شخصية الشهيد (عز الدّين القسام)

شخصية الشهيد (عز الدّين القسام)

(1300-1354 هـ)

(1882-1935م ) 

عمر محمد العبسو

حياته وجهاده .

ولادته ونشأته :

هو محمد عز الدين بن عبد القادر بن مصطفى بن يوسف بن محمد القسام، من أسرة كريمة في جبلة-من مدن اللاذقية، على الساحل السوري ..

ولد في مطلع القرن الرابع عشر –سنة 1300 هـ / 1882 م  . وُلد لأبوين فقيرين بالمال والجاه، ولكنهما غنيان بإيمانهما، عزيزان بإسلامهما، مستقيمان في سلوكهما، يخافان الله عزّ وجل، فما كانا يأكلان، ولا يطعمان أولادهما إلاّ من الحلال الطيب، وكلّ حلال طيب، حتى لو كان أخشن خشونة من القتاد..وعاش في كنف أبيه الذي تزوج بامرأتين وهما ( آمنة جلول من قلعة المرقب ) ، وأم القسام هي حليمة القصاب من جبلة ) ، وكان والده الشيخ عبد القادر حداداً تقيّاً ورعاً ، ملماً بأصول الدين ، يعلم الأطفال القرآن ، ويعمل أحياناً في الزراعة ، وكان صوفياً قادرياً يعيش عيشة الكفاف .

دراسته ومراحل تعليمه :

وتعلم في (كُتّابه) ما تعلم مع أبناء (جبلة) من القراءة ، والكتابة ، والقرآن الكريم ، وفهم شيئاً من العلوم الشرعية ، كما أخذ عن بعض مشايخ بلدته شيئاً من العلوم العربية والشرعية والحساب ، وتتلمذ على الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل ، والشيخ أحمد الأروادي ، وكان متفوقاً على أقرانه في الحفظ والفهم والوعي ، وآنس منه أبوه ذلك ، فاستخار الله تعالى ، ثم قرّر أن يعلمه في الجامع الأزهر بمصر.

- في مصر:

غادر الفتى عز الدين القسّام بلدته (جبلة) إلى مصر عام 1896 وهو ابن أربعة عشر ربيعاً ، وانتسب إلى الجامع الأزهر ، واستقر في ( رواق الشام ) عشر سنوات ، كان فيها يتلقّى العلم والثورة وتعاليم الإسلام على أيدي علماء الأزهر، ومشايخ مصر الثائرين ، يستمع إليهم بعقله وبقلبه ، ويعي ما يريدون أن يصبوه في قلب الفتى السوري الذي يذكرهم بمواطنه السوري الشهيد سليمان الحلبي ، قاتل كليبر.. كانوا يحدثونه عن الحروب الصليبية ، وعن مظالم نابليون وطواغيته ، وعن احتلال الإنكليز لمصر، وجورهم ، وعن ثورة أحمد عرابي ، ويحدثه تلاميذ المجاهد الثائر المفترى عليه : جمال الدين الأفغاني ، عن أفكار الأفغاني الثائرة ، وعن سيرة حياته.. كان يتردد على مجالس الشيخ محمد عبده ، المفترى عليه أيضاً ، وينهل من ينابيع عقله الكبير علماً، وعقلاً ، ووعياً، وفهماً لمجريات الأمور في العالم الإسلامي الذي يعيش التعاسة ، ويقتات الجهل والبؤس ، ويغرق في بحار التخلف..

تأثر الفتى عز الدين بتلك الأفكار الثائرة التي تحض على التمسك بالإسلام عقيدة وجهاداً ، وتندد بالاستبداد السياسي ، والظلم الاجتماعي ، والتخلف العلمي والحضاري ، والهبوط الأخلاقي ، والاستعمار الغربي الذي كشر عن أنيابه ، وتحفز للانقضاض على ما بقي في بلاد المسلمين من ثروات ، وفي نفوسهم من بقايا دين يجهلون حقيقة ما يريدوه منهم في هذه الحياة، من أجل الحياة الدنيا، والحياة الآخرة معاً..

