آل سلقيني الكرام.. مدرسة العلم والدعوة بحلب الشهباء

1

الكتابة عن هذه المدرسة العلمية التي اشتهرت بحلب بأسرة السلقيني كتابة ممتعة ومتشعبة، فقد ارتبطت بذاكرتي منذ كنت طفلا واستمرت حتى الآن.. فكثيرا ما كانت أختي الكبيرة التي درست في المدرسة الشرعية بحلب تذكر أمامي أسماء أساتذتها وتثني عليهم، ومنهم الشيخ الجليل محمد السلقيني، وهو ابن العلامة إبراهيم السلقيني رحمه الله تعالى وتقبله في الصالحين.

2

شاء الله أن ننتقل إلى منطقة سيف الدولة قرب مسجد النور عند البريد وكان هنالك حديقة غناء قرب بيتنا.. وكان ملاصقا لبيتنا أرض كبيرة على شارعين نسميها أرض الشيخ السلقيني.. وهي على الزاوية المقابلة للحديقة...كنت وقتها في الأولى ابتدائي، وكان والدي رحمه الله تعالى وتقبله في الصالحين يخبرنا بأن الشيخ محمد سوف يكون جارنا، ويفرح لذلك، وكثيرا ما كنا نرى شيخنا يتفقد أرضه، ويسلم عليه والدي، كان مظهره وقورا، أنيقا، يرتدي جلبابه الشرعي، وعلى رأسه طربوش أحمر محفوفا بعمامة، ونظارته ثخينة .. يتكلم بهدوء، وينصت باهتمام لمحدثه ..

ولكن شاءت إرادة الله أن لا ننعم بهذه الجيرة الفاضلة، فقد بيعت الأرض، وحزنا كثيرا لفقدان هذه الجيرة الصالحة.

3

وذكر لي الشيخ محمد جميل زينو قصة عن الشيخ محمد السلقيني، تدل على فضله، فقد كان الشيخ جميل يوزع نشرة مطبوعة فيها كلام لأعلام التصوف كالرفاعي وغيره، وهي حول ضرورة الالتجاء إلى الله تعالى دون سواه، وإخلاص الدعاء له .. فاستدعاه أحد أعيان العلماء في حلب وطلب منه أن يمتنع عن نشرها ويتلفها، ولعل هذا الشيخ كان له وجهة نظر معينة، أو وجد فيها أمرا ما رحمه الله تعالى، المهم أنه قد كبر الأمر على الشيخ جميل رحمه الله، قال: فذهبت إلى الشيخ محمد السلقيني رحمه الله تعالى، وذكرت له ما كان، وعرضتها عليه، فأقر ما فيها، ونهاه عن إتلافها، وطلب منه الاستمرار في توزيعها..

وهذا يدل على أن الشيخ محمد السلقيني رحمه الله تعالى يحكم عقله، ويمشي وفق النص والدليل دون أية مؤثرات أخرى.

رحم الله مشايخنا جميعا، مهما كانت مشاربهم، فقد دلونا على طريق الحق والصواب.

4

بعد مدة من منتصف الستينات، بدأت تبنى في حي الأنصاري مساجد كثيرة، كمسجد بلال والتقوى والنصر وآمنة.. ومنها مسجد فاطمة الزهراء في منطقة الزبدية، وكان يخطب فيه الدكتور عبد الله سلقيني حفظه الله تعالى، وكنت ممن يتابع خطبه ويتردد إلى ذلك المسجد الذي يؤمه بعض الإخوة الأفاضل، وكان المسجد خلية نحل في النشاط والدعوة، وكان أخي الكبير سليم يرحمه الله على صلة بالأخ المنشد المبدع مروان مكانسي مؤذن المسجد، فتم هناك تسجيل شريط البراعم المؤمنة للأطفال، ولاقى صدى طيبا عند الناس.

5

كانت خطب الدكتور عبد الله آية في البلاغة والتربية والإيمان، ملامسة لقضايا المجتمع، وكان يصدع فيها بالحق، وأما الصلاة خلفه فمتعة لما أوتيه من صوت خاشع شجي..

التقيت بأستاذنا عبد الله بعد ذلك بمكة مرات عدة، ثم زرته مرة في بيته بدبي مع الأستاذ عمار تسقية، فاستقبلنا وأحسن لقاءنا.. ثم التقينا به مرات أخرى، وأذكر أني قرأت كتابه عن ابن عباس ومدرسته في التفسير .. نفع الله به، وكان من حسن حظنا أن جمعنا الله بابنه الدكتور إبراهيم بدبي، وهو رجل علم وأدب وأخلاق.. بارك الله فيه.

6

وأما الشيخ الدكتور إبراهيم، ففارس الخطابة الذي لا تشق له غبار، وكان الشيخ طاهر خير الله رحمه الله تعالى وتقبله في الصالحين ينيبه أحيانا للخطبة في جامع الروضة، وأذكر أن إحدى خطبه كانت عن فلسطين.

درس معي ابنه محمد في صف واحد في مدرسة الأندلس، وهو الآن طبيب أسنان فيما أذكر، وقد جاءنا في الصف الخامس، وكان قبلها في السعودية، ولنا معه ذكريات.. وقد التقيته بمكة المكرمة مرة.. أسأل الله أن يحفظه..

7

للشيخ إبراهيم ذكريات كثيرة في نفسي، حضرت بعض دروسه في مسجد عباد الرحمن بحلب، وكانت في الفقه الحنفي، ثم التقيته مرات كثيرة بمكة المكرمة، وبدبي، وأذكر أني أهديته نسخة من كتابي: (اتجاهات تجديدية متطرفة في الفكر الإسلامي المعاصر)، فاتصل بي بعد يوم واحد في المساء، وأثنى على الكتاب، وقال لي لقد قرأته كله ليلة أمس، فتعجبت لصبره وجلده وحبه للقراءة رحمه الله تعالى، وتقبله في الصالحين.

زرته في كلية الدراسات الإسلامية بدبي، وكان عميدها، وكان السيد جمعة الماجد راعي الكلية يثق به ويقدره، وهذا يدل على حسن فراسته رعاه الله حين اختار الرجل المناسب للمكان المناسب.

8

الشيخ إبراهيم رجل وقور هادئ، واثق من نفسه، مبشر بالخير، حديثه طيب، متفائل، صبور، رحمه الله تعالى وتقبله في الصالحين.

ربما كان من أجمل اللقاءات التي التقيت بها بالشيخين الفاضلين الدكتور إبراهيم والدكتور عبد الله هو ما كان في منزل الأستاذ عمار تسقية في قرية ربيع الصحراء في منطقة البرشا بدبي، وكان لقاء حافلا ضم عددا من الأصدقاء.

9

تعرفت على بعض شباب هذه الأسرة الكريمة ومنهم أخينا الباحث الدكتور إبراهيم عبد الله سلقيني، كان صديقا وفيا بدبي، ثم غادرنا إلى أرض الوطن، وبقينا على محبة واتصال.

10

كانت هذه الذكريات الجميلة على عجالة، بارك الله في هذه الأسرة الكريمة التي حملت العلم، وقامت بالدعوة، وصدعت بالحق، ولم تتزلف لسلطان، وكانت مع هذا الشعب السوري الصابر في السراء والضراء، تحمل همه، وتضمد جرحه، ولا تتلكأ عن مساعدته، وهي لا تخشى في الله لومة لائم.

وسوم: العدد 1068