عبد الله النديم وعبد الرحمان الكواكبي

صفحتان مشرقتان في كتاب النهضة العربية

ذ. لحسن الكيري*

تمهيد

في الواقع، عندما نتحدث عن النهضة العربية فإننا نعني بذلك تلك الصحوة التي عاشتها المجتمعات العربية إبان القرن التاسع عشر الميلادي. و يؤرخ لها الباحثون و المهتمون بالحملة العسكرية التي قادها نابليون بونابرت على المصر و  سوريا فيما بعد، وذلكم ما بين 1798 و 1801 ميلادية. و كان هذا الحدث التاريخي سببا مباشرا في بداية تساؤل الذات العربية أي قيامها بطرح مجموعة من الأسئلة على نفسها، فتعددت الإجابات و التفسيرات و التأويلات و التصورات و المشاريع و الرؤى حول هذا الوضع الجديد الذي وجد العرب أنفسهم يتخبطون فيه. و فعل طرح الأسئلة على الذات فعل إيجابي و مثمر، في جميع الظروف و الأحوال، نظرا لما يقود إليه من تغيير و تطوير و تنوير. و هكذا، إذن، سميت هذه المرحلة التاريخية من حياة الأمة العربية، والتي حاولوا فيها نفض غبار الذل و الهوان و البحث عن سبل التطور و إثبات الذات أمام الآخر خلال القرن التاسع عشر، بعصر النهضة. ومن المثقفين و المفكرين العرب الذين حملوا لواء التغيير و التجديد و الإصلاح آنئذ، نجد كلا من عبد الله النديم و عبد الرحمان الكواكبي. و سأحاول أن أقدم في هذه الورقة البحثية تعريفا بكليهما واضعا اليد على أهم أفكارهما التي ساهمت في إصلاح و تطوير و تأطير أجيال بكاملها، و ذلكم وفق الشاكلة التالية:

عبد الله النديم

لقد ولد عبد الله النديم بمدينة الإسكندرية سنة 1842، و ذلكم في وسط عائلي غلب عليه الفقر و التقليدية. درس في جامعة إبراهيم باشا، لكنه لم يستطع مسايرة الإيقاع المعتمد في تلقين المعرفة هناك، فكان يتغيب كثيرا لأن تلكم الطريقة لم ترقه، فثقف نفسه بنفسه، عبر حضور الحلقيات في ذلك الوقت و مجالس الأدباء و الشعراء. لكن، و دون أن نسهب في تفاصيل حياته، يمكن أن نقول عنه إنه كاتب و شاعر و خطيب و صحفي و وطني مصري، عمل تاجرا و مدرسا. و انصرف إلى الصحافة فأصدر جريدة " التنكيت و التبكيت" و "الطائف" و "الأستاذ". شارك في الثورة العرابية سنة 1881 بقلمه و لسانه، ذلكم أنه يعد خطيبا لسنا، حاد الذهن. أما رسائله و شعره فتغلب عليهما الصنعة. جمع بعض من شعره و نثره في كتاب تحت عنوان: " سلافة النديم". اتصل بقصر الخديوي، و عمل متلقيا للإشارات  التلغرافية، لكن سرعان ما طرد منه لخلاف بينه و بين كبير أغوات السيدة أم إسماعيل الخديوي، يتعلق الأمر  ب: "خليل أغا". بعد فشل الثورة العرابية تستر في أرجاء البلاد المصرية خوفا من انكشاف أمره. ذهب إلى باريس ثم نفي إلى يافا بفلسطين و منها إلى الأستانة حيث عمل مراقبا للمطبوعات في ديوان السلطان عبد الحميد، و نشبت بينه و بين جمال الدين الأفغاني مخاصمات في بعض الأمور الدينية، على أن أعظم مخاصمة تمت بينه و بين أبي الهدى الصيادي اليد اليمنى للسلطان، و خرج منها ناجيا، لكن سرعان ما سرقه القدر سنة 1899 ميلادية بالمكان نفسه، أقصد الأستانة،  حيث ووري جثمانه الثرى في بشكطاس، و بالضبط، في مدفن يحيى أفندي.

ثقافته و أفكاره الإصلاحية

  إن أقل ما يمكن أن يقال عن النديم، من الناحية الثقافية، هو أنه موسوعي التكوين، و محيط بلغة الشعب و مرهف الحس، شهي الحديث، حلو الفكاهة، ذكي و فصيح بامتياز؛ أما فيما يخص القيم و الأفكار الإصلاحية التي جاء بها الرجل، فيمكن أن نلخصها فيما يلي:

-انتقاده لعلماء الأزهر نظرا لانزوائهم و عدم معرفتهم بالدنيا و ما يجري فيها ثم اقتراحه برنامجا لإصلاح الزهر.