وتأثر بمدرسة الجهاد التي أنشأها العالم الثائر محمد رشيد رضا، فانطلق- القسام- ينهل من معين العلماء المجاهدين ، ويتابع معهم أخبار العالم الإسلامي ، والحركات الجهادية التي تبذل جهدها لاستنقاذ ما يمكن استنقاذه ، وكان القسام يواكب هذا بقراءات كثيرة وعميقة في كتب العلوم الشرعية والعربية ، وكتب التاريخ ، وسير العظماء ، حتى اكتسب ثقافة عريضة ؛ كانت أوسع من الفسحة الزمنية التي أمضاها في ردهات الجامع الأزهر..

أفاد من بطون كتب التاريخ ، ومن التاريخ الحي على ألسنة العلماء الوعاة وطلبة العلم ، دروساً وعبراً أسقطها على الواقع البائس المعيش ،  فازداد ثورة ولهيباً ، وحزناً وآلاماً من عيشة الخزي والهوان..

لقد امتلأت نفسه بحقائق الإسلام وقضايا المسلمين، فجعلت منه شخصية فذة تتمثل الإسلام عقيدة وأخلاقاً ، وسلوكاً كفاحياً ، فكان- من بعد- حرباً على الجهل والفقر والظلم والتبعية والتخلف والخرافات والبدع ، وداعية إلى الالتزام بالإسلام المصفي ملاذاً وحيداً ، وقاعدة انطلاق للنهوض بالأمة ، وتحدي أعدائها ، والتصدي لألوان الغزو الفكري والحضاري والعسكري الصليبي- الصهيوني اليهودي.

عودته إلى مسقط رأسه :

 ثم قدم من مصر ، وعاد إلى جبلة سنة 1327 -1909- بصحبة الأستاذ عز الدين التنوخي، فأقام قليلاً في جبلة، ثم ذهب إلى تركيا يعظ هناك ، ويرشد ، ويوجه إلى الخير، مدة سنة، عاد بعدها إلى جبلة، وتزوج بالسيدة أمينة نعنوع من جبلة ، فأنجب منها ولداً ذكراً سماه محمد وثلاث بنات هنَّ : عائشة ، وميمنة ، وخديجة ، وبلغت ميمنة درجة عالية من الثقافة في حياة والدها ، وألقت كلمة بليغة في المؤتمر النسائي بالقاهرة سنة 1938م تدل على تمكنها من ناصية البيان .

واستقر القسام في جبلة ؛ ليقوم بنهضة تعليمية فيها واسعة، شملت الصغار والكبار، فكان في النهار يعلم الغلمان، ويقوم بالليل بتعليم الرجال، وكان والده شيخ طريقة صوفية، له مكتب يعلم الأولاد فيه تعليماً صوفياً يقتصر فيه على الأذكار وطرق الصوفية ومناقب المتصوفة وأخبارهم. فجدد الشيخ عز الدّين في طرق التعليم ، وأخذ يعلم القرآن ، والتفسير ، والفقه وما إلى ذلك من العلوم، وفي نفس الوقت أخذ يربي النفوس على تفهم الإسلام ، والعمل به وإقامة الحياة على أسسه .

وكان يدعو الناس وقلبه من وراء لسانه ، وسيرته تؤيد دعوته ، وإخلاصه يظهر في مقاله فاستجاب لدعوته الناس ، وصلحت الأحوال ، وكانت قبل مجيئه بالغة السوء وحصل من الإقبال على الطاعة، والتزام حدود الإسلام، ما كانت النساء معه يخرجن يوم الجمعة إلى السوق دون حجاب ، لا يصادفن من الرجال أحداً ، يذهب الجميع إلى المساجد حتى القائمقام وحتى الحراس ، إلا حارساً واحداً للمساجين .

جهاده :

ولما قام الطليان بغزوهم الغادر لطرابلس الغرب، ووقف المجاهدون العزل أمامهم، يصمدون بإيمانهم للموت لا يفرون ولا يهابون، أخذ الشيخ عز الدين يجمع التبرعات للمجاهدين يثير في الناس عواطف الخير، ويحرك فيهم نوازع الإيمان، حتى اجتمع من التبرعات قدر ليس باليسير ، وانهال الناس على تقديم ما يستطيعون، وقدم الكثيرون،الكثير من أثاث بيوتهم ، وتقدمت الكثيرات من النساء بحليهن للمجاهدين.

