وصبراً وثباتاً حتى النهاية فإما أن تنفذ طاقة جلاديه فيغلبهم بصبره وثباته دون أن يتمكنوا من الحصول على أن ينالوا بها من دعوته وجماعته وإخوانه ، وإما أن تنفد ساعات عمره هو فيفوز بالشهادة التي طالما تمناها من الله بصدق .

  كان الشهيد عبد الفتاح إسماعيل، الذي أعدم مع الشهيدين سيد قطب، ومحمد يوسف هواش يحب الشاعر الشهيد محمد عواد حباً شديداً ، لما يرى فيه من الصدق والإخلاص والإجتهاد فى العمل للدعوة .. جلسا يوماً يتجاذبان أطراف الحديث معا ، عن الجهاد في سبيل إقامة دين الله في الأرض والتمكين لشريعته ومنهاجه وعن حال المسلمين وحال الدعوة وما نالها وما ينالها من اضطهاد فقال الشهيد عبد الفتاح إسماعيل :

  لا تبتئس يا ابن عواد فقد يمّكن الله للمسلمين وتكون أنت ضمن قواد دولة الإسلام !!

 فانتفض الشاعر الشهيد محمد عواد من مكانه وكأن لدغة أصابته، وقال :

ما على هذه الدنيا بايعت ، ولكن بايعت على أن أرمى برصاصة هنا .. وأشار إلى رقبته .

  وجلس يوماً مع رفيق عمره وزميله ، الأستاذ أمين سعد يتجاذبان أطراف الحديث حول فضل الاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله ، فتبسم الشاعر الشهيد ابتسامة عريضة لهذا الحديث وقال وهو يمصمص شفتيه متحلياً :

ما يجد الشهيد من مس القتل ، إلا كما يجد أحدكم من مس قرصة النملة !!

لقد كانت الشهادة أمنية عواد ، وكان صادقا في طلبها ، فصدقه الله وأتخذه شهيدا !!

  لقد كان محمد عواد شاعراً ملتزماً بعقيدته، صاغ كلماته حمماً أطلقها على الطغاة وأيقظ بها جموع الغافلين من أبناء الحركة الإسلامية ، واستحث هممهم ونعى عليهم " نومهم الكهفي " . وأفسحت مجلة الإعتصام صفحاتها لقصائده فكانت تنشر له في كل عدد قصيدة كانت بمثابة منشور ثوري . والدليل على هذا هو العناوين التى أختارها لقصائده التي نشرها مثل : " صيحة الحق " ، " الحق المنتصر " ، " شهيد " ، "مصارحة " ، "تجرد"، " دعوة الإسلام " .

  ولم يستعمل محمد عواد في شعره الرمز ، ولكنه كان واضحاً صريحاً عنيفاً في مواجهة الباطل .. بل لقد وضع الشاعر الشهيد النقط على الحروف في أكثر قصائده ، التي نشرها . ففي قصيدة " مصارحة " التي نشرتها الإعتصام في عدد المحرم 1383ه الموافق مايو 1964م قال :

عـهود على حـربـنـا تُــوّثّـق ومـالٌ عـلـى ضَـربـنـا يُـنْـفـق

وحقـد يُـحـاك لـنا فـي الـظّلام فـيـفـضـحه ومـضـهُ الـمـبُـرق

أنيـس الـزمان صـنوف الـهوان وسهـم الـظـنـون بـنـا يُرشـق

ولن يقبلوا الشّرع فيهم صراخاً وشمس حكومـتـه تشرق

  وفي قصيدة " دعوة الإسلام " يعلن الشاعر الشهيد محمد عواد استمساكه بدعوته، وعزمه وإصراره وتصميمه على الوقوف تحت رايتها دائما، فيقول :

يا دعـوة الإسلام لن أنساك لا لن أميل على هواي هواك

لا لـن أضـل وأبتغي مُعوجة أمـشي عـليها طـارحا لهداك

  ويمضي الشاعر الشهيد في قصيدته متغزلاً في دعوته التي يشدو فؤاده بحبها ويفيض حماساً للعمل لها ويعدد فضائلها عليه فهي التي غرست فيه العزة والكرامة ، وعلمته كيف يكون شجاعا.

  ويستثير الشاعر الشهيد حماس الدُّعاة بتذكيرهم بما كانوا عليه بالأمس وما كانت عليه الدعوة وينعى عليهم حالهم ، وكيف أصبح البعض يخاف من قعقعات سلاح العدو .

