الأئمة في مختلف العهود كانوا أعلام دين وسياسة

الشيخ حسنين مخلوف

(1)

الإمام الشهيد حسن البنا

الشيخ حسنين مخلوف (*)

 الشيخ حسن البنا- أنزله الله منازل الأبرار- من أعظم الشخصيات الإسلامية في هذا العصر، بل هو الزعيم الإسلامي الذي جاهد في الله حقَّ الجهاد، واتخذ لدعوة الحق منهاجاً صالحاً، وسبيلاً واضحاً استمده من القرآن والسنة النبوية ومن روح التشريع الإسلامي، وقام بتنفيذه بحكمة وسداد وصبر وعزم، حتى انتشرت الدعوةُ الإسلامية في آفاق مصر وغيرها من بلاد الإسلام واستظلَّ برايتها خلق كثير.

عرفته- رحمه الله- منذ سنين، وتوثَّقَت الصداقة بيننا في اجتماعات هيئة وادي النيل العُليا لإنقاذ فلسطين الجريحة، وتحدثنا كثيراً في حاضر المسلمين ومستقبل الإسلام، فكان يقوِّي الأمل في مجد الإسلام وعزة المسلمين، إذا اعتصموا بحبل القرآن المتين واتبعوا هَدْي النبوة الحكيم، وعالجوا مشكلاتهم الاجتماعية والسياسية وغيرها بما شرعه الله في دينه القويم.

ففي الإسلام من المبادئ السامية والتعاليم الحكيمة ما فيه من الشفاء من كل مرض، وعلاج لكل داء، وحل لكل مشكلة، وفيه من الأحكام ما لو نُفِّذت، ومن الحدود والعقوبات ما لو أقيمت لسَعِد الناس في كل زمان ومكان بالاستقرار والاطمئنان، وعاد المسلمون إلى سيرتهم الأولى يوم كانوا أعزاء أقوياء.

تلك لمحة من حديثه وهي عقيدة كل مسلم، وأمل كل غيور على الإسلام، غير أن العلماء حبسوا هذا العلم الزاخر في الصدور، ولم يردِّدوه إلا في حلقات الدروس وفي زوايا الدور.

أما الشيخ حسن البنا - رحمه الله- فقد أخذ على نفسه عهداً أن يرشد العامةَ إلى الحق، وينشر بين الناس هذه الدعوة، وينظِّم طرائقها ويعبِّد سبيلها، ويربِّي الناشئة تربية إسلامية تنزع من نفوسهم خواطر السوء، وتعرفهم بربهم، وتدنيهم من دينهم الذي ارتضاه الله لهم، فكان له ما أراد، وتحمَّل في ذلك من المشاق والمتاعب ما لا يقدر على احتماله إلا الرجل الصبور، والمؤمن الغيور الذي يبغي رضاء ربه بما يعمل، ويشعر بدافع نفسي قوي لإنقاذ أمته من شرٍّ وبيل وذلٍّ مقيم.

من الطبيعي- وهذه دعوته- أن يمس السياسة عن قُرب، وأن يأخذ في علاج مختلف الشؤون على ضوء التعاليم القرآنية، وهنا يقول الأستاذ بحق ما نقوله نحن، ويقوله كل مَن درس الإسلام، وأحاط خبراً بالقرآن إن الإسلام دين ودنيا، وسياسة ودولة، والمسلم الحق هو الذي يعمل للدين والدنيا معاً، فقد جاء القرآن بالعقائد الحقة، وبالأحكام الراشدة في العبادات والمعاملات، ونظم الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجاء بالأوامر والنواهي وما يصونها من العقوبات والزواجر، وألزمَ المسلمين كافةَ العمل بها، وإقامة الدولة على أساسها، فإذا دعا الشيخ حسن البنا إلى ذلك فقد دعا إليه الله ورسوله، ودعا إليه الصحابة والتابعون وسائر الأئمة والفقهاء وزعماء الإسلام في كل زمان.