وأراد القائمقام –ويسمى حمدي الجلاد- أن يكون هو المشرف على جمع التبرعات، فثار الناس وأبوا ذلك عليه، فكان أن اضطغنها على الشيخ ، وسعى به إلى الأتراك، يزعم لهم أنه يحرض الناس على الثورة عليهم، وكان الأتراك وقتذاك يجلون الإسلام، ويسيرون على هديه فأرسلوا محققاً إلى جبلة وبحث المحقق في الأمر، وحضر دروس الشيخ، فتبين له حقيقة الفرية، وإنها وشاية كاذبة وأن الشيخ إنما يحث على الجهاد ويدعو إلى الوحدة الإسلامية ، وكان أن أقالوا القائمقام.

ولم يكتف الشيخ، ورأى أنه لم يؤد حق إخوانه المجاهدين عليه، حين يقدمون هناك صدورهم لرصاص الكفرة المغيرين فيكتفون بتقديم بعض المال إليهم، كما يساعدون شعباً غريباً عنهم، وكأنهم ليسوا أمة واحدة يجمعهم دين واحد، وتذكر أنه إذا توغل الكفار في أرض المسلمين أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم فيها.. فقام يحث الناس على التطوع ، ويدعوهم إلى الجهاد، حتى اجتمع له من هذه البلدة الصغيرة، عدد من المتطوعين كبير، وذلك لما لمسوا فيه من الصدق والإخلاص فانتقى الشيخ من أقويائهم ومن المدربين على السلاح بينهم مئتين وخمسين من الشباب، ولم يهمل الشيخ عيال هؤلاء المجاهدين، فألف لجنة تتولى الإنفاق عليهم في غيابهم، بحيث يصيب الفرد الواحد من عيال المجاهدين ثلاثة (مجيديات) في كل شهر، وذهب المجاهدون إلى لواء اسكندرون ليبحروا من هناك فلبثوا فيها أربعين يوماً، ولم يتمكنوا من السفر، مما أثار سخط الشيخ الذي كان يتحرق شوقاً إلى الجهاد، وزاد في غضبه أن أمرتهم الحكومة أخيراً بالعودة إلى جبلة، فأنشأ بأموال التبرعات مدرسة لتعليم الأميين في النهار.

وكان الشيخ لا يترك فرصة لجهاد أعداء الإسلام إلا انتهزها فلما قامت الحرب العامة، ساهم فيها، وبقي يجاهد فيما يستطيع من الميادين إلى نهاية الحرب.

وما لبث الفرنسيون عقب الحرب أن دفعتهم الصليبية الغربية، والطمع الأوروبي، إلى غزو سوريا، فثار الشيخ، وألف عصبة من المجاهدين بقيت تقاوم الفرنسيين في منطقة صهيون ، وتحاربهم ، وتنزل بهم الخسائر إلى أن وقعت دمشق بأيدي الفرنسيين وانقطعت عنه إمدادات الذخيرة، فالتجأ قسم من المجاهدين إلى تركيا، وانسلّ الشيخ مع الباقين إلى فلسطين، وذلك سنة 1339هـ-1921م-.

وتابع الشيخ هناك جهاده الذي نذر له حياته، في الميادين الثلاثة: فأخذ أولاً الناس في حيفا، حيث عُيِّنَ خطيباً فيها، يحث الناس على الجهاد، ويحضّهم على الاستعداد، ويثير فيهم الحمية والحماس، وإلى جانب ذلك أخذ يدرّس في مدرسة أهلية ليطبع الجيل الجديد بطابع الجهاد، وينشئهم على خلائق الإسلام، ويعلق قلوبهم بالأمجاد والفضائل والتوق إلى الجنة، ولو عن طريق الموت:

يا شباب الله  هيـا    نحيِ  مجد المسلمينَ

نجرع الموت شهياً    أو نُرى في الظافرينَ

وينفخ فيهم روح الأنفة من الذل، والاستكانة تحت نعال الأعداء مقابل حفنة من حطام هذه الدنيا وسفسافها:

الموت ، والحرية الشـ     ـماء، والشرف المكين

هـي خـير ما نحيا له     وهـي الغنى للمؤمنين

أما المفضَّض والمذهَّـ     ـب والمفوَّف والنضيد

فلـقد تــــــــــــــركناهـا لعبّـ     ـاد الحُـطَام وللعبيـد

ولم يغفل الميدان الثالث، فمع أنه يدرك أن النصر ليس بالجيوش والأسلحة والحلفاء، ويؤمن أنه فقط من عند الله العزيز الحكيم، إلا أنه كان يعلم أيضاً أن الله عز وجل أمر بالاستعداد والتهيؤ والتماس الأسباب، فألف جمعية خاصة لجمع المال وشراء السلاح والتدرب على القتال، وأخذ يذهب إلى القرى يحثهم على التدرب والاستعداد، ويحضهم على شراء السلاح.

