إلى الفردوس الأعلى .... يا أبا إسلام

إلى الفردوس الأعلى .... يا أبا إسلام

في وفاة أ. د. على قاسم

د. محمود السيد حسن داود

أستاذ العلاقات الدولية بكلية الشريعة والقانون بدمنهور

جامعة الأزهر وكلية الآداب جامعة البحرين

هدوء حتى فى موته، واطمئنان حتى فى يوم رحيله، السكينة كانت تلازمه، والسكون أو الوقار كان يرافقه، وحب الخير ونفع الغير كان ديدنه، والشموخ فى العلم كان هدفه، والإمامة فى العمل كانت سمته، والإخلاص كان خلقه، والهدوء كان طبعه، والتواضع كان زينته، والتجلد والثبات كان يقطر منه، ولأنه كان لا يحب الضجيج رحل إلى الله عز وجل فى صمت، وودع الدنيا مبتسما دون صخب، لأن ابتسامته معنا ومع كل زملائه ومحبيه كانت لا تفارقه، ولقى الله عز وجل راضيا مرضيا .

 إنه أحد فرسان كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الأزهر بدمنهور، كان زهرة عاطرة من أزهارها التى نبتت فى بستانها، ووردة فواحة ذات رحيق خاص فى محرابها، وثمرة يانعة من ثمارها، تخرج منها فى دراسته الجامعية وكان من أهم المميزين والبارزين فيها عام 1987، ثم أعيد غرسه فى مرحلة الدراسات العليا، بعد أن عين معيدا فيها، واختار له القدر قسم الفقه المقارن الذى لا يبرز فيه ولا ينبغ إلا الأفزاز، وظل مبحرا فى محيطاته، غائصا فى أعماقه، يستخرج الكنوز والدرر، ويحقق فى مسائله، ويدقق فى اتجاهاته ومذاهبه، ويصارع الأمواج ويسارع فى الفجاج، حتى وصل إلى أعلى الدرجات العلمية في تخصصه، وترك لطلاب العلم عموما وأبنائه وتلاميذه خصوصا الكثير من أبحاثه العلمية الرائقة، وكتبه الشائقة، بل وتربع على عرش قسم الفقه المقارن بكليته ... إنه المرحوم والمغفور له بإذن الله تعالى أ. د. على قاسم .

لقد كان يحلو لمثلى أن يناديه بكنيته " أبو إسلام " حينما كان يصفو لنا الجو فى حجرة أعضاء هيئة التدريس، أو فى أماكن ومدرجات المحاضرات، أو فى أوقات الامتحانات وأثناء عمل الكنترولات، خاصة عندما كان يقضى معنا الساعات الطوال بعد الدوام الرسمى لمراجعة الكراسات ورصد الدرجات، ولم يكن يلفت نظرنا فى هذا كله، شيء أو عمل، مثل إخلاصه فى عمله وتفانيه فى إنجاز مهمته، وضرب أعظم المثل فى الالتزام بالعبادات والطاعات نحو ربه، وفى الإتقان والجودة نحو عمله، وفى الإخاء والوفاء نحو إخوانه وزملائه، وفى البذل والعطاء والكرم والسخاء مع من يعاونه فى عمله أو يرافقه فى دربه، فكان بحق أبا إسلام عملى، وأبا دين ربانى .

وفى غفلة منى وأنا فى مملكة البحرين، وبينى وبينه المسافات والمساحات والكيلومترات، ذهب أبو إسلام إلى ربه وخالقه، ذهب إلى أرحم الراحمين وأعظم الرازقين وخير الوهابين وأفضل الغافرين، وأحسن المحسنين، ذهب لمن كتب على نفسه أن يرفع أهل العلم وأن يبسط لهم الدرجات فقال : " .... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " المجادلة11 " ذهب وخلّف لنا ولكل إخوانه وأبنائه وطلابه ومحبيه ألم الفراق ووجع الرحيل وفقد الأحباب وبعد الصحاب، وثلمة لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار . لقد تشابه فى رحيله مع توأم النفس وشقيق الروح وهو أبو إسلام أيضا الأخ المرحوم صبرى الميت الذى رحل دون أن أودعه وأسلم عليه السلام الأخير أيضا، وعندما قبر تخيلت أن نصفى تحت الأرض ونصفى الآخر فوقها، وبعد أن ووريت الثرى يا دكتور على يا أبا سلام لا أدرى ما الذى أبقيته لى من هذا النصف الآخر. ومن العجب أن الأحباب يتشابهون لا فى الأخلاق والطباع والقيم فقط، ولكن حتى فى يوم الرحيل وفى طريقة الوداع.

 إننا ونحن ندمع عليك يا أبا إسلام، نوقن بأن الكثير قد بكى عليك، لا من الأهل والأبناء، أو من الأحباب والأصدقاء فقط، بل بكاك بيتك وبلدك وقريتك وكليتك وجامعتك وكتابك وقلمك ومكتبك وموضع سجودك ومصعد عملك وأذكر فيك حديث النبى صلى الله عليه وسلم عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، بَكَى عَلَيْهِ مُصَلَّاهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] "

أعزى فيك يا أبا إسلام، ولدك إسلام وكل أبنائك وأشقائك وأحبابك وجيرانك، بل وأعزى نفسى وأعزى عميد كليتك صاحب الخلق الرفيع والمقام الجليل فضيلة أ. د. إسماعيل عشب، وأعزى فيك أساتذتك العلماء العاملين، وكل زملائك المخلصين ورفقائك الطيبين، وكل الإداريين والعاملين فى كلية الشريعة والقانون بدمنهور بل وفى كل جامعة الأزهر. ولا نقول إلا ما يرضى ربنا سبحانه، له ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الفردوس الأعلى يا أبا إسلام.