- انتقاده اللاذع لمظاهر الفساد و الانحلال الخلقي في البلاد المصرية حيث استعملت كلمة الحرية كوسيلة للانغماس في الشهوات و الملذات.

- اتهام الأوربيين بتشجيع هذه المظاهر حتى يسقط الشرف و تنحل أخلاقه ثم نقده لمناهج التعليم في البلاد و خلوها من بث الروح القومية و الحمية المصرية.

- حث أبناء البلاد على إنشاء الجمعيات الخيرية التي تسد النقص و تساعد على تطوير عقول أبناء الشعب.

- دعوته الصريحة إلى خروج ذوي الرأي من عزلتهم و اختلاطهم بالرأي العام في المجامع العامة لشرح و تشريح ما يحدث في الواقع المعيشي.

- مناصرته للحركة الوطنية و مؤازرته للخديوي عباس.

- مناهضته للاحتلال و انتقاده تواكل المصريين وتخاذلهم.

- الدعوة إلى الالتفاف حول الخديوي و المطالبة بالمحافظة على حقوقه الشرعية.

- نقده لوضعية الزراعة  في مصر و تأخرها ووجوب إصلاحها على أساس علمي صحيح.

- نقده لفوضى اللغة العربية ووجوب إنشاء مجمع يحفظ كيانها ويكمل نقصانها.

- الدعوة إلى محاربة الخرافات و الأوهام و الطرق الصوفية و ما يجري فيها من شتى أنواع المخازي و العيوب.

- تهييج الناس ضد المبشرين و طرق التبشير عندهم.

- نقد السياسة الإنجليزية في الهند.

استنتاج

  على العموم، فإذا كان جمال الدين الأفغاني، إذا خطب في الناس فكأنما يضربهم، لأنه نبيل، غضوب و وقور، فإن النديم في مثل هذه الحال يشعر أنه واقف وسطهم، يقابل بالابتسام فيقبل قوله في فرح، لهذا كان أسفهم عليه أكبر بعد مماته.

عبد الرحمان الكواكبي

   ولد عبد الرحمان الكواكبي في حلب و نشأ ميالا إلى العلوم شغوفا بالسياسة، فكتب في جريدة "الفرات". ثم أنشأ جريدة "الشهباء". هذا و قد أسندت إليه مناصب مختلفة. و لما دعا إلى الإصلاح حنق عليه أعداؤه فسجن. بعد ذلك، انتقل إلى مصر و جال في بلاد العرب و شرق إفريقية و بعض بلاد الهند، ليستقر في مصر إلى أن لبى نداء ربه راضيا مرضيا، و ذلكم سنة 1902. فهو من بيت يعتز بنسبه و حسبه و علمه و ماله؛ فأسرته لها مدرسة تسمى ب: "المدرسة الكواكبية"؛ و أبوه كان أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب و المدرسة الكواكبية. و يمكن القول إن الفضل في تربيته يعود، بالدرجة الأولى، إلى خالته التي عهد إليها بتربيته بعد وفاة والدته و هو صغير، لأن هذه المرأة كانت من نوادر النساء في الشرق، حيث عرفت بالأدب و الكياسة و كبر العقل. و بالتالي ففطرة الكواكبي كنتيجة لهذه التربية  هي، إلى حد ما، حب الخير و ميله للحق و الاستجابة للتربية الصالحة؛ ذلكم أنه رجل يستعصي على ناقد الأخلاق نقده: مؤدب اللسان، فلا تؤخذ عليه هفوة، يزن الكلمة، قبل أن ينطق بها، وزنا دقيقا.

ثقافته و أفكاره الإصلاحية

   يتعلق الأمر برجل ذي ثقافة موسوعية، هو الآخر، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. درس اللغة العربية دراسة دقيقة، و تلقى تكوينا دينيا محكما في المدرسة الكواكبية التي تعتبر صورة مصغرة  لجامع الأزهر آنذاك من حيث المناهج المتبعة في التدريس.اطلع على العلوم الرياضية و الطبيعية على حسابه الخاص و تعلم الفارسية و التركية، قرأ التاريخ، و عني كثيرا بدراسة قوانين و نظم الدولة العثمانية. تقلب في العديد من الوظائف و المهام الرسمية و الحرة، و خلف لنا كتابين عظيمين من حيث القيمة العلمية و السياسية و التاريخية لهما، بحيث يتعلق الأمر ب: "طبائع الاستبداد" و" أم القرى".