وكان قد أتى معه من جبلة ستة من إخوانه، فكانوا يسكنون في بيت واحد، يعملون هم في البحر كعمال، ويعمل هو في وظيفته، حتى إذا أتمها سبقهم إلى البيت فهيأ لهم الطعام ، وقام بما يحتاجون إليه.

وكان إلى هذه الغيرية وهذا الاهتمام بإخوانه، لا يكاد يهتم بحظوظ نفسه، ولا يفكر بطعام لنفسه أو ثياب أو راحة ويرى ذلك أحقر وأتفه من أن يشغل نصيباً من اهتمامه.. فكان في حياته على درجة من البساطة، حتى لقد بقي سنة ونصفاً ينام إذ ينام على حصيرة، ويجعل ما يجد من ملابسه تحت رأسه حتى أتاه أحدهم بفراش.

وكانت زوجته وبناته مازلن في جبلة، محظوراً عليهنَّ الخروج من سوريا. فالتقى الشيخ عز الدين بشيخ مغربي –اسمه مجد العلمي، كان قد هاجر إلى المدينة حين احتلال الفرنسيين للمغرب، ثم خرج بعدها إلى فلسطين –عرض عليه أن يكلف بعض أصدقائه في الجيش المغربي –التابع للفرنسيين –بالوساطة لدى الفرنسيين ليسمحوا لعائلته بالخروج. فرفض الشيخ عز الدين ذلك، متكلاً على الله، رافضاً الاستعانة بالكفار. فسُرَّ الشيخ المغربي منه وقال له:

- إنهم سيأتون إن شاء الله.

- فأتوا بعد مضي خمسة أيام من ذلك.

وكان وإخوانه جميعاً يسكنون مع عيالهم داراً واحدة ويأكلون معاً، بحيث تطبخ كل يوم إحدى النساء للجميع، وكانت تقدم إليه جميع النقود التي يحصل عليها إخوانه فيضمها إلى الوارد الكبير الذي كان يأتيه من التعليم وعقد الأنكحة والوظيفة، فلا يستنفدها في البلاليع الكبيرة لهذه المدنيّة الغربية القذرة رغم أنه لم يكن في بيته أريكة حتى ولا بساط، وإنما كان ينفق اليسير منها عليهم ، ويشتري بالباقي أسلحة للجهاد، وهذا كان دأبه منذ القديم، حتى إنه لما كان في جبلة، كلف أحد إخوانه أثناء قتاله للإفرنسيين، أن يبيع له داره، فاشترى بثمنها أربعاً وعشرين بندقية.

الإمام الرباني :

وكان كثير العبادة ، يحرص على صلاة الجماعة ، والقيام قبل الفجر للتهجد ، والأذكار بعد الصلاة ، والصيام.. وكذلك كان أكثر إخوانه عبادة. وبجده وأدبه أصبح إخوانه متعلمين واعين، بعد أن كان أكثرهم أميين.

وكان عندما يزور المزارعين يساعدهم في السقي وحمل الماء والحراثة كما كان يَنْهَى في خطبه ودروسه رجال القرى عن تشغيل نسائهم بالفلاحة وجلب الحطب.

وطلبت إليه الحكومة تعليم الموظفين العرب، اللغة العربية في الليل.. فرأى أحدهم مرة ثملاً ، فصفعه على وجهه وطرده ، ورفض التعليم إلا بشرط أن يوافق على كل موظف ، وألا يدخن أحد أثناء الدرس.

عقيدته ودعوته وتصوفه :

وكانت طريقته قادرية، ولكنه لم يكن يسير فيها مغمض العينين بل يأخذ منها الخيّر المفيد مما وافق الكتاب والسنة، ويترك ما رابه منها، ولم يكن يدعو أحداً إلى طريقته، بل كان يحارب البدع ، ويدعو إلى تركها، وقد أبطل كثيراً مما كان يُصنع على المآذن وفي المساجد من بدع، مما أثار عليه بعض الجهال والمسترزقين بالبدع، فكادوا له حتى عُزل عن الخطابة، ولكنهم خُذلوا، فأعيد الشيخ رغم أنوفهم، وجربوا سهماً آخر، حين صعد أحد الخطباء مدفوعاً منهم، ولكن الناس أنزلوه، وصعد الشيخ..

