محمد جاد البنا..

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لم أكن أتصور أنني سأرثي صديقي وأخي "محمد جاد البنا" إلى الناس.. ذلك أنها مهمة ثقيلة وقاسية وصعبة، وخاصة إذا كان المعني بالأمر جزءاً من نسيج روحي وعاطفي وفكري يصعب فك الارتباط به أو الانتماء إليه.

إن إيماننا بقدر الله راسخ لا يتزعزع، ولكن النفس البشرية تهتز لما يصيب الوجدان من فرقة، تأتي على غير توقع، ورحيل يأتي على غير انتظار.. ولعل لله في ذلك حكمة، وهي تذكير عباده بأن الموت يأتي في كل أوانٍ ودون سابق إنذار، ليتعظً الغافلون، ويتنبه الغائبون، ويستيقظ النائمون.

ولا أظن أنني في هذه العجالة أستطيع أن أفي بهذا التعبير بحق صديقي وأخي "محمد جاد البنا" فمنذ عرفته قبل عشرين عاماً تقريباً، ونحن نصدر عن مورد واحد، وتصور واحد، ومنهج واحد، هو الإسلام بآفاقه العريضة الممتدة عبر الزمان والمكان، وأبعاده العميقة في القلب والوجدان.

كان تعارفنا في البداية على صفحات الصحف والدوريات والكتب، وكان له فضل البدء بالكتابة إليّ، والتقينا على المورد والتصور والمنهج، وتوطدت أواصر المعرفة والمودة التي تحولت إلى نسيج روحي وعاطفي وفكري يصعب فك الارتباط به أو الانتماء إليه كما قلت من قبل.

ولد "محمد جاد البنا" في قرية "كفر دميرة القديم" مركز طخا محافظة الدقهلية عام 1939م، وتعلم في الأزهر الشريف حتى نال درجة الشهادة العالية، وواصل دراساته العليا فحصل على الماجستير والدكتوراه.. وفي خلال هذه الرحلة العلمية عمل مدرساً بمعهد جرجا الديني الأزهري، ومنه انتقل إلى معهد المنصورة الديني الأزهري، وفي أثناء عمله في المنصورة أعير إلى وزارة المعارف السعودية ومنها إلى مؤسسة "الدعوة" الصحفية بالرياض حيث عمل بمجلة الدعوة، وعاد إلى مصر ليعمل أستاذاً بكلية البنات الإسلامية التابعة لجامعة الأزهر (فرع المنصورة)، وظل بها حتى اختاره الله إلى جواره صباح الاثنين الثالث والعشرين من شوال 1414هـ الموافق الرابع من أبريل 1994.. وانتهت حياة رجل عاش من أجل الفكرة الإسلامية بعيداً عن الضجيج والأضواء، حريصاً على أن تكون كلمته خالصة لوجه الله.

*  *  *

كان مولد "محمد جاد البنا" في قرية "كفر دميرة القديم" مناسبة ذات دلالة، ففي هذه القرية ولد ودفن واحد من أشهر أدباء العربية ومفكريها في العصر الحديث، أعني "أحمد حسن الزيات" صاحب "الرسالة" أشهر المجلات الأدبية قاطبة في القرن العشرين، وأكثرها تأثيراً في حياتنا الفكرية والثقافية، وما زالت حتى اليوم مرجعاً للباحثين، ومصدراً للدارسين، وعلى صفحاتها كتب أشهر الأدباء والمثقفين في طول العالم الإسلامي وعرضه بدءاً من الهند حتى موريتانيا، وكانت في كل الأحوال تقود تيار الفكر الأصيل المستنير (بالمعنى الحقيقي للاستنارة الذي يتناقض مع المعنى المزيف الذي يروجه العلمانيون وأشياعهم).

وكان طبيعياً أن يتعلق "البنا" بالزيات، ويكتب في "الرسالة" حين أصدرتها وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1963م، وأن يواصل رحلته الثقافية من خلال القراءة والإطلاع، ويرتبط أكثر بالزيات وأقرانه المشاهير من أمثال العقاد والرافعي وزكي مبارك، ويوطد علاقته بالتراث، ويتابع ما يكتبه المثقفون والأدباء من دراسات معاصرة في مختلف نواحي المعرفة، ويتأهل بعد ذلك ليكون قلماً مسلماً يملك رؤية شاملة يصوغها التصور الإسلامي والمعرفة الأصيلة الواعية بقيم الماضي المضيء وضرورات المستقبل المأمول.