  ولئن كان الشهيد سيد قطب هو مفكر الحركة الإسلامية، وقائد مسيرتها سنة 1965 فإن محمد عواد كان شاعرها وحاديها، الذي استنهض الهمم وألهب ظهور الغافلين، والقاعدين والمتخاذلين والمتربصين، والمتفلسفين، والمتفلتين من الميدان .. صاح الشاعر الشهيد عليهم في صفحات مجلة الإعتصام يخاطب الإخوان:

أخـي طــال عـهـدك بـالمرقد وطـــال اصـطـبارك بـالـحاقد

وطال انتظارك يوم الخلاص ... ويـــوم الـكـرامـة والـسـؤدد

فـهدّم فـراشك رمـز الـخمول.. وقـم لـلـجـهـاد ولا تقـعـد

وقـم للنضال وخوض القتال وشـمّر عـن الـساق والـساعد

ودرّب فؤادك دفــع الـمنون ...وركز سـلاحك فوق الـيـد

وقـبّـل عـيـالك قبـل الـمسير ..ومــنّــهـم بــانـتـصـار الغد

   وفي قصيدة له بعنوان حقيقة يترجم الشاعر الشهيد محمد عواد بصدق ودون مبالغة ما أنطوت عليه نفسه، وما عقد عليه العزم :

كـتبنا النصر من دمنا ... عـلـى اشــلاء قـتـلانا

جـعـلنا مـن جـماجمنا ... لـــشــرع الله بـنـيـانـا

بذلنا النفس في شمم ... إلـى الإسـلام قـربـانـا

  ويصف الشاعر الشهيد محمد عواد صوراً من مذبحة السجن الحربى الأولى ، التي أقامها طاغية العصر جمال عبد الناصر للإخوان المسلمين عام 1954 فيقول :

عُــراة مــن مـلابسنا ... لـنـار الـحقد تـغشانا

فـمـنا مـعشر هـلكوا ... ومـاتوا تـحت مـرآنا

ومنا من على نصب ... تـعـانـقـهـا وحــيـانـا

سياط الحقد تجعلنا ... مـن التعذيب غربانا

سـباع الـطير تـرقبنا ... لـتنهشن لحم موتانا

قطيع اليوم يسمعنا ... مـن الألـحان أحـزانا

  ومن بين قصائد الشاعر الشهيد التي نشرتها مجلة الإعتصام قصيدة بعنوان " شهيد " يصور بها عواد أمنيته العزيزة في الأستشهاد يقول :

ناداه طـيـف يـاعـشـيق رحـابنا أو مــا تـحب بـأن تـنال الأنـعما ؟!

أو ما تـريـد بأن تـكـون جـوارنا في جنة الفردوس تحيا طاعما ؟!

هذا ابــتـلاء كــي نـمـيز جـنـدنا ونــرى الـمـنافق فـيـهم والـمسلما

هتـف الـشـهـيد بـعـزة وبـسـالـة سـأخـوض أوراد الـردى مـتـقدما

ســأزود عـن صـرح الـكتاب بـعزة بـاسم الإله أصول لا باسم الحمى

وإذا الـشـهـيد مـضـرج بـدمـائـه لـمـح الـخـلـود بـقـلـبه فـتـبـسما

   وفي قصيدة له بعنوان تجرد يهتف الشاعر الشهيد محمد عواد من أعماق فؤاده:

قمت كي أرضي ضميري لـن أُذل إلـى حــقـيـر

لــن أخــاف مــن الـمـنايا أو أبــــالـــي بــالـمـصـيـر

لــن أضــن عـلـى كـتـاب الله بــالــمــال الــوفــيـر

سـأجـلجل فـي الأعـادي والأراذل كـــالـــصــهــور

إن نـفـوني فــي الـحرور فــأنــا نــبــت الـصـخـور

أو أبـــو أكــلـي وشـربـي فـــأنــا مـــثــل الــنـسـور

قــوتـهـا شــــىء قــلـيـل لا تـــــروم إلــــى كــثـيـر

  وكانت آخر قصائد الشاعر الشهيد التي نشرتها له مجلة الإعتصام فى يوليو 1965م أو قبل استشهاده بشهر تقريبا قال فيها:

وما الدنيا وإن خطرت دلالاً بـمـعـطـية لـعـاشـقها مــنـالاً

فـــلا تــغـررك أيــام عــذاب فـفـي الأيــام أيــام حـبـالى

أجـنـتها سـتـقذفها سـمـوماً ومـقـبحها سـتـنصه جـمـالاً

وإن بـسـمت لـمـغرور فـغدر وإن أعـطته شـيئاً فـالخبالا

ومـن يـركن لـزخرفها يذقها عـلـى الأيـام قـطراناً مـسالاً

ومـن يـهجر لـذائذها جهاداً يجد في الخلد جنات ظلالاً

ومــن يـنفق لـدعوته مـتاعاً يزده الله مـكـرمـة ومــالاً

   هذه نظرات عجلى في قصة استشهاد الشاعر محمد عواد وفى التنويه بقصائده التي عثرت عليها منشورة في مجلة الإعتصام أردت أن أضعها بين أيدي الدارسين للأدب الإسلامي علهم يستفيدون منها ويفيدون .

  تقبل الله شاعرنا في الشهداء وجمعنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .

مصادر الترجمة:

١- رابطة أدباء الشام: وسوم: العدد 914

٢- موقع الجزيرة نت.: د. محمد الجوادي.

٣- إخوان أون لاين: جابر رزق .

٤- مواقع الكترونية أخرى.

وسوم: العدد 1023