جرأته وقوله الحق دون خشية أحد :

وكان لا تأخذه في الحق لومة لائم، فقد طلب منه عندما مات عباس البهاء –وهو كغلام أحمد القادياني رأس فرقة من فرق الضلال التي تتمسح بالإسلام – أن يؤبِّنَه، فرفض فطلبوا إليه أن يخرج على الأقل، فأبى، وخطب منكراً على كل من مشى في جنازته أو حمده. وعند إقامة نصب (عمود فيصل) الذي أقامته الحكومة الإنكليزية رفض الحضور أو إلقاء كلمة.

وقامت سنة 1347 هـ ثورة، خُشي معها أن يهجم اليهود يوم الجمعة على الجوامع، فطلب أحد المشايخ من الإنكليز حراسة المساجد، فأرسلوا الجنود لذلك، فغضب الشيخ، وخطب بأن المسلمين لا يجوز أن يحفظهم عدوهم الكافر من عدو آخر والواجب أن يحفظوا هم أنفسهم، فحدثت ضجة وطلبه الإنكليز فحققوا معه، فأضربت البلد مما اضطرهم إلى إخلاء سبيله.

وتابع الشيخ عمله في الاستعداد حسب خطة محكمة للقيام بحركة للجهاد واسعة، وكانت له قدرة عظيمة على بث دعوته واستمالة الناس إليه بإيمانه الصادق، فكثر أتباعه في شمال فلسطين عامة وفي حيفا خاصة، وكان يذهب إلى كل بلد وفد يقيم في بعض البلدان أياماً، يتعرف إلى الذين لديهم الاستعداد للثورة، فينظمهم، ويجعلهم يشترون للفقراء منهم البنادق التي يحتاجونها، ويعين لكل فئة منهم رئيساً ليتلقى التعليمات والوقت الذي تحدث فيه الثورة، فقد كان في نيته أن تقوم الثورة في كل أنحاء فلسطين بآن واحد.

وعندما رأى –سنة 1354- أنَّ وقت الثورة قد حان، ترك الوظيفة، وخطب في مسجد حيفا خطبة مشهورة، دعا فيها إلى الخروج للقتال، واندفع على إثرها إلى الجهاد مع إخوانه، وكانت لهم مواقف رائعة، وكان مما قاموا به أن قتلوا حاكم لواء الناصرة وبعض كبار قواد الإنكليز وكانوا خلال ذلك يتدربون على القتال، ويحثُّون الناس على الاستعداد وحمل السلاح.

مدرسة القسّام:

إنها مدرسة الرسول القائد، صلى الله عليه وسلم.. مدرسة جمعت بين التربية والجهاد، فهر يربّي أبناءها على حب الموت في سبيل الله، والجهاد من أجل نصرة دينه، وتحرير مقدساته، وكل الأرض الشامية مباركة مقدسة، بل كل بلاد المسلمين تفرض على المسلمين أن يذودوا عنها عدوان المعتدين، وأن يبذلوا في سبيل تحريرها من أيدي الغاصبين كل غالٍ ونفيس.. لذلك رأينا القسام يبيع بيته في (جبلة) ويشتري به سلاحاً يوزعه على المجاهدين لقتال الاستعمار الفرنسي، وتحرير سورية الشمالية منه، وطرد جيشها المحتل لأرضها..

وفي حيفا وفّر ما استطاع من مال، واشترى به السلاح، ودرّب المجاهدين عليه، ثم سلحهم به.. طاف كثيراً من القرى، وتعرف إلى الناس، واصطفى منهم صفوة اعتمد عليهم، وربّاهم على الدين والفضيلة، وعلى الزهد والعفة، وعلى حب الإسلام ونبيّ الإسلام، وعلى الجهاد سبيلاً للتحرير، وعلى حب الموت في سبيل الله، وترك المظاهرات والمؤتمرات والمفاوضات للزعامات اللاهثة وراء الحلول السلمية والاستسلامية، ترك لهم الشعر والشعراء، والخطب (العصماء) والعواطف البلهاء، وأكبّ على التخطيط والعمل والتنفيذ بسرية وكتمان وعمل دؤوب لتكوين نواة حركة جهادية، وسهر عليها، ولم يضيع شيئاً من الوقت، ولم يبخل بمال أو جهد أو راحة عليها، فقد كان يعلم أنه في سباق مع الأعداء ومع الزمن، مع وعي تام لكل ما يتطلبه السباق من أسس علمية سليمة، ومن مبادئ إسلامية تحدّد له الغاية والأهداف والوسائل النظيفة المتاحة على أرض المعركة..