أ - طبائع الاستبداد

   أقل ما يمكن أن نقول عنه هو أنه نقد صريح للحكومات الإسلامية، كما يغلب عليه الطابع الاقتباسي؛ بحيث تطرق فيه لظاهرة أو مفهوم الاستبداد و أسبابه و العوامل المساعدة على التشبث به، ثم علاقة هذا الاستبداد بالسياسة و الدين و التربية و الأخلاق و المجد و الترقي، ليتساءل في النهاية عن كيفية التخلص من هذا الاستبداد باعتباره صفة للحكومة مطلقة العنان، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب و لا عقاب. و هكذا خلص في النهاية إلى أن استئصال هذا الاستبداد لا يمكن أن يتم بالقوة و العنف، و إنما يقاوم باللين و التدرج، و بث الشعور بالظلم و التعليم و التحسيس، لأن الاستبداد محفوف بمجموعة من القوى التي تحميه.

ب - أم القرى

   يعتبر، وبحق، ذلكم الكتاب الذي يدل على كبر عقل الكواكبي و قوة تفكيره و سعة اطلاعه و صدق غيرته على العالم الإسلامي، فهو بحث عقلي مبكر، فيه نقد لاذع للشعوب الإسلامية المتكاسلة.فهو الكتاب الأدل على الابتكار و الأوضح في إظهار الشخصية، يقف فيه موقف الطبيب من المريض، يفحص داءه و يتعرف أسبابه، و يصف علاجه في أسلوب قصصي جذاب. و يعتبر المحور الأساس في الكتاب بحث موضع الداء في المسلمين و أعراضه و جراثيمه و دوائه و كيفية استعماله. ثم ينتقل، بعد ذلك، إلى الحديث عن مواصفات الإسلام الصحيح. وبما أن أفكاره الإصلاحية كثيرة، فإني مقتصر، ها هنا، على ذكر بعضها رغبة في الاستئناس لا الحصر:

-نقد الخمول و الضعف الشامل لمختلف الأقطار الإسلامية.

- نقد العقيدة الجبرية التي أماتت المطالب النفسية كحب المجد و الرياسة.

- نقده للسياسة الاستبدادية التي أفسدت العقول وأماتت الأخلاق.

- التنديد بمظاهر الترف في القصور الإسلامية الشرقية.

- مطالبته بإعطاء الحرية الكاملة للإنسان الشرقي من أجل الإبداع و العطاء.

- دعوته للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و التمسك بالدين الإسلامي كشريعة.

- إفحامه للمتصوفين و نقد تدليس رجال الدين المتملقين.

- الدعوة إلى إعطاء أهمية قصوى للعلوم كسبيل لنفض غبار التخلف.

- الدعوة إلى استرجاع الإحساس الشريف و الأخلاق العالية والتخلي عن اليأس والكسل.

- الدعوة إلى جمع كلمة المسلمين.

- التركيز على أهمية الشورى و التشاور و التفاوض و التسامح بين المسلمين.

- نقده لتكبر الأمراء و ميلهم للعلماء المتملقين و المنافقين.

- المطالبة بالرجوع إلى النبع الصافي للدين الإسلامي.

- نقده لمظاهر الشرك بالله.

- دعوته إلى حرية القول و العمل و جمع كلمة المسلمين حول لا إلاه إلا الله محمد رسول الله.

خلاصة عامة

  من خلال ما سبق، يمكن لنا أن نستنتج أن ما تم الاصطلاح عليه بالنهضة العربية يشكل، و بحق، لحظة مركزية في تاريخ الأمة العربية في العصر الحديث بكل المقاييس و على جميع المستويات. و قد بذل المثقفون العرب خلالها جهدا تنويريا لا يستهان به. و لعل عبد الله النديم و عبد الرحمان الكواكبي خير من يمكن بهما التمثيل لذلك. و بالتمعن في الأفكار الإصلاحية و التنويرية التي ابتدعتها تلك العقول النيرة و دافعت عنها، و مقارنتها بما تحقق مع أجيال لاحقة إلى حدود الآن، ندرك أن كثيرا من تلكم الأفكار مازالت ذات راهنية، و ما أحوجنا إلى تطبيقها في واقعنا العربي و الإسلامي في زمن بدأنا نتلقى فيه الضربات تلو الضربات و الخيبات تلو الخيبات.

* كاتب و باحث في الترجمة و التواصل / الدار البيضاء – المغرب.