يعيب عليه البعض أنه توغَّل في السياسة، وقد نوَّهت بالرد على ذلك في عدة أحاديث أذعتها في مناسبات شتَّى، فالسياسة الراشدة من صميم الدين، والصدارة فيها من حقِّ العلماء بل من واجبهم، الذي لا يدفعهم عنه أحد، وما أصيب العلماء بالوهن والضعف وما استعلى عليهم الأدنون وتطاول عليهم الأرذلون إلا مِن يوم أن استكانوا لأولئك الذين يحاولون احتكار السياسة، ويستأثرون بالسلطان في الشعوب والأمم الإسلامية قضاء للبناتهم واغتصاباً للحقوق.

وإذا صح فصل الدين عن السياسة أو بعبارة أخرى الحجْر على علماء الدين في الاشتغال بسياسة الدولة- بالنسبة لسائر الأديان- فلا يصح بالنسبة للدين الإسلامي الحنيف، الذي امتاز على غيره بالتشريع الكفيل بسعادة الدين والدنيا معاً.

وقد كان الأئمة في مختلف عهود الإسلام أعلام دين وسياسة، فما بال الناس اليوم ينكرون على علماء الإسلام أن يعنوا بشؤون الشعوب الإسلامية، ويغضبوا لكرامتها، ويجاهدوا لإعزازها، ورفع نير الاستعباد عن أعناقها، وتبصير الناس بما يموه به الاستعماريون من حيل، ويدبرون من فتن، ويدسون من سموم؟ وما الذي خولهم حق احتكار السياسة والحكم؟

إن من حق العلماء – وأعني بهم القائمين بالدعوة إلى الله لا خصوص حملة الشهادات العلمية الرسمية – أن يمثلوا في كل شؤون الدولة، وخاصة السلطة التشريعية، حتى لا يشرع في الدولة الإسلامية ما ينافي أحكام الإسلام، وأن يكون للتشريع الإسلامي الذي لهم به اختصاص واضح الأثر الأول في التشريع والتنفيذ.

إن الدعوة في جوهرها دعوة واضحة المعالم، والقلوب الموفقة قد انعطفت إليها، والشعب قد آمن بها، ومن إنكار الحقائق أن يزعم زاعم انصراف السواد الأعظم من الأمة عنها.

وكلما أمعنت السياسة في توهينها ازدادت قوة وذيوعاً، وأيقن الناس بما فيها من خير وصلاح، ومن الإخلاص لولاة الأمور الصدق في القول والأمانة في الأداء، فليعلموا أن الدعوة عقيدة استقرت في النفوس، وأن مقاومة السياسة لها ولدعاتها لا يزيدها إلا ثباتاً ورسوخاً، وإن من الراسخ في العقائد أن اليهود – ومن ورائهم الدولة الغاصبة والدول الاستعمارية – هم الذين يكيدون لها، ويبذلون كل ما في استطاعتهم لاستئصالها، ولكن هيهات ما يريدون.

وبعد، فإنا نسأل الله (تبارك وتعالى) للمسلمين خيراً عميماً، ورشداً مبيناً، وتوفيقاً سديداً لكل من يدعو إلى خير ورشاد، ورحمة واسعة للأستاذ العظيم.

               

(*) ولد في حي "باب الفتوح" بالقاهرة في رمضان 1307هـــ/ مايو 1890م، أتم حفظ القرآن الكريم قبل سن العاشرة، التحق بسلك القضاء قاضياً شرعياً في قنا 1916م، وتنقل بين عدة محاكم، حتى عين رئيساً لمحكمة الإسكندرية الشرعية 1941م، ثم عين نائباً لرئيس المحكمة العليا الشرعية 1944م، ثم تولى منصب الإفتاء 1946م، وظل به حتى مايو 1950م، ثم عاد إليه في عام 1952م، واستمر فيه عامين فقط، اختير عضو هيئة كبار العلماء 1948م، ثم أصبح رئيساً للجنة الفتوى بالأزهر الشريف لفترة طويلة، شارك في تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، واختير في مجلس القضاء الأعلى بالسعودية، من مؤلفاته: كلمات القرآن تفسير وبيان"، "صفوة البيان لمعاني القرآن"، "آداب تلاوة القرآن وسماعه"، توفي (رحمه الله) في رمضان 1410هـ/ إبريل 1990م عن عمر تجاوز المئة عام رحمه الله رحمة واسعة.

(1) الدعوة – السنة الأولى – العدد (3) – 7 من جمادى الأولى 1370هـ/ 13 من فبراير 1951م.