لقد بذل القسّام من الجهد والوقت والمال كلّ ما كان عنده، ولم يستبق منه لنفسه ولأسرته شيئاً.. كان يخرج مع تلاميذه ليلاً.. يخرجهم إلى الخلاء.. إلى المقالع الحجرية التي جنّد أكثر العاملين فيها، ومعه المدرّب والمدربان، ليعلموا المجاهدين فكّ السلاح، بارودة كان أم مسدساً، وعلى تركيبه، وعلى تنظيفه وصيانته، وعلى استخدامه والتصويب به.. بدأ من نقطة الصفر معهم، ليكون البناء سليماً قائماً على أسس سليمة، حتى يدوم ويستمر إلى ما شاء الله، إلى النصر والتحرير..

وكان تلاميذه يزدادون تعلقاً به، وحبّاً له ولما يدعو إليه، فقد رأوا فيه القدوة العملية، والمسلم الحق الذي يطابقون بينه وبين ما علمهم وما عرفوا من سمات القادة الربانيين..

كان القدوة في التضحية والبذل والعطاء.. كان لله وفي الله، فكانوا كذلك معه. ولهذا تحملوا حزمه وشدته في التدريب على السلاح في سائر الأحوال، وعلى الاخشيشان والمشاق.. يأمرهم أن يخلعوا أحذيتهم ويمشوا حفاة فوق الأشواك والصخور، وأن يتسلقوا الأشجار والجبال، فتكون المسارعة إلى طاعة الأوامر بحبّ وطيب نفس.. يأمرهم بالنوم في العراء في الليلة الباردة والمطيرة، ويمنعهم من تناول الطعام والشراب، فينامون بلا وطاء ولا غطاء، ولا طعام ولا شراب، استعداداً لما سوف يستقبلهم ويستقبلون من أيام عوابس، وليالٍ عجاف.. وكان من أقسى ما يؤمرون به، أن يناموا في بيوتهم على الحصير، وزوجاتهم ينظرن إليهم يفعلون هذا مرة أو مرتين في الأسبوع، ويطلبن تفسيراً لهذا التصرف الغريب، وكأنه هجران في المضاجع، فيسكت الواحد منهم، ولا يستطيع إفشاء السّر الذي ائتمنه عليه الشيخ القائد الآمر.

كان المبدأ الذي يعتمده شعاراً وسلوكاً، ويأمر خاصته به: علنية الدعوة، وسرية التنظيم.. وعلى هذا نشط في زيارة القرى، والاحتكاك بأهلها، يلقي دروسه ومحاضراته في مساجدها ومضافاتها وفروع جمعية الشبان المسلمين التي يرأسها، وكانت كلماته تشقّ طريقها إلى القلوب فتأسرها.. تعلمهم الإسلام وما ينبغي أن يتحلى به المسلم من عزة وكرامة وإباء، وكيف يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وعرضهم ودينهم ضد الغزاة من اليهود والإنكليز المستعمرين المحتلين، وكان - في الوقت نفسه - يعرف كيف يختار أعوانه ومساعديه ممن يتوسم فيهم الإيمان وما يستتبعه من صدق وإخلاص وتضحية وجهاد في سبيل الله.. ينظمهم، ويفكر معهم في الطريقة المثلى للتحرك في مناطقهم بسرية وكتمان، حتى استطاع أن يبثّ القيادات ويوزعهم في كثير من القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، بل وصل تنظيمه هذا إلى مدينة اللاذقية في سورية، لتكون قاعدة التسليح فيها.

وهكذا استمر خمسة عشر عاماً يخطب ويحاضر ويحض على الجهاد، ويحث على التضحية والبذل والجود بالمال والروح، وكان يشتري السلاح سراً، ويدرب عليه من وقع اختياره عليه من الأتباع، ثم يأمر أعوانه بتدريب من يرونه أهلاً لحفظ السر والكتمان، على السلاح وعلى القتال، ويأمر من يلقاه من أصحاب الحمية والدين باقتناء السلاح، تمهيداً للقيام بثورة حدد أهدافها الثلاثة مسبقاً وهي:

1 - تحرير فلسطين من الاستعمار الإنجليزي الذي يعد العدو الأول للفلسطينيين ولسائر المسلمين، لأنه وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين عبر وعد بلفور المشؤوم عام 1917م وسمح بهجرة عشرات الآلاف منهم إليها، ودرب شبابهم، وسلحهم، وتغاضى عن السلاح الذي كانوا يستوردونه من أوروبا وروسيا.