وعبر الصحف والدوريات أخذت مقالات البنا تترى حاملة نبض الأمة وأشواقها، ولعل أكثر الصحف والدوريات التي ظهر إنتاجه على صفحاتها، مجلة الدعوة وجريدة الجزيرة ومجلة المجلة العربية، ومجلة الخفجي ومجلة الهلال وجريدة الأهرام ومجلة الثقافة قبل احتجابها، ومجلة المنصورة، فضلاً عن المجلات الأكاديمية التي تنشر البحوث المتخصصة.

وكان – يرحمه الله – صادقاً في كل كلمة يكتبها، بعيداً عن اللغو والإنشاء والفضول، وكانت موضوعاته الاجتماعية والإسلامية على صفحات "الجزيرة" خاصة، تحمل هموم الناس، وتنوء بأثقالهم، وتشقى بأحزانهم، وتبتهج لمسراتهم، وقد ظل يتابع الكتابة الاجتماعية والإسلامية في الصحف إلى ما قبل أعوام قليلة، حيث بدأ الإرهاق يضيق عليه الفرص الملائمة للكتابة الأسبوعية، فضلاً عن الالتزامات الجامعية التي تقتضي تفرغاً كاملاً، فتوقف عن الكتابة الصحفية.

*  *  *

وقد أسهم البنا في المجال الأدبي من خلال التصور الإسلامي للأدب، وأصدر مجموعتين قصصيتين، أهمهما مجموعة "الفستان والرصاص" وقد تميزت قصصها بالواقعية الإسلامية ومعالجة القضايا الراهنة في إطار فني محكم، وأسلوب أدبي رفيع..

وقد كان – يرحمه الله – عضواً برابطة الأدب الإسلامية العالمية، ومن المؤازرين لها، والداعين لفكرة الأدب الإسلامي. وقد وظف اتجاهه الأدبي الإسلامي في مجال دراسته الأكاديمية، فكانت رسالته للدكتوراه حول السيرة النبوية في القصص التاريخي، وأصل بذلك لجانب مهم من جوانب الأدب الإسلامي، عكف على استجلائه وتمحيصه ودراسته دراسة أدبية ونقدية فاحصة.

وفي بحثه للماجستير قبل ذلك انشغل بالمعارك الأدبية لزكي مبارك وتأثيرها في أدبنا الحديث، فدرسها دراسة موضوعية منصفة، أعطت للرجل حقه، ولخصومه أيضاً حقهم، من خلال وعي ناضج بطبيعة القضايا موضوع الحوار أو المعارك.

ونتيجة لتأثره بالزيات، صاحب "الرسالة" فقد أعد عنه بحثين جيدين، درس فيهما إنتاجه الأدبي، وتأثيره الثقافي، ونشر أحدهما في كتاب ظهرت طبعته قبل عام في الاحتفال الرسمي بذكرى الزيات بمدينة المنصورة، وكان قبل وفاته يعدّ الثاني للنشر، ولعله يرى النور قريباً.
وقد أضاف إلى اهتماماته مجالاً آخر من المجالات الأدبية المؤثرة، أعني مجال أدب الطفل، فكتب مجموعة من القصص التاريخية للأطفال، ذات الدلالة الحضارية المهمة، ونشر منها كتابين الأول بعنوان "ثم جاءته الشهادة" والثاني بعنوان "ومن اليرموك درس آخر".

لقد عاش محمد جاد البنا، كريماً على نفسه، فلم يبتذلها في مواضع التزلف أو النفاق أو التدني وكانت حياته في تفاصيلها الصغيرة مثالاً للإنسان المسلم المكافح.

رحم الله محمد جاد البنا، وأنزله منازل الأبرار والصالحين، وعوض أهله وعارفيه والأمة عنه وعن قلمه خير العوض.