2 - الحيلولة دون تحقيق آمال اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وإنشاء دولة يهودية على أرضها، مهما كلفهم من جهد ودماء وأموال ومتاعب.

3 - إقامة دولة عربية إسلامية في فلسطين، تكون نواة لدولة الوحدة التي تجمع العرب والمسلمين وكان شعاره في حركته: (هذا جهاد.. نصر أو استشهاد) يدور على ألسنة المجاهدين في فلسطين.

كان الشيخ عز الدين يعمل في سرية وتكتم، ولا يطلع على خطته إلاّ خاصة أعوانه ومساعديه الذين كانوا يخططون معه للعمليات التي ينفذونها ضد ثكنات الإنجليز، ومستوطنات اليهود القادمين من الخارج ليلاً، ثم يعودون إلى أعمالهم نهاراً، ويستأنفون أعمالهم العادية، فلا ينتبه لهم أحد.

استشهاده :

وفي إحدى جولاته مع بعض إخوانه، حيث كانوا يتدربون في الجبال – قرب قرية فقوعة- مر شاويش يهودي مع ثلاثة من الجنود العرب في الطريق، فقال الحارس المكلف بالمراقبة –واسمه محمود السالم –لزميل له- يسمى حسن الباير – أن يخبر الشيخ أن هناك كافراً يمر في الطريق فهل يأمر الشيخ بقتله؟ ولما ذهب هذا وجد الشيخ نائماً، فكره أن يزعجه زاعماً أن روح كافر لا تستحق إيقاظ الشيخ، فعاد وقال لزميله: اقتله. وعندما استيقظ الشيخ ساءه ما فعلوا، وأمر بالانتقال فوراً. وعندما علمت الحكومة بالأمر أخذوا يتعقبونه بقوة كبيرة تزيد على خمسمائة جندي تحوم من فوقهم الطيارات، وتصحبهم السيارات المدرعة، حتى حاصروا المجاهدين في جبال يعبد قرب جنين وطلبوا إليه الاستسلام فأبى، وكان عددهم أربعة عشر رجلاً، ودارت معركة حامية استمرت ثماني ساعات – من الفجر إلى العاشرة صباحاً –انجلت عن مقتل أربعة من المجاهدين، هم: الشيخ عز الدين القسام ، والشيخ عمر حسن السعدي ، والشيخ يوسف عبد الله ، والرابع مصري يسمى حنفي. وقبضوا على الباقين ومنهم الشيخ أبو درة، والشيخ داود الخطاب –ويقيم الآن في دوما –وكان ذلك يوم الأربعاء 23 شعبان سنة 1354. وفي اليوم الثاني، الخميس، دُفن الشهداء بموكب ضخم، وأضربت البلد –حيفا- إضراباً عاماً لم تعرف مثله، وزاد عدد الجماهير التي شيعتهم على ثلاثين ألفاً، وقد خرج الموكب بعد الصلاة عليه في الجامع الكبير عند الظهر فلم يصل إلى المدافن إلا في الخامسة مساءً.

غداً تُـوَفَّى النفسُ ما كسبتْ     ويحصد الزارعون  ما زرعوا

إن أحسنوا، أحسنوا لأنفسهم     وإن أساؤوا، فبئس مـا صنعوا

ومما يذكر عن المعركة أن الشيخ أمر بعدم إطلاق الرصاص على رجال البوليس الوطني الذين كانوا في المقدمة ووراءهم الجنود البريطانيون، ولما اقتربت القوة العسكرية منهم، ألحوا ثانية على الشيخ بأن يأمرهم بإطلاق الرصاص على الصفوف الأولى فأبى ، ولذلك لم يقتل ولم يجرح أحد من الوطنيين وقد قال الشيخ لرجاله :

- يجب أن لا تطلق رصاصة على أحد من أهل البلاد ولو كان هو البادئ بإطلاق النار علينا.

( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقّاها إلا الذين صبروا ، وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم ) . فصلت